صحيفة المثقف

عندما قيلَ لنا إننا تحرَّرنا

صلاح حزامبعد الاحتلال عام ٢٠٠٣، قيل لنا اننا اصبحنا احراراً ونظامنا السياسي ديمقراطي ليبرالي واقتصادنا رأسمالي حر وصحافتنا حرة واعلامنا حر ولدينا احزاب حرة متنوعة والمرأة تحررت والطفل حصل على حقوقه واننا بلد مسالم وزير دفاعه مدني (حازم الشعلان نموذجاً)..

لا أدري إن كانت هذه كذبة ومؤامرة كما يعتقد البعض ام انها مجرد جهل وغباء وانعدام خبرة في السياسة والاقتصاد..

سوف نترك البحث في موضوع المؤامرة المفترضة ونذهب الى الشروط الفنية اللازمة لقيام هذا الكيان العظيم من الحريات..

كيف لعاقل وخبير ان يوافق على امكانية انتقال بلد بهذ السرعة الى الديمقراطية الليبرالية مع ان سكانه لم يمارسوا الديمقراطية ولم يعيشوا في كنَف نظام ليبرالي طيلة حياتهم؟

انتهت التجربة الديمقراطية البسيطة في العراق بوقوع انقلاب ١٩٥٨ اي قبل ٤٥ سنة من الاحتلال .. بمعنى ان الشخص الذي كان عمره ستون سنة عند حصول الاحتلال، لايملك ادنى فكرة او خبرة تتعلق بممارسة الديمقراطية ودلالاتها وماتفرضه على الفرد والمجتمع من مسؤوليات والتزامات ..

وتم استبدالها بالاستبداد والانقلابات العسكرية ومنع العمل السياسي وغياب حرية التعبير وسياسة الحزب الواحد ..

بل ان الحديث عن الديمقراطية كان بمثابة تآمر وترويج لثقافة الاستعمار.

وبناء على ماتقدم نسأل: أين هي البنية التحتية لممارسة الديمقراطية؟

لم تكن هناك أحزاب سياسية اطلاقاً قبل الاحتلال وحزب البعث تم حله!! (وهو كان قد فقد، الى حدٍ كبير،صفة الحزب السياسي بالمعنى المتعارف عليه انسانياً)..

اليست الديمقراطية ثقافة وتمرين واعتياد وتقاليد وقيم ووعي مجتمعي وايمان بالديمقراطية والاستعداد للتضحية من أجلها؟ اليست الديمقراطية تكويناً فردياً وعائلياً قبل ان تكون تكويناً مجتمعياً؟ اين نحن من ذلك؟

اصبح الميدان السياسي ميداناً للهواة والمغامرين والطامحين الى السلطة والثروة..

وعند رفع لافتة الديمقراطية لاحظنا نشوء احزاب وحركات لاتحصى بلا منهج واضح ولابرامج ولكل منها اجندته الخاصة به من وراء الاشتراك في العمل السياسي..

هل يعقل ان عدد الكيانات السياسية المشاركة في الانتخابات تصل الى السبعمائة كيان؟ ولكل كيان برنامج؟ وبافتراض ان لكل منها مقاربة ورؤية مختلفة للتعامل مع الوضع العراقي من كافة زواياه، هل يحتاج العراق الى سبعمائة مقاربة؟ وهل هذا ممكن عملياً؟ مع العلم ان اكبر الدول واكثرها تعقيداً وتقدماً يتنافس في انتخاباتها اثنين او ثلاثة من الاحزاب.

لذلك جاءت برامج الاحزاب متشابهة وضحلة وانشائية .

تم ملء الفراغ بشكل مستعجل وبلا ضوابط (العراق الى الآن بدون قانون احزاب ينظّم العمل السياسي في البلد).

اما بخصوص اعلان تحرير الاقتصاد واعتماد آلية السوق الحرة لادارة الاقتصاد الوطني وضمان حرية المبادرة الفردية والتعويل على القطاع ألخاص لبناء الاقتصاد، فأنها هي الأخرى لاتقل سذاجة عن سابقتها الديمقراطية الليبرالية..

القطاع الخاص الكفوء ليس لافتة يتم رفعها بسرعة بل هو تقاليد وثقافة اعمال وخبرة متراكمة .

السؤال هو: من اين نأتي بهكذا قطاع لكي يلعب دوره المطلوب؟

في ظل نظام الادارة المركزية الحكومية للاقتصاد الوطني، تعرّض القطاع الخاص لكل انواع الضغط والتلاعب بقراراته التي يفترض ان تكون حرة، وخضع لقرارات واجراءات موظفين حكوميين يتعاملون معه باعتباره عدو ولص وغير وطني وعدو للاشتراكية الخ.. وهذا ليس من وحي الخيال بل من واقع خبرتي في العمل الحكومي التنموي والتخطيطي والمحاضرات التي كنت القيها على كوادر الدولة المتقدمة في الثمانينيات والتسعينيات وحواراتي معهم حول قضايا ادارة القطاع الخاص.. حتى لقد حصلت لي مشاكل مع بعض المسؤولين عن شؤون القطاع الخاص في وزارة الصناعة وأُتُهمت بالتحريض ضد الوزارة والخروج عن توجيهات الدولة..

وعاتبني وزيري لكوني اتعاطف مع القطاع الخاص ..وهذا تحذير وتهديد مبطّن..

وحاولت الدفاع عن نفسي ضد هذه التهمة الخطيرة بتذكيره بمقولة رئيس الدولة في وقتها عندما قال: "لو لم يكن القطاع الخاص موجوداً لأوجدناه"..حينها انفرجت اسارير الوزير وتركني لشأني..

غادر العديد من رجال الاعمال ونقلوا اعمالهم الى دول اخرى او تركوا العمل خاصة بعد ان تعرضوا لعقوبات وصلت الى الاعدام بتهم ملفقة.

وعند رفع لافتة اقتصاد السوق بعد الاحتلال، اندفع الكثيرون لكي يعملوا كرجال اعمال ولكن بعقلية العصابة والقنص مع وجود اقلية حقيقية من رجال الاعمال.

والنتيجة كانت مانشاهده اليوم من فساد وخراب في الاقتصاد الوطني..

اما بخصوص الإعلام الحر، فهذه مشكلة كبيرة في حد ذاتها بسبب خطورة واهمية دور الإعلام الحر في النظام الديمقراطي..

ولكن من أين نأتي بالخبرة والتقاليد والثقافة المطلوبة لذلك؟؟

رجال الاعلام في مرحلة ماقبل الاحتلال، كانوا يعملون في الاعلام الحكومي وتحت رقابة الاجهزة الامنية والحزبية وكان دورهم دعائياً وليس اعلامياً توعوياً ..

تحولت وسائل الاعلام بعد الاحتلال الى دكاكين شخصية بعيدة عن الموضوعية وعن هدف توعية المجتمع وانهمكت بنشاط الدعاية الحزبية والشخصية وتوسع الفاسدون واصحاب الاموال المشبوهة في فتح قنواتهم التلفزيونية وصحفهم التي اشعلت لهيب الكراهية في البلد.

منظمات المجتمع المدني التي هي ركن اساسي من اركان النظام الديمقراطي، اصبحت معظمها واجهات للسرقة وتحقيق المنافع واصبحت اعدادها لاتحصى ..قبل الاحتلال كانت منظمات المجتمع المدني واجهات حزبية..

قيل أن المرأة والطفل تحررا، في حين ان المجتمع العراقي لازال مجتمعاً قبلياً بدوياً في معظمه.. والمرأة لازالت تُقتل وتحرق حتى الموت لأتفه الاسباب ولازالت تُعتبر مُلكاً لابيها وأخيها وزوجها..

أما الطفل فهو الآخر يعتبر سلعة يملكها الوالدان وثارت ضجة كبيرة عندما ناقش البرلمان مقترح قانون يمنح الطفل بعض الحقوق لحمايته.

كانت الذريعة الرئيسية هي كون القانون يتجاوز على تقاليد العائلة والمجتمع العراقي ..

خلاصة الموضوع، اننا لانحتاج الى هذه الفوضى وبهذه السرعة وبدون استعداد وبناء تدريجي .. صدمة الحرية الزائدة خطيرة وقد تخرّب كل شيء..

عندما سقط الاتحاد السوفيتي وتفكك اصبحت روسيا دولة جديدة حاولت تطبيق النموذج الغربي في كل الميادين والنتيجة كانت فوضى عارمة وسيطرة تامة لعصابات المافيا على البلد..

ولولا اعادة النظر بذلك ومجيء بوتين الذي اعاد دور الدولة القوية لكانت روسيا الآن في وضع آخر (كشف المسؤولون الامريكان انهم خططوا لاحتلال روسيا وتفكيكها بحجة حماية ترسانتها النووية من الوقوع في ايدي الارهابيين).

الصين عندما قررت تغيير اسلوب ادارة الاقتصاد الوطني واتاحة المجال للقطاع الخاص، تم ذلك تحت اشراف الدولة ورعايتها بدون فوضى ومع وجود القبضة القوية للدولة لردع من يحاول استغلال ذلك الانفتاح ..

اتذكر باحترام كبير قول سمعته ولا اعرف من صاحبه : الحرية مسؤولية.

 

د. صلاح حزام

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم