صحيفة المثقف

حول تصاعد الدعوات لضم العراق إلى منظمة التجارة العالمية (3)

حسين سرمك حسنقطار موت سحق 250 مليون مزارع قطن في أفريقيا

ترجمة وإعداد: حسين سرمك حسن


الطريق الوعر أمام قطار الموت لمنظمة التجارة العالمية

في أواخر نوفمبر 1999، اجتمع 134 دولة أعضاء في منظمة التجارة العالمية في سياتل، واشنطن، لعقد مؤتمر قمة وزاري ثالث لتحديد الخطة المستقبلية لمنظمة التجارة العالمية. وسعت معظم الشركات لفرض توسع كبير في قواعد عمل منظمة التجارة العالمية لتغطية الخدمات التعليمية والصحية وأيضا لترسيخ حقوق جديدة للمضاربين بالعملة والمستثمرين الأجانب (لتضم لمنظمة التجارة العالمية اتفاقا متعدد الأطراف بشأن الاستثمار - MAI). وكان الهدف الرئيسي من مؤتمر سياتل الوزارى هو الحصول على اتفاق للبدء بمفاوضات جديدة لتوسيع نطاق صلاحيات منظمة التجارة العالمية لتشمل قطاعات خدمات جديدة، مثل الصحة والتعليم؛ وتوسيع القواعد المتعلقة بالمشتريات الحكومية لجميع أعضاء منظمة التجارة العالمية، أولا من خلال إلزام جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بالإعلان العلني عن قوائم مشترياتها، والموافقة على إجراء مفاوضات في المستقبل بما يحد من قدرة الحكومات على اتخاذ قرارات على أسس غير تجارية؛ والتوقيع على اتفاقية "القطع الحر للأشجار" التي يمكن أن تزيد إزالة الغابات بنسبة 4٪ سنويا، وإطلاق مفاوضات جديدة حول حماية منظمة التجارة العالمية لمنتجات التكنولوجيا الحيوية (مثل المحاصيل المعدلة وراثيا). والمزيد من تحرير التجارة الزراعية.

لكن تحالفا عالميا لجماعات المواطنين (ائتلاف سياتل) - المستهلكين والدينيين والبيئيين والعمال والأسر الزراعية ..الخ - تحت شعار "لا جولة جديدة، ارجعوا" سدّ الطريق وأوقف زخم هذه المنظمة القوية. ومن الصعب أن نبالغ في أهمية هذا الاحتجاج المعروف باسم (معركة سياتل) الذي يمثل أول مظهر من مظاهر المقاومة العالمية ضد الليبرالية الجديدة وجشع الشركات.

وبعد تعطل الجهود المبذولة لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات التجارية في اجتماع سياتل الوزاري، كشفت منظمة التجارة العالمية مرة أخرى عن طبيعتها غير الديمقراطية عن طريق نقل الاجتماع الوزاري لعام 2001 إلى قطر، حيث المملكة النائية التي تقمع الاحتجاجات الشعبية بقسوة.

الاحتجاجات التي ساهمت في انهيار اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل شجّع بعض حكومات دول الجنوب على أن تكون أكثر صراحة في تحديها للإجراءات والمقترحات الضارة بالمصالح الوطنية من قبل منظمة التجارة العالمية. فمعظم البلدان الفقيرة لا تتمتع بالكثير من الفائدة من العولمة الاقتصادية. بعد ثلاثة عقود من الجرعات القوية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأكثر من عقدين من سياسات منظمة التجارة العالمية، أدرك الكثيرون أن العولمة (الاقتصادية) هي بمثابة وعد كاذب، وأن سياسات هذه المنظمات مصممة لصالح البلدان الصناعية الغنية والشركات الخاصة عبر الوطنية. لهذا السبب، فإن العديد من الدول الفقيرة في العالم (وخاصة من منطقة البحر الكاريبي وآسيا) - وقفت وبقوة موقفا معارضا لمنظمة التجارة العالمية في سياتل وفقط وافقت على مضض على اجراء مزيد من المحادثات التجارية في الدوحة....

في نوفمبر 2001 عقد الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدوحة. أعلنت منظمة التجارة العالمية مرة أخرى وبصورة صريحة عن نيتها لإنفاذ أهداف الاجتماع الوزاري في سياتل (الأهداف مذكورة أعلاه)، لجلب الاتفاق المتعدد الأطراف بشأن الاستثمار (MAI) إلى حيز التطبيق، وإلى تقنين الاتفاقات البيئية المتعددة الأطراف (MEA)، وبالتالي القضاء على جهود أجيال من البشر. هذه المحاولات كانت تُعارض بشدة من قبل معظم البلدان النامية (بما في ذلك التجمعات الإقليمية)، التي تجادل بأن (أ) أنها لم تكن مستعدة للدخول في مفاوضات أو النظر حتى في اتفاقات بشأن هذه القضايا؛ (ب) أنها لم تفهم بشكل كاف الآثار المترتبة على القضايا المقترحة؛ و(ج) من الفهم المحدود الذي تمتلكه، فإنها تشعر بقلق بالغ من أن اتفاقات جديدة في هذه المجالات من شأنها أن تضيف التزامات جديدة إلى التزاماتها الثقيلة الموجودة أصلا وتزيد من تقييد آفاق تنميتها.

انتهى اجتماع الدوحة بلغة مُربكة في الدعوتين لجدول أعمال تجارة أكثر عدلا للدول النامية والرغبة في قضايا جديدة من قبل الدول المتقدمة. لكن شيئا واحدا كان مؤكدا وهو أن "قطار الموت" لمنظمة التجارة العالمية سوف تتم عرقلته عاجلا أو آجلا.

هل سيخرج قطار الموت عن مساره؟

في الاجتماع الأخير في الدوحة، أصرت البلدان النامية على أنه إذا كانت جولة أخرى من المفاوضات التجارية سوف تبدأ، يجب الإستماع إلى مخاوفها - وحققت بعض التنازلات الملحوظة. مع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، حصلت البلدان النامية على صوت قوي إلى جانبها، على الرغم من أن مصالح الصين ومصالح الكثير من الدول النامية الأخرى لا تتطابق تماما. عقدت منظمة التجارة العالمية اجتماعها الوزاري الخامس في كانكون، بالمكسيك، في سبتمبر 2003. وفي جدول الأعمال كانت هناك مجموعة من القضايا المتفق عليها في الدوحة. من ناحية أخرى، كان الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة يواصلان الضغط من أجل توسيع صلاحيات منظمة التجارة العالمية لتشمل قضايا جديدة، مصرين على أن التعامل مع هذه القضايا يجب أن يكون في المقدمة قبل قضايا التنمية التي كان ينبغي أن تكون على رأس جدول الأعمال. من بداية المؤتمر، تبرأت الدول الغنية من أجزاء كبيرة من جدول الأعمال الذي اُقرّ في الدوحة. الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، نفى أن يكون قد وعد في أي وقت مضى بالتخلص من دعم الصادرات. بقيادة الهند، نفى العديد من البلدان الفقيرة أن تكون وقّعت في أي وقت مضى على اتفاق لاجراء محادثات بشأن قواعد جديدة. أنفقت دول فقيرة أخرى المزيد من الوقت وهي تشتكي من تأثيرات الجولات التجارية السابقة أكثر مما أنفقته في التفاوض على اتفاقات جديدة. أظهر العديد من البلدان الغنية جدا القليل من الاهتمام بالإتفاق على حلول وسطية. اليابان، على سبيل المثال، كانت راضية ببساطة لقول "لا" لأي تخفيضات في الرسوم الجمركية على الأرز.

وكان السبب المباشر لانهيار المحادثات هو فشلها في حل الخلافات الخطيرة بين الدول الغنية والفقيرة. وقال العديد من البلدان النامية، بما في ذلك أفريقيا والكاريبي ومجموعة المحيط الهادي (ACP)، والاتحاد الأفريقي، وأقل البلدان نموا والدول الآسيوية أنها ترغب في أن لا يناقش المؤتمر قضايا سنغافورة (القضايا الناشئة عن مؤتمر سنغافورة في ديسمبر 1996 تتعلق بالاستثمار والمنافسة والمشتريات الحكومية وتسهيل التجارة). وقفت البلدان النامية وقفة صلبة حتى بعد أن وافق الاتحاد الأوروبي على إسقاط اثنين من هذه القضايا من جدول الأعمال والاحتفاظ بقضية تسهيل التجارة، وقضية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وموضوعة الشفافية في المشتريات العامة. وقال روبرتو بيسيو، مدير المرصد الاجتماعي القائم  في أوروغواي، أن هذا لم يكن مفاجئا. اتفق على أن جدول أعمال الدوحة للتنمية الذي أُقر منذ عامين في العاصمة القطرية قد أكد بوضوح أن قضايا سنغافورة ستناقش فقط بعد أن يتم التوصل إلى "إجماع واضح". إلا أن من الواضح أن هذا لم يحدث.

بقيادة البرازيل والصين والهند، أصبح لما يسمى بمجموعة الـ G21 صوتا قويا. إنها تمثل نصف سكان العالم وثلثي مزارعيه. وكانت منظمة تنظيما جيدا ومهنيا. على الرغم من أنها شملت مصالح متنوعة - الهند، على سبيل المثال، تشعر بالرعب من تخفيض الرسوم الجمركية على السلع الزراعية، في حين أن البرازيل، وهي مصدر كبير وتنافسي، يريد التجارة الحرة في أسرع وقت ممكن – فإن مجموعة G21 وقفت معا لتوصل رسالة موحّدة: الدول الغنية، بصفتها الداعمين الزراعيين الأكثر إسرافا، يجب عليها بذل جهود أكبر لخفض الدعم وتحرير تجارة المنتجات الزراعية. لقد ظل مستوى الدعم المقدم للمزارعين من قبل الدول الغنية دون تغيير (أكثر من 300 مليار دولار) على مدى السنوات الـ 15 الماضية.

1862 العولمة

* تدمير حياة 250 مليون مزارع قطن في أفريقيا

 “بينما تلقت المعركة بين أوروبا وأمريكا ومجموعة G21 أكبر قدر من الاهتمام، فإن تحالفا آخر من البلدان الفقيرة، معظمها من أفريقيا، كان قلقا أيضا على الزراعة، ولكن لأسباب مختلفة. انهم يخشون من أن تحرير تجارة المنتجات الزراعية سيعني فقدان التفضيلات الخاصة. (المستعمرات الأوروبية السابقة، على سبيل المثال، تريد الحصول على تسهيلات خاصة للوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي لمحصول الموز الخاص بها) وغيرها الكثير، وخاصة مجموعة صغيرة من الدول في غرب أفريقيا، قلقة بدرجة أكثر من أي شيء حول محصول القطن. وبحَثٍّ وتشجيعٍ من المنظمات غير الحكومية، وخاصة منظمة أوكسفام، مجموعة من أربعة بلدان في غرب أفريقيا هي بنين وبوركينا فاسو وتشاد ومالي - تمكنت من الحصول على إدراج القطن ضمن بند صريح على جدول الأعمال في مؤتمر كانكون. كانت شكواهم بسيطة، ولها ما يبررها. يتم سحق مزارعي القطن في غرب افريقيا عن طريق دعم الدول الغنية لمزارعي القطن لديها، وخاصة أكثر من 3 مليار دولار سنويا التي تقدمها الولايات المتحدة لمزارعي القطن لديها (25000 مزارع قطن) لمساعدتهم على أن يكونوا أكبر مصدر للقطن في العالم، مما أدى إلى خفض أسعار القطن وتدمير السوق العالمية. البلدان الأربعة في غرب أفريقيا تريد نهاية سريعة لهذه الإعانات والتعويض عن الضرر الذي تسببت به. وعلى الرغم من أنها قضية صغيرة مقارنة بالحجم الكلي لقضية الدعم الزراعي، فإن قضية القطن (مثل الصراع السابق على حق الدول الفقيرة في الحصول على أدوية رخيصة) يُنظر إليها على أنها اختبار لما إذا كانت جولة الدوحة قد ركزت حقا على الفقراء.

قبل مؤتمر كانكون، كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد توصلا إلى اتفاق على الزراعة وهو اتفاق يؤدي في الواقع إلى إجبار الجنوب على مواصلة تفكيك الحواجز التجارية، في حين يرفضان تخفيض دعم الصادرات الزراعية الأمريكية والأوروبية. وكانت مجموعة من 21 بلدا ناميا قد طرحت اقتراحا مضادا، يصر على إلغاء دعم الصادرات التي تقتل المزارعين في العالم الثالث قبل مزيد من خفض التعريفات الجمركية. كان هناك جمود وإخفاق بشأن الزراعة في النصين. وعندما أصدرت منظمة التجارة العالمية مشروع إعلان بهذا الشأن، فإنه لم يعكس أيّا من مخاوف دول الجنوب. ما هو أسوأ من ذلك، فإن الطلب من الدول الأفريقية المنتجة للقطن لحمايتها من الأضرار الناجمة عن إغراق السوق بالقطن من الولايات المتحدة تمت الاستهانة به  وتحويله إلى فقرة تشير إلى أن على الأفارقة أن يتخلوا عن إنتاج القطن. وقد زاد الدعم الأمريكي لإنتاج القطن والصادرات إلى 4 مليارات دولار بعد قانون الزراعة الأمريكي الجديد.

في عام 2001، كانت تكلفة إنتاج القطن في الولايات المتحدة 9313،0 دولار/بوشل، في حين أن سعر التصدير هو 3968،0 دولار/ بوشل، أي أن نسبة الإغراق هي 57 في المائة. هذا وقد ارتفعت من 17 في المائة في عام 1995. منظمة التجارة العالمية تشجع إغراق السوق من قبل دول الشمال في حين تمنع البلدان الفقيرة من حماية أنفسها من الآثار المدمرة لهذا الإغراق. وقد زاد مشروع القانون الزراعى الامريكى الدعم للمزارعين إلى 82 مليار دولار. وأتاح قانون الزراعة الأمريكي الجديد لعام 2002 للحكومة الامريكية أن تدفع لمزارعي القطن لديها الفرق بين سعر السوق العالمي، 1.23 دولار للكيلو الواحد، والسعر المثالي 1.57 دولار للكيلو الواحد. مزارعو القطن في الولايات المتحدة يحصلون على 3.9 مليار دولار، وأكثره يذهب إلى مزارعي الشركات العملاقة. مع هذه الإعانات، فإن الولايات المتحدة تضاعف صادرات القطن وتدمر سبل العيش والدخل لـ 250 مليون من مزارعي القطن في أفريقيا.

لكن مشروع النص الذي ظهر في منتصف الطريق من خلال اجتماع كانكون كان خيبة أمل كبيرة. كانت الوعود عن القطن غامضة، وتتعهد منظمة التجارة العالمية بالمراجعة عن قطاع المنسوجات، ولكن دون أي ذكر لإلغاء الدعم أو التعويض. والأسوأ من ذلك، فإنه أشار إلى ضرورة تشجيع بلدان غرب أفريقيا على مغادرة زراعة القطن نهائيا. وكان هذا الموقف المتشدّد يحمل البصمات الأمريكية كاملة. جعلت الحقائق السياسية في الكونغرس (رئيس لجنة الزراعة في مجلس الشيوخ هو حليف وثيق لمزارعي القطن) المفاوضين الأميركيين يدافعون بشراسة عن الدعم الفاحش.

بالنسبة للأفارقة، كان النص الغامض ضربة كبيرة. ونتيجة لذلك، ثبتت أفقر البلدان أقدامها في الأرض عندما جاءت المناقشات إلى المنطقة المثيرة للجدل الكبيرة الأخرى: أن تشمل المفاوضات التجارية أربع قضايا جديدة من قضايا سنغافورة. وليس ذلك فقط. قادت البلدان الأفريقية انسحاب عدد من أعضاء منظمة التجارة العالمية الذين كانوا غاضبين على رفض المنظمة والدول الغنية لإزالة الأضرار والإجحاف في التجارة ومحاولة الأغنياء فرض تخصصات جديدة على المنافسة الاستثمارية والمشتريات الحكومية وتسهيل التجارة.

ما أرادته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مؤتمر كانكون هو أن يستمر الحق في الإغراق، وتستمر التجارة غير العادلة لدعم مصالحهم الزراعية للاستيلاء على الأسواق العالمية من خلال قواعد منظمة التجارة العالمية في الوصول إلى الأسواق. وهذا ما تم تصميم منظمة التجارة العالمية للقيام به.

كثيرون ينظرون إلى كانكون بمثابة انتصار للديمقراطية على الدكتاتورية، العدالة على الظلم، الجنوب على الشمال، الفقراء على الأغنياء، الناس على الأرباح، والحياة على الموت. والبعض منا يرى فيه - عن حق - انحرافا لقطار الموت الذي تقوده منظمة التجارة العالمية ...”

* ملاحظة: مجموعة 21

مجموعة G21 تكونت من 21 دولة عضو في منظمة التجارة الدولية هي 5 بلدان أفريقية (جنوب أفريقيا ومصر ونيجيريا وتنزانيا وزيمبابوي)، و6 من آسيا (الصين، الفلبين، الهند، اندونيسيا وباكستان وتايلاند) و12 من أمريكا اللاتينية (الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وكوبا والإكوادور، غواتيمالا، المكسيك، باراغواي، بيرو، أوروغواي وفنزويلا). (عن الويكيبيديا: الموسوعة الحرّة).

* الاستنتاجات: حياتنا تتحكم فيها هذه المنظمة المعادية للإنسان والديمقراطية

 “غزاة اليوم، مديرو الشركات، يقيسون التقدم بمؤشرات الثروة المالية الخاصة بهم، مثل ارتفاع أسعار الأسهم ومؤشرات إنتاج السلع والخدمات. مع استثناءات قليلة من النكسات الدورية بين الحين والآخر في بعض أجزاء من العالم (أمريكا اللاتينية مثلا) وانخفاض نصيب الفرد من الدخل في أفقر البلدان الأفريقية، فإن هذه المؤشرات تعمل بشكل جيد، مما يؤكد فرضية النخبة في أن برنامجهم يوصل إلى إثراء العالم. في المقابل، فإن المواطنين العاديين يقيسون التقدم بمؤشرات رفاهيتهم، مع اهتمام خاص بحياة من هم في أمس الحاجة إليها. كما أشار أحد المفكرين:

"مؤشرات الناتج القومي الإجمالي لا صحة أطفالنا، ونوعية تعليمهم، ولا فرحة لعبهم. هذه المؤشرات، لا جمال الشعر لدينا، ولا قوة الزواج، هي التي تهم الشركات، وهي غير مبالية بالحشمة في مصانعنا وسلامة شوارعنا على حد سواء. ولا تقيس تعاطفنا ولا تمسكنا ببلدنا، تقيس كل شيء باختصار، إلا الأمر الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، ويمكن أن تقول لنا كل شيء عن بلدنا، باستثناء تلك الأشياء التي تجعلنا فخورين أن نكون جزءا من هذا البلد".

لكن مؤشرات "الشعب" هذه آخذة في التدهور بوتيرة مخيفة، مما يدل على أنه من حيث ما يهم حقا، فإن الأمور ليست مشرقة جدا بعد كل شيء. في الواقع، العالم ينمو بسرعة أفقر فأفقر. وأيضا بسبب "ديمقراطية" (عنصرية ستكون اللفظة الأفضل) سياسات منظمة التجارة العالمية. لقد كان لمنظمة التجارة العالمية منذ تأسيسها تأثيرا مدمرا على فرص العمل والأجور وسبل العيش وعلى حماية البيئة والصحة والأمن الغذائي عالميا ومحليا، وكذلك على التنمية الاقتصادية، وحقوق الإنسان والتجارة العالمية والاستثمار. لذلك نستطيع أن نفهم لماذا لم تُدرس هذه التأثيرات بشكل منتظم (من جانب الحكومات الديمقراطية لدينا) كما لم تتم تغطيتها بشكل جيد في وسائل الإعلام الرئيسية. ونتيجة لذلك، فإن معظم الناس في جميع أنحاء العالم يفتقرون إلى الوعي بأن حياتهم وسبل العيش والغذاء والبيئة ومستقبلهم، تقوم بتشكيلها هذه المؤسسة القوية غير الديمقراطية بل المعادية للديمقراطية.

مما لا شك فيه، أن هناك نماذج أخرى من شأنها أن تؤدي إلى مجتمع أكثر إنصافا وأمنا وسليما بيئيا وديمقراطيا. والسؤال هو كيف يمكن للغالبية من الناس في جميع أنحاء العالم الذين يتعرضون للإساءة من قبل هذا النظام النيوليبرالي، تنظيم أنفسهم لصنع التغيير. قال إدواردو غاليانو، واحد من الكتاب في أمريكا اللاتينية قبل كل شيء، في المنتدى الاجتماعي العالمي الأول الذي عقد في بورتو أليغري، البرازيل، في عام 2001: "يقدم النظام نفسه كما الأبدية، ونظام السلطة يريد أن يخبرنا بأن غدا هو كلمة أخرى لهذا اليوم. لا ينبغي لنا أن ننسى كيف أن الناس في كثير من الأحيان في القرون الماضية قد دُهشوا من الانهيار المفاجئ للمؤسسات، والتغيرات غير العادية في أفكار الناس والانتفاضات غير المتوقعة ضد الاستبداد، والانهيار السريع للأنظمة المتسلطة التي كانت تبدو وكأنها لا تُقهر. لا ينبغي لنا أن ننسى كيف أنه في كثير من الأحيان في الماضي كان من هم في السلطة، يقولون بثقة "أبدا!" لإمكانية التغيير، فعاشوا وهم يشعرون بالحرج من هذه الكلمات.

لا بناء عال جدا حتى على أصغر كلب يرفع ساقه عليه ...

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم