صحيفة المثقف

العدالة الشريدة

منى زيتونطالما صُورت العدالة بصورة امرأة تحمل ميزانًا معصوبة العينين كي لا تبصر أي من الخصمين ولا يختل الميزان بين يديها، ولكن بقيت هذه الصورة خيالية في عالمنا، لأنه رغم أن العدل هو القيمة العليا التي تنبثق منها جميع القيم إلا أنه بقي شريدًا تائهًا قلَّ أن يجد حاكمًا عادلًا يوفر له مأوى!

والمتتبع لما يدور في مصر يحق له أن يتساءل عن مستوى تدهور العدالة وضياع حقوق وكرامة الإنسان في هذا البلد، فرغم أن الظلم معتاد في مصر منذ فجر التاريخ، لكن مستوى انحداره الأخير صار لافتًا؛ إذ تتنوع أشكال الظلم على هذا الكوكب البائس ولكن يبقى لدى الحكام في مصر قدر عالٍ من الابتكارية لا يتوفر مثيله ولا نصيفه لدى غيرهم! وسنعرض في هذا المقال بعض حالات منه.

القبض على الشهود والمدافعين عن حقوق الضحية

في قضية "الاغتصاب الجماعي لفتاة تحت تأثير مخدر" في فندق الفيرمونت بالقاهرة التي جرت وقائعها عام 2014، وكُشف عنها مؤخرًا بعد تدخل المجلس القومي للمرأة، وبعد أن وجد المتهمون فسحة كافية من الوقت مكنتهم من الفرار خارج البلاد، بدأ الأمن المصري يخاطب الانتربول للإمساك بهم!

وبعد أن داهمنا أمل مفاجئ في إمكانية القصاص العادل من هؤلاء الحثالة بعد أن استطاع الانتربول القبض على بعض منهم في لبنان، فوجئ المجتمع المصري بتحول خطير في مسار القضية؛ بانقلاب القضية على الشهود والمدافعين عن حقوق الضحية، وتحويلهم من شهود إلى متهمين!

أحد هؤلاء المدافعين الذين حاولوا التشهير بهم هو ابن معارض شهير وإعلامية كبيرة، ومعروف عنه مساندته لضحايا التحرش والاغتصاب، وبدا أن الأمر يسير في طريق تصفية بعض الخلافات السياسية مع أبيه.

وإحداهم هي ابنة فنانة شبه معتزلة، وكانت قد تقدمت بشهادة ضد أحد المتهمين الهاربين، والذي كان زوجًا لها وانفصلت عنه منذ عام، وطليقها الهارب ظل يبعث لها بالتهديدات بالتشهير ويتوعدها، ورأيناه ينفذ تهديده، فتتحول من شاهدة إلى متهمة، وتُحبس على ذمة القضية في عنبر الآداب في سجن النساء، بينما طليقها المتهم بالاغتصاب الذي تقدمت بالشهادة ضده لا زال يلهو في لندن!

وبعض الشهود هاربون خائفون من المصير ذاته!

وهناك أيضًا محاولات لتحويل القضية من "اغتصاب جماعي تحت تأثير مخدر" إلى "ممارسة جنس جماعي بالتراضي"، وكأنها كانت حفلة للفجور، ما يعني تشويه سمعة منظمي الحفل وجميع من حضروه، والسؤال الذي يطرح نفسه بداهةً: هل كان سيتم التعاقد مع مجلة صحفية متخصصة لتغطية الحفل لو كان مشبوهًا؟ وهل كانت صور الحفل ومقاطع فيديو منه ستبث على مواقع التواصل الاجتماعي لو كانت هذه حقيقة الحفل؟ ومؤخرًا بعد تداول أمر الجريمة تم حذف جميع الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بالحفل، وأصبح أغلب من حضروه من شخصيات محترمة يتبرأون من حضوره منعًا لإثارة الظنون حولهم.

وكل هذا العبث يتم لحماية بعض من الشباب الحثالة محدثي النعمة، من أبناء وضيعي الأصول الذين طفحوا على قمة المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فكل من ساهم في كشف جريمتهم وتحويلها إلى قضية رأي عام، وأرغم أجهزة الأمن على التحقيق فيها صار متهمًا أو مشتبهًا فيه!

عقاب الضحية

في بدايات الألفية، وبدء تعرف الناس على جيل التليفونات المحمولة المزودة بكاميرا، كانت هناك قضية شغلت الشارع المصري لفترة، وتتعلق بمقطع فيديو تم تسريبه من داخل أحد أقسام الشرطة لأحد المحتجزين في القسم والذي قام أحد ضباط قسم الشرطة بالاعتداء عليه جنسيًا، ولمّا طالت الفضيحة الضحية تقدم ببلاغ ضد ضابط الشرطة الشاذ، وفُتح التحقيق في القضية.

ولأن ضابط الشرطة ذاك كان ابن لواء شرطة سابق، فقد قيل وقتها أن ضغوطًا مُورست على الضحية لإجباره على تعديل أقواله، وكان أهمها أنه مهما كان عدد من شاهدوا مقطع الفيديو المسرب –ولم يكن عصر اليوتيوب قد بدأ- فلن يقارب بأي حال من الأحوال عدد من يمكن أن يشاهدوك في نشرة الأخبار الرئيسية بالتليفزيون المصري تدلي بشهادتك في القضية، وكان الضحية واعيًا لحقوقه ولم يهدرها، ورفض الإقرار بأي شيء خلاف الحقيقة أمام هيئة المحكمة، ولكن تسجيلًا بالصورة دون الصوت لما دار في المحكمة تمت إذاعته في نشرة الأخبار الرئيسية في التليفزيون المصري يومها، وظهر فيه المجني عليه يقف أمام منصة القضاء، ملتفتًا صوب الكاميرا، وتعبيرات وجهه وجسده نموذج لما يمكن تدريسه عن الرعب، وهو ما أغضب كل من شاهد نشرة الأخبار، ولكن كان منظر الضابط الشاذ في قفص الاتهام والحكم عليه بالسجن والرفد من الخدمة مثلجًا للصدور، وكأنه أراد إذلال الضحية مزيد إذلال فنال من الذل أضعافًا.

ولكن يبقى السؤال: لماذا انتقلت كاميرات التليفزيون لقاعة المحكمة لتصوير الضحية؟ وهل صرنا نعاقب الضحية عوضًا عن الجاني؟!

استبدال الأدوار بين الجاني والمجني عليه

وأخيرًا –ولا أظنه آخرًا إلا أن تقوم القيامة لينتهي الظلم من مصر- انتشرت الأخبار من قرية العوامية بالأقصر بمقتل مواطن مصري اسمه عويس الراوي فجر 30 سبتمبر الماضي، على يد أحد ضباط الأمن الوطني الذي جاء إلى منزل العائلة للقبض على ابن عمه ضياء الراوي لمشاركة الأخير في الحراك الشعبي والاحتجاجات السلمية الأخيرة التي حدثت في مصر يوم 20 سبتمبر الماضي.

وهناك روايتان من الأهالي الشهود للحادث إحداهما أن الأمن لمّا لم يجد ابن العم بالمنزل أخذ أخا عويس بدلًا منه، فاحتج عويس ورفض أخذ أخيه كرهينة وتمسك بجلباب أخيه، محاولًا إفلاته من رجل الأمن الذي استمر في شده خارج المنزل، فأطلق عليه ضابط الأمن الوطني أربع رصاصات أردته واحدة منهم أُطلقت نحو رأسه وأصابت رقبته، والرواية الثانية تقول إن الضابط صفع أبا عويس عندما لم يجد المطلوب أمنيًا فرد عويس الصفعة للضابط انتقامًا لأبيه، فأرداه الضابط برصاصة قتلته، وأطلق ثلاث طلقات تحذيرية في الهواء.

وأما الرواية الرسمية التي صرّح بها بيان النيابة فقد خرجت علينا بعد طول انتظار، بعد أسبوع من حادثة القتل وبدء التحقيق، بأن عويسَ كان مطلوبًا أمنيًا، وأُلصقت تهمة الإرهاب به وبذويه، وأنه قاوم الضابط بسلاح ناري كان في حوزته، وأصيب أثناء محاولة الأمن ضبطه. وذكرت النيابة أنها "أذنت بضبط المتوفَّى وآخرين من ذويه لاستجوابهم فيما نُسب إليهم من جرائم إرهابية"!

والاتهام الفضفاض بارتكاب الجرائم الإرهابية غير المعلومة وغير المحددة أصبح شائعًا في مصر في عهد السيسي، ويظهر دومًا للتغطية على نبأ قتل أو القبض على أحد المواطنين، ويتم الإدعاء أن التوجه لضبطهم تم بناءً على تحريات من الأمن الوطني، ودائمًا وأبدًا لا تكون النيابة العامة قد قامت بالتحقيق في هذه التحريات المزعومة قبل حادثة القتل أو الضبط.

والحقيقة أن بيان النيابة الذي تناقلته الصحف، والذي صدر متأخرًا أسبوعًا ليحمل أول رواية رسمية عن الحادث كان في أغلبه مبنيًا للمجهول، وإن كان المؤكد أنه يحمل رواية الأمن الوطني لأن البيان ذاته صرّح بأنه لم يتضمن نتائج التحقيقات التي أُجريت مع أسرة القتيل –والده وأخيه-، ولم يذكر أنه تم التحقيق مع باقي الأسرة أو أي من الأهالي شهود الحادث، والذين نفوا في مداخلات تليفونية أن يكون القتيل قد قاوم الضابط بسلاح.

مقطع الفيديو المتداول للحادث يصور عربات الشرطة أمام منزل القتيل، ويُسمع فيه صوت دوي أربع رصاصات تجاهل بيان النيابة ذكرهم وبيان نوعهم إن كان رصاص (ميري) من الذي تستخدمه قوات الأمن أم صادرة من سلاح شخصي، كما خلا بيان النيابة تمامًا من بيان الصفة التشريحية لجثة القتيل، وإن كان قد قُتل برصاصة أطلقت صوب الرأس أم لا، وهل كانت من مسافة قريبة أم بعيدة؟ بل لم يحدد البيان اسم الذي أطلق الرصاص على القتيل من رجال الأمن!

والمجني عليه المتهم بالإرهاب هذه المرة هو موظف بمستشفى الأقصر الدولي، والتي يرتادها السائحون، ويستحيل أن يكون مشتبهًا به أمنيًا ويُسمح له بالعمل في مثل هذا الموقع، ومع ذلك تم إلقاء الاتهام عليه وعلى ذويه بعد تجرؤ أحدهم على المشاركة في الاحتجاجات على سوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وحملة هدم المنازل الأخيرة.

في مصر، لم يقف حد الظلم أن تخشى على حياتك أن تُقتل ولا يُقتص لك، بل صرت لا تأمن أن تُقتل فتُصور على أنك إرهابي، فتتبدل الأدوار بينك وبين قاتلك لتكون الجاني ويكون القاتل المجني عليه! ثم تجدهم فوق ذلك يُفرقون من يريدون تشييع جنازتك بقنابل الغاز وطلقات الرصاص.

 

د. منى زيتون

الخميس 8 أكتوبر 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم