صحيفة المثقف

وجوه لتمثال زائف.. رواية حسين السكاف تلمس عمق الجرح العراقي

جمال العتابيشكّل الوجع العراقي مرجعاً مهماً إزدهرت به السرديات العراقية بعد عام الإحتلال 2003، وصار الكلام عن رواية عراقية بعد هذا التاريخ، مدخلاً مهماً لكتاب صدر عن دار الرواسم في بغداد 2014 للروائي حسين السكاف، كانت صورة الوجع مادة لافتة فيه، كدراسة للرواية العراقية للفترة2004 -2012، وأصبحت هذه المادة موضوعاً جذاباً، بل أساسياً لروايات عدد غير قليل من كتاب الرواية في العراق، السكاف نفسه تحرك بروايته (وجوه لتمثال زائف) الفائزة بجائزة كتارا 2017  للنصوص غير المنشورة، نحو هذا المحيط، في علاقة واضحة مع هذا المرجع الحي والطاغي، وإفترش مساحة لأكثر من 500 صفحة، إكتظت بالرؤى والخيال والأحلام والفنطازيا، وإمتزجت بالواقع المأساوي الذي عاشه العراق بمرحلتين قبل وبعد 2003 .وبسبب هذا الواقع كان الوجع والتمزق يتشكلان سمة للكتابة السردية، التي راحت تتلمس عمق الجرح العراقي، وكأنها بذلك تلملم أجزاء الجسد الإجتماعي – النفسي جسد البشر والمكان، جسد الروح والعيش، الذي فتته الإحتراب حتى بدا عاجزاً عن إيقاف الإنهيار والخروج من دوامة النزيف .

حاول الروائي ان يوهم القارىء ان روايته لاتنتمي لمكان أو زمان، بينما تشير كل أحداثها وشخصياتها إلى حاضر العراق، إلى عهد الديكتاتورية كماضٍ ترك بصماته العميقة في الحاضرالذي لايستطيع الإفلات من ماضيه، ولاينعتق من ظلاله المعتمة عليه،

تبنى الكاتب مشهد الدمار، دمار الحياة والقيم، معادلاً لواقع كابوسي صار هو القاعدة،يتلبس فيه القاتل قناع البطولة، مرهون عيسى الصاحب (الراوي) الشخصية المحورية في الرواية، يتحول إلى قاتل وشاهد،حين يعم القتل في كل حي من المدينة، والكل مقتولاً.

مرهون كان في السابعة من عمره حين قتل والده أثناء محاولته سرقة بيت أحد الأغنياء،ومن هذه اللحظة تبدأ مأساته،  صار (العم) مانع دائم الحضورفي بيت القتيل، وبدأ يصطحب مرهون لساحة وقوف السيارات التي يشرف عليها، ثم تزوج أم مرهون، ووضعت منه طفلة جميلة أسماها (وداد)، إلا أن الأم إختفت نهائياَ مع إبنتها، تحولت الساحة الى مسكن لمرهون، وبدأ العم يعامله بقسوة، إذ يناديه (إبن الشريفة جداً)، ذات صباح ترك السكين مغروسة في صدر مانع، وهرب مرهون، في سجن الأحداث تعلم القراءة والكتابة، والدفاع عن النفس بعد تعرضه لمحاولات إغتصاب عديدة من قبل الأحداث الأكبر سناً منه، السجين عدنان النائي المنتدب لتدريس الصبيان لحسن سلوكه في السجن، يوجه إهتمامه لمرهون ويرعاه، تكتشف إدارة السجن موهبة مرهون في تخدير الضحايا من السجناء بالإتفاق مع طبيب السجن، وتوظفه لهذا الغرض مع عصابة خارج السجن تتاجر بالأعضاء البشرية في مستشفيات سرية يديرها أطباء،

تتكرر هذه الجرائم ويتحول مرهون إلى أداة منفذة لها في خارج السجن أو داخله، حين يعود إليه مرة أخرى، لايتردد مرهون من قتل أية ضحية ترشحها (المنظمة السرية)، في عهد الديكتاتورية، لم يكن يعاني من مشاعر القلق والخوف، ولم يكن سادياً يتلذذ بمشهد الدم،من الصعب حصره في صورة سلوكية واحدة، إلا ان المؤكد في هذا السلوك يعود إلى إضطراب مستمر في الشخصية لازمه في وقت مبكر من حياته، مع عدم توفر الوازع الضميري بما يكفي للشعور بالندم، شخصية مرهون أغلب ما تتضمن السمات السايكوباثية المضادة للمجتمع، والتي لا تؤشر لمرض عقلي أو تخلف، بل تشير إلى سلوك يتسم بالعنف، والتخلف الدراسي، والتفكك الأسري .

تصير الحكاية حكايات، ويصير الزمن أزمنة، ولكن بلا تاريخ، فيمتد السياق السردي ويستمر تواليه في محاولة لبناء فضاء سردي مفتوح على ذاته، يخلع أبواب الذاكرة ويتركها تحكي طويلا، لعمليات قتل تلتقي فيها أطراف مختلفة في الظاهر لكنها متعانقة خلف الظهر، الكل يقتل ويسرق ويكذب، مرهون في (العصر الجديد، عصر الديمقراطية)، يتحول إلى شخصية أخرى تدير مؤسسة واجهتها ثقافية، إلا نها تقوم بنفس الدور الأول، وضع (الوزير) تحت تصرفه إمكانات مالية هائلة، وأخرى بشرية.

تتسع علاقات مرهون مع شخصيات أخرى من النساء والرجال، ويقضي إوقاته في مجالس الخمر والعاهرات وأحضان النساء، يدير شبكة واسعة جاهزة لتنفيذ عمليات القتل (والتفصيخ البشري)، إمتدت إلى اقرب الشخصيات إليه،وطالت أمه وأخته بالصاعق الكهربائي، ورمي جثتيهما في النهر، بعد سنوات من البحث عنهما، وجدهما بائعات هوى في الشارع، إمتدت عمليات التصفية لتشمل فئات متعددة في المجتمع، مثقفين وفنانين( هناك إشارة واضحة لتصفية المفكر كامل شياع)، وأطباء، ورجال أعمال، وعشيقات، ورجال أمن. وشخصية الوزير في حدود سلطتها ونتائج سلوكها العابث وغير العقلاني، إنما تبلغ لمستوى الرمز الدال على قوى الشر التي تقود السلطة ممثلة بإتجاه سياسي وطائفي محدد، لايوحي ان قوى الدمار واحدة ومشاركة في الخراب بإمتياز .

في لغة السرد إشارات إلى مؤسسات دولة عميقة تدير هذه العمليات في زمن العنف والخراب، وهناك (أبو طبرجديد)* هو مرهون ذاته، يجد في أعماقه لذة خفية تمحو أثار شقاء ماضيه وبؤسه .

قصد السكاف تكديس الأحداث لتصعيدها بقصد الإثارة،بلغة سينمائية يتجسد في بناء السيناريو والنقلات المتتالية بين الماضي والحاضر،تعرف (بعين الكاميرا) دون تدخل من الروائي، المصور الذي يتابع مشاهد الحياة، وما تسجله آلة التسجيل، هو مادة السارد في الرواية، وموضوع الحدث المركزي  بلغة تصويرية لاتخلو من إسهاب وإطالة وتوفير المفاجآت وإصطناع عنصر التوقيت في حضور الشخصيات وغيابها،عمليات قتل لضباط شرطة تذهب بلا نهايات معروفة أو متابعة للجريمة، لايتردد الروائئ من تخيل زيارة للرئيس المريض في ألمانيا، ومن ثم عودته لتنفيذ مآرب الرئيس العدوانية، كنت أتوقع ان الروائي سيتوقف عن السرد  عند مشهد مؤثر لمقتل أمه وأخته، إلا انه استمر بهذا المزيج الذي لم يقدم إضافة فنية وجمالية لعناصر السرد، بإعتقادي ان إمكانية إختزال الرواية متوفرة في العديد من الفصول، بتكثيف الحوارات والأحداث المتكررة . الإسهاب أضعف قدرة الرواية، وجرّدها من أهم ما فيها، لتستغرق بمشاهد القتل،بنفس الأدوات وذات الغايات .

إلا أن الروائي إستطاع أن يرتفع بلغته السردية في تصويره للقاءات الجسدية مع عشيقاته، إلى مستوى فني معبر وراقٍ، مرتقيا بها إلى التوحد مع الجسد الأنثوي، وأتخذ الروائي من حركة المياه بوصفها لوناً من ألوان التعبير المؤثر في أعماق الشخصية، متماهيا مع إيقاع الحدث القاسي، في رمي جثتي أم مرهون وأخته في النهر، كان عمق المياه وجريان النهر، إنما يحكيان زلزلة كيان مرهون وإستسلامه لتيار الأحداث العاصف، بعد أن كان ينعم بالثبات .

في تقديري أن الرواية كان لها ان تبلغ مستوى تعبيرياً آخر يؤهلها لأداء أكثر من معنى، وتحمل أكثر من دلالة، في غير تلك النهاية التي إنتهت بسفر مرهون (البطل القاتل) إلى ألمانيا، ومغادرته البلاد، كان بوسع الروائي ان يذهب إلى معالجة فنية أخرى لنهاية الرواية، وما يزال أمامه  متسع من الوقت لكي يقدم أعمالا سردية جديدة لأنه يمتلك الأدوات والموهبة .

 

جمال العتّابي

..........................

*أبو طبر: شخصية أشاعت الرعب عند أهالي بغداد في بداية سبعينات القرن الماضي، إثرعمليات قتل لعدد من العوائل، توجهت حينها الإتهامات لدوائر المخابرات العراقية، كونها تقف وراء تلك العمليات .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم