صحيفة المثقف

العالم الشعري لدى يوسف الخال (3)

رياض الناصريمن نتائج عودة يوسف الخال من الطرف الآخر، إلى أرض الوطن ذات القاعدة الروحية، أن طبعت الرموز المسيحية شعره بصورة مكثفة، لتطالعنا هنا، صورة "الشاعر/ الإله" الذي يمكن عدها عمدة المشروع الشعري وسنده، لأنها صورة مكثفة تختزن إرهاصا تنظيريا؛ وحساسية جمالية مغايرة، إنها تأمل شعري، صريح وضمني  في مسيرة الشعر العربي، ومساره الحلزوني، بغية تأسيس تصور جديد، يهدم مفهوم الشعر السائد، ووظيفة الشاعر الخطابية المنبرية، وما يتفرع عن كل ذلك من نسج وشائج مغايرة بين: الشعري والحياتي.(1) ولعل المفهوم الشعري الجديد هو أحد الدعائم الكبرى، حيث أصبح الشعر مرادفا للخلق والإبداع على غير منوال أو قالب سابق .

ومن ثم صار الشاعر يستشرف المستقبل. وعلى هذا الأساس رفع الشعر إلى مرتبة أضحى فيها منافسا لما هو مقدس، بالمقدار الذي يكشف فيه ما هو مستور، ويبتدع طرائق مغايرة في النظر إلى الحياة والكون.

ولا يغرب عنا أن هذا التطهير الأقصى ما هو إلا إيمان مطلق بالشعر وضرورته لتستمر حركة القلق والخوف والتوجس. وبما أن المعشوق لا يناظر، فأن من سار على درب الحب شهيد الشعر يستحق كل ثناء وتبجيل. وهذا "عزرا باوند" واحد من أولئك الذين سال دمهم على محراب الشعر، فكان دمه مشعل ضياء ينير الدرب:

جراحك للأولين

عزاء ودرب خلاص لنا (2)

إنه المسيح الذي حمل خطايا البشر، ويبشر بالأخوة والمحبة والحرية والخلاص.

وهذه القدسية تقتضي، في مقام الاحتفال الطقوسي، أن يعتزم المريد طي  صفحات  الماضي وبداية حياة جديدة. فبقدر ما تمده بدفقات حية بقدر ما تخلصه من براثن (المعصية/اللعنة). ولا يحصل التطهر إلا بالصدق الذاتي في الاعترافات و في الألم. ويحسن أن نشير إلى أن الفعل التحويلي المركزي الذي ينطلق من الدين-  المسيحية بخاصة-  ليرسي في مرافئ الشعر، يتم حسب وشائج تركيبية دلالية مختلفة فالشاعر ازرا باوند تتحدد في صورته الصفات الإنسانية والصفات الإلهية، لهذا فإن الوقوف في حضرته يستوجب الطهارة من الذنوب، وهي طهارة تنصب أساسا على الممارسة الشعرية السابقة وعلى التبشير بالرسالة الشعرية الجديدة، ولا ريب في أن هذا التبشير لا يصدق على قوم دون قوم وإنما هو موجه إلى الإنسانية جمعاء.وهذا أحد مكاسب موجة التجديد المعاصرة التي يلح روادها على تجاوز القطرية والإقليمية إلى العالمية ليكون تراث الإنسانية كلاً موحداً في خدمة الإنسان وقضاياه المصيرية(3.

وفي هذا السياق الأوسع ندرك أسباب الصيحات المدوية والإدانة الشديدة الموجهة إلى التقليدي والسائد من أشكال الكتابة إلى درجة قرنها بالإثم والجريمة، وفي الضمير "نا" نسبة إلى الذات والجماعة على حد سواء، تكون الإدانة لكل من الفرد والجماعة التي تغافلت عن كل ما هو مقدس(4):

أثمنا إلى الشعر، فاغفر لنا

ورد إلينا الحياة(5).

وفي هذا التكثيف تتجمع كل المظاهر والمقاييس المعيارية القديمة التي قولبت التجربة وقيدت من الحرية الإبداعية، بسن قوانين وقواعد أسهمت بالقسط الأوفر في ركود التجارب، ونسج النموذج الأمثل الذي يكون منتهى المحاولات اللاحقة محاكاته والنسج على منواله(6).

وبهذا الفهم للفن الشعري وعلاقته بالمقدس، نرى الخال يقترب من رواد الكلاسيكية الأوائل، الذين شرعوا أسسها ومبادئها، حيث كانوا ينظرون إلى الشاعر بصفة مقدسة تكاد تكون إلهية؛ فالعبقرية الشعرية موهبة إلهية تصب عنده في وسيلة إلهية ولغاية إلهية، فالشعر كالدين يجب أن يوضع في طقوس دينية، فنظمت له العبادة الفنية بدقة، وأصبح الهوى الشعري، إيماناً دينياً وشعرياً، وبذلك كبح تعنت الطقس الديني التحرر الشعري، بصورة كاملة، فبدلاً من التنوع الشخصي في الموضوع قيدته طقوس شاملة وعنيفة، "ويذكّر رونسار أن الشعر هو في الأصل عنصر من عناصر الدين، يمنع الشاعر من إساءة استعماله بدون نبل" (7)، ولأن الشعر" لم يكن في أول عهده سوى لاهوت رمزي، يُدخل إلى عقول الناس الغلاظ بالأمثال المسلية والملونة، الأسرارَ التي ما كانوا ليستطيعوا فهمها عندما كانت تكشف لهم الحقيقة بصراحة تامة"(8).

ولكن يمكن أن نتساءل هنا، إلى أية درجة يمكن عد يوسف الخال مسيحياً؟ صحيح أنه تخذ المسيح أنموذجاً للعذاب الإنساني ومنبعاً للخلاص، وجاءت الرموز المسيحية صوراً لمواقفه الشعرية إلا أنه لم يضيء أمامنا الطريق إلى المسيح، من خلال تجربته كشاعر مؤمن بهذا المنبع (9). فإذاً علينا عندما نقرأ تجربة يوسف الخال الشعرية أن نوقف معرفتنا به كمسيحي، بل نراه، كإنسان، كشاعر، فالمسيحية عنده رمز لكل ما هو روحي، ورمز للأفكار التجريدية لـ( الما وراء)، وهي كذلك رمز لشاعر أخذ يتأمل في أشياء الكون والوجود وعلاقة الإنسان بها، عبر ذات ميتافيزيقية. فالمسيحية عنده كما الإسلام أو اليهودية دلالتها الروحية، أعمق من دلالتها العقائدية الضيقة" نحن ضدهم لأنهم ضد الحرية،أي ضد الإنسان، وضد الحقيقة،أي ضد الله مسيحياً كان أم مسلماً"(10)، وهي نقطة دالة للعلاقة مع ما فوق الواقع ولما هو تجريدي فيها، فهو شاعر يحمل روحاً إنسانية ذات طابع ديني، ولم يكن فيلسوفاً دينياً، كان قد تبنى هذا الفكر أو ذاك، وأخذ يشرحه، ويدافع عنه، ويبشر به، بل هو شاعر أحس بأشياء الوجود تؤرقه وتقض مضجعه فاحتمى بالإله. إله الناس جميعاً لا فئة منهم، وأخذ يصرخ كإنسان وكشاعر، لا كمسيحي؛ وإن تداخلت عنده المسيحية بالشعر، فهذا ما قدمته له الحياة، من نشأة في أحضان بيت مسيحي، وطقوس كنسية، ومجتمع وحضارة طابعها مشبع بالأفكار المسيحية أكثر من غيرها، فأخذ يصدر عن معرفته غير المنقطعة عن الألم الإنساني، في عموم صوره، وجميع أشكاله ومسبباته، وبمختلف مستوياته، وتواجده الزماني والمكاني، في القرية أو المدينة، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهكذا الإنسان  "حاجته للسمو على فوضى التجارب والحقائق المتناقضة تؤدي به إلى البحث عن فرضية ميتافيزيقية قد توضح له مشاكله الملحة"(11)، فتعاونت الكنيسة مع وقائع الحياة المريرة لتقوداه إلى الشعر الميتافيزيقي. وهذا يدل على أثر النشأة الأولى وتمكنها من ذات الشاعر، على الرغم من مروره بتجارب حياتية عديدة، تعطي مجالاً أوسع للتغيير والتنوع، وإن يبدو في أحيان عدة في مظهر آخر غير مظهر ابن الكنيسة أو اللاهوت، كمظهر ابن الحداثة البار، غير أنه كبودلير "لا يحاول أن يصل إلى المعرفة، أساساً  عن طريق العقل والمجرد والأفكار، والتي تشكل مع ذلك، هي الأخرى علامات، مثلما هي علامات في الأديان وفي الـ ماورائيات. علامات لا صور: إن التجربة الدينية، الإلهية، يمكن أن تتم، أن تحدث بالأفكار، ألم يظل دانتي مقتصراً على الإقامة في عالم الأفكار؟ إن الطبيعة كلها رمز الإله. وهذا لا يعني أن الطبيعة وأن المادة هما بحد ذاتهما روحانيتان؛ بل من صنع روح، وتتيحان السمو إلى هذه الروح، النهوض باتجاهه. يقول هوغو:إن كل شيء يحيا، كل شيء مملوء بالروح"كما قال:" انظر عبر الكائن العالمي إلى الرمز الخالد"(12). فمن الممكن إذن البحث عن الله عبر الحواس والإحساس "فإن الفكر الخفي الباطني يرى أن المادة نفسها تحتوي على روح العالم، وهذه الروح تنكشف عبر الحواس. ففي الشيء المادي، يكتسي الشيء المحسوس الروح، ويحس بالعطور وبالأصوات وبالألوان على أنها تكاثرات الروح. وهكذا إذن يمكن التوصل إلى المعرفة عن طريق الحواس"(13)، التي تُوصِلنا إلى المسيح الذي لو تبرأت الكنائس منه لتبناه يوسف الخال، ولو دحض العلم أو العقل واللاهوت معاً قصة المسيح لبقي يوسف الخال يرى فيها ما يرى الآن: الرجاء والمعنى، لبقي المسيح وثناً حياً في نظره،  ليس معناه أن الشاعر مسيحي على طريقة أعصب عينيك واتبعني! أكيد أن أحد منطلقات موقفه هو الخوف أي التسليم لكن ثمة الاستنتاج أيضاً(14):

عرفت إبراهيم، جاري العزيز، من زمان

عرفته بئراً يفيض ماؤها

وسائر البشر

تمر لا تشرب منها، لا ولا

ترمي بها، ترمي بها حجر(15)

فالبئر المهجورة عند يوسف الخال هو الله / المسيح، والعودة إلى الله هي النسيج الفكري في شعره مثلما الأسطورة هي النسيج الفني، والنسيجان متعانقان بصورة فذة، تزاوجت فيها الأسطورة القديمة والأسطورة الحديثة في وحده دينامية عميقة(16) . لتتجاوز "أنا" الشاعر نفسها في طريقها إلى الآخر، والطريق إلى الآخر بلا محطات تضج بالحماس المفتعل. وإنما هي معاناة استثنائية للخروج من دائرة الذات إلى رحابة الطبيعة، من "الشخصانية " إلى العالم. ولهذا ترتبط مقدمة قصيدة الشاعر بخاتمتها ارتباطاً دينامياً(17):

كفّن اليقظة بالرؤيا وتاه

شاعر كل المنى بعض مناه

تنزف البرهة من أيامه

ألما يعصر للناس جناه

......

هو ذا الشاعر رمز الحق في

عالم ضل عن الحق وتاه

يصلب النفس ليفدي أنفساً

مرّغت في شهوة الحسّ الجباه(18)

"فالقضية عند الشاعر شديدة الوضوح، وهي أن المعاني العليا تمرغت في وحل هذا الزمان الشهوي، والمطلوب من الشاعر أن يكون هو المسيح الجديد الذي يفدي بنقائه الأمثل انحطاط القرن العشرين" (19) .

والله حسب اللاهوت المسيحي تلبس بالمسيح أو صار مسيحاً وجاء إلى الأرض على شكل: إنسان" أهم حدث في تاريخ البشرية ألا وهو مجيء الله إلى عالمنا في شخص يسوع المسيح"(20)، فيجب تبعاً لذلك الإيمان المطلق بالمسيح حتى النهاية "على أن نتمسك بالثقة والافتخار برجائنا تمسكاً ثابتاً حتى النهاية"(21)، فالمسيح هو "الإعلان النهائي والكامل لله. إنه الله ظاهراً لنا في صورة يمكن إدراكها وعائشاً على الأرض كإنسان"(22) . فحديثنا عن الله يتضمن– حسب هذا الفهم اللاهوتي– الحديث عن المسيح لأنهما واحد(23)، "والله في قصائد يوسف الخال هو نقيض "يهوه" في "العهد القديم" الذي يحفن منه الشاعر صوراً كثيرة، ليثبت دائماً نقيضها (24). غير أن إلوهية الإنسان هذه (أو التشبه بالله)، لا تتم بيسر، إنها الهدف الأقصى، إنها غاية صراع الإنسان مع الموت فأن "تحقيق الاتصال الروحي معناه انتفاء كل خوف من الموت، هو الشعور، بأن قوة الحب أقوى من سلطان الموت، وهؤلاء الذين حققوا الاتصال الروحي ليسوا منزهين عن فراق الموت الفاجع. ولكنهم يشعرون أن هذا الفراق مقصور على العالم الطبيعي، وفي عالم الروح، وفي أعماقه، يصير الموت طريقاً للحياة الحقيقية ما دام الموت لا يؤثر إلا على العالم الموضوعي، ولاسيما على شخصية هؤلاء الذين استسلموا لقوته الغريبة"(25) فحين تتفتح عينا الإنسان/الشاعر على حقيقة حاله، يدرك لعنة العقم التي جرها بخطيئته على نفسه :

" .... انظر

كيف غارت جباهنا، كيف جفت

في شرايينا الدماء : وكيف

إنبحّ فينا صوت الإلوهة . " (26)

"وعلى الشاعر/الإنسان أن يعمق هذا الإدراك بفعل كفعل الندامة، إنه فعل ديني مأساوي، إذ يرى الإنسان الهاوية السحيقة بينه وبين الإلوهية، التي يمد ذراعه اليائسة نحوها، ولن ينضم إليها، إلا بعد أن يضع، جسر الإدراك والاعتراف على شفتي الهاوية الفارغة" (27) :

أملح أرضٍ، أم

جبينٌ مسح التراب في مقابر

الملوك – هذه الأنا ؟ ...

... أفمٌ

جاع حتى جاعت الأرض به

فابتلعته ؟ .... " (28)  .

ويتردد فعل الندامة بالاعتراف المستمر بأنه يرى نفسه :

" جاثماً كالهم، كاللعنة، كالخوف

على صدر الجبان،

جاثما كالموت في البرهة في كل مكان

جاثماً بين العظام ...

أنا لا أجرؤ، لا أقوى على

طمر العظام :

قبضتي كلت وأظفاري براها

الزحف من دار لدار ... " (29)

وعليه أن يتذكر حاضره " حاضري يسأل عني ... " ويصر دائماً على التسليم بعد العناء ولكن برضًى :

" المواكب الكادحة الرازحة الكواهل

الغارزة الجفون في الثرى،

المواكب المقعدة الكسيحة التي

تنتظر الخلاص ؟ لا . تنتظر الفناء، بالرضى"(30)

ولكن الشعور بإلوهيته، على الرغم من هذا الإدراك، يظل مجدولاً في هذا الحبل الطويل من الاعتراف و التعميد، والتساؤل و الغضب، فالوحدة التي يشتكيها (31):

" عرفها،

من قبل أن يخلقنا الإله . "

وإذا كانت دارته "سوداء ملأى بعظام " فأنه يأمل أنها " تُبعث يوماً، تدفع الصخرة عنها" (كما فعل المسيح). وإذا أحس –عن طريق شخص آخر هو انعكاس لصورة الشاعر أو الإنسان– أن:

"حياتي لم تعد شيئاً

ترى موتي هو الشيء؟"(32)

أجاب بصدىً درامي لفكرة الفداء المسيحية :

"هو الشيءُ".

وهذا النفس الديني لا تغذيه صورة المسيح الإنسان، الميت/الحي، فحسب، بل كذلك رموز الصلوات الكنسية، المستقاة من التوراة بشقيها، منغمة بنغم كهنوتي، يتقصّده الشاعر لخلق جو الدعوى إلى الإيمان، الدعوى للرجوع إلى الله- رمز الحب الأكبر– الحب المسكوب على الجرح والدم، وشعلة الرضا والسلام(33):

"لو كان لي،

لو كان أن أموت أن أعيش من جديد،

أتبسط السماء وجهها، فلا

تمزق العقبان في الفلاة

قوافل الضحايا؟

أتضحك المعامل الدخان ؟

أتسكت الضوضاء في الحقول،

في الشارع الكبير ؟

أيأكل الفقير خبز يومه،

بعرق الجبين، لا بدمعه الذليل ؟(34)

فالجميع مدعوون إلى هذا العشاء الأخير، حتى يهوذا، فالحقيقة لا تخيفها الخيانة، الخيانة لا تخيف إلا نفسها، لا تخون إلا نفسها، الحقيقة المصلوبة تنهض في اليوم الثالث وإلى الأبد(35). بعد أن غمرت النفس الإنسانية المحملة بالخطايا نفسها في مياه المحيط المقدس(الله) في محاولة لتقديم كفارتها النهائية المتجسدة رمزياً " بالاعتراف والخضوع والندم "، لتصل إلى حالة التطهر من الخطيئة، الملازمة لصورة الإنسان ووجوده في قصائد الخال، والخلاص من الخطيئة عن طريق التألُّه والعودة إلى الجذور السماوية إلى الجسر الذي يعبر عليه الإنسان من الأرض الخراب إلى البحر الزاخر بالحب والخصب والحياة(36). والخلاص لا يتم ببراءة كاملة ممنوحة أو مستعادة،  بل بخطيئة تعرف نفسها، وتمتلك شجاعة الاعتراف، وتحب، وتتبع متساوية به، ذلك الذي تفهَّمها. وأنسنها، يوم مات عنها ميتة إله.

"الخطيئة : هل هي الزنى الجسدي؟ بل هي اسوداد الروح ووحشيتها، وجذام القلب وتسوسه، تدوّد الفكرة وضلالها، و "منع" الإنسان " اعتقال الحرية، مثلا، أو إفلاتها إلى ما "دون" الإنسان قيمة، ودونه حيلة وزماماً ومبادرة أي إساءة تحويلها، والتشويش بها على الحقيقة والتجديف المخدوع بنفسه على(الله). الخطيئة، أي سقوط الإنسان في التيه عن الله وعن الحقيقة، وسقوط الواقع تحت الزيف، ورجولة الإله الفارغة، سقوط الذات في ماخور الطغيان الشرير. سقوط العالم في سطحية الأشياء، وتناقضات المدبرين، تضييع المعنى الجوهري والحضور الصحيح للعناصر، التآمر، أو الزوغان عن فرح الوجود، الخطيئة ليست زنى الجنس، فالمرأة من ألوان البهجة والخصب، واشتهاؤها عادل وجميل، وليس من إله يغضبه ذلك. الإله الذي نفى آدم وحواء لأنهما اعتديا على الثمرة المحظورة ليس إلها. ليس إله يوسف الخال!؟ أما يسوع فقد عطف بكثير من الحب على المجدلية"(37)، فالمرأة ذاتها هي في شعر يوسف الخال طريق إلى الله، أعني أننا في شعره نبلغ الله حتى بالمرأة. كأن وضع الله بالنسبة للخليقة ينعكس، بغايته ومعناه، في وضع الرجل على الصعيد الروحي الميتافيزيقي بالنسبة للمرأة (38) " فجمالها يضيء جمال العالم، ومحبتها تكشف لنا محبة العالم، وفي جمال العالم ومحبته، نكتشف الله: الجمال والمحبة، فالله متصل بالعالم وبه يوجد، وهذه الصلة هي التي تفسر لنا أيضاً حنين الشاعر إلى أحضان الواحد، تفصح عن هذا الحنين بأغنى مظاهره المرئية واللامرئية،  قصيدة (النهر)"(39) :

من ظلمات الجبل الكبير

يخرج نحو حتفه

بالصمت والهدير كفارس الأحلام

في دعائنا الطويل

تحبه السهول

تحضنه

يبدأ حيث ينتهي(40)

يتوحد الشاعر هنا "بالنهر" وهو تجسيد اللانهائية، رمز مزدوج يعبر عن حنين الشاعر إلى الطبيعة الأم(الفرح والجمال)، ويعبر أيضاً عن حنينه إلى الإله/الأب– فيما وراء الطبيعة-  وليست حركة النهر الذي يسافر نحو البعيد في " التيه " أحياناً ! لكن في "صعود" دائم، إلا رمز الاندفاع صوب الواحد، الغاية، حيث ينبع ويصب، أو "يبدأ حيث ينتهي" كما يقول الشاعر(41)، فالتوحد مع النهر هو توحد مع الزمن ليخلق عبر هذا التوحد استيعاب أعمق لحركة الزمن والمجتمع والحضارة، وبالتالي، تحقيق توافق ذاتي ولو إلى حين معها، حيث يمنحه هذا التوافق   "قابلية بودليرية " على تحمل آلامه ومشاكله الحياتية، وتغيير طبيعتها، وتعديلها، باتجاه الإبداع والخلق وضمن الاتجاه والنغم الديني ذاته :

بالله لا تمهلي،

ردّي الحبيب لي،

ردّيه كالإله من غيابه :

أحضنه، أغمره بقبلي

بطيب طيب قبلي،

وفي نعيم جسدي

أسكنه للأبد(42) .

بهذا التوحد والحب مع الإله، يفترق يوسف الخال عن نازك الملائكة التي تتماثل معه، في صدور كليهما عن " نزعة دينية " ورثاها من نشأتهما الأولى، ففي حين يتبنى الخال هذه النزعة، ويحاول ترسيخ وجودها أو بعث الحياة على وفق مضامينها الجوهرية، وجعلهاً منهجاً روحياً وعملياً، نجد نازك الملائكة حاولت أن تثور على هذه النزعة وترد كثيراً من أحزانها، وتأوهاتها، إلى ذلك العنصر الذي انغرس في الذات في أول نشأتها(43). بيد أنهما يتفقان ويلتقيان في الموقف الثاني المهم في حياتهما الشعرية والوجودية، وهو طموحهما المشترك إلى جعل الحقائق الفنية، شريعة أخرى للحياة الإنسانية الراقية " لا يكفينا نحن الشعراء أن نتمرد في الشعر، أن نتحرر من القيود وننطلق إلى آفاق جديدة، علينا أن نتمرد في كل شيء، أن نقلب هذا الواقع رأساً على عقب، أن نعبر إلى الشاطئ الآخر، أن نصعد في مركبه من نار. نظرتنا إلى الوجود يجب أن تتغير، بهذا نرى رؤيا، ونحلم أحلاماً، بهذا تتجدد الكلمة وتحيى وتنمو"(44)، ورغم كل هذه الرغبة في التغيير كان يوسف الخال، حتى في أقصى درجات الافتراق عن حبيبه/المسيح يحاول أن يرتبط مع مركز عواطفه هذا، بعلاقة تبادلية تامة الترابط، حتى في بعض الشطحات التي تمر بالخال، التي يقارب فيها "أزهار الشر" لبودلير، من حيث مزج بعض القصائد (الفسق، بالصوفية، بالحب المسيحي)،  لاسيما في قصائد النثر، وهو اقتراب من الشعر الميتافيزيقي أيضاً، الذي يميل إلى المزج المتعمد بين نوعين مختلفين أو متضادين من العواطف(45):

"عيناك جدولا  نداء . ما أشهى فمك الطفل .

لسانك يصنع الجسد، ولهاثك يعطي نسمة الحياة

آه، أي إله أنت . جنتك لا تغري بالخطيئة .

ثمارها كلها لي . أنا إنسانها الأول .

عانقيني أيتها الغبطة . على جسدك أجريت

زورقي . مجاذيفه شهوة لا تفنى .

للنوء أن يهب ما يشاء . أنا بحار عريق .

زورقي أُرزة من الحب .

عانقيني يا إلهي الصغير . أغمضي آفاقك علي ؟

أحبيني أكثر من الحب . تاريخي جرح عميق لا قرارة له."(46)

فكان الخال بذلك يصل حبيبته عن طريق الله أيضاً، ماحياً الخطيئة الأصلية، والخطيئة عند الخال هي كاللعنة الموروثة (Ãte) عند الإغريق، وكالقدر عند المسلمين:

ربّاه حينما تعيدني إليك

ماحياً خطيئتي

أعد اليّ، وحدها، حبيبتي

لكي يصير ما أقولُه غناء

تسمعه،

تحب أن تسمعه السماء(47).

لتعود الحبيبة بدورها تصله بالله من جديد، في لحظات فرح نادرة، وسط بحر اليأس والمراثي(48).

إن النزعة الإنسانية عند الخال من حب للحياة وإخلاد إلى الأم العظمى (الأرض) تتصارع مع فكرة الخلود وفكرة الحياة الزاهدة (المانوية) التي تقر بحقارة الجسد الإنساني، وتفاهته، والميل إلى إهماله أو تعذيبه، لتعطينا قصائد دنيوية " باردة وشاعرية كالفجر " ذات إيقاع مختلف عمّا ألفناهُ من قبل عنده، فهي جميلة، وفَطِنَةٌ، تكشف عن رؤيا عميقة للدوافع الإنسانية، وتحاول أن تدب الروح في الأشياء الجامدة، أو المنطوية والمنعزلة، فعلى الرغم من شعوره الدائم بالحاجة إلى بؤرة روحية، لم تكن حياته هروباً كلياً من الحياة اليومية أو الحياة الواقعية. فنجد أفراح و أتراح الحياة في شعره مزينة وبشكل محبب، يضفي عليها طابع الإيمان، طابع الحب هذا، ليلتقي عنده في النهاية هذان المتوازيان البعيدان، القريبان: الوجود البشري، والوجود الإلهي، في "أرض ميعاد" روحية قصية، فالحس الديني المضمر في القصائد الدنيوية أو الموجهة إلى المرأة، الذي يبرز من خلال إحساسنا بأن هناك معنىً أساسياً مخفياً؛ نوع من الوحدة مع أشياء الوجود، تهدف إلى تحقيق هدف سامٍ ونبيل، ولكن من خلال الوقائع اليومية.

لقد خرج يوسف الخال، بصورة فذة تمثل عبئاً من المسؤولية ألقاه على عاتقه روح دينية مرتبطة بالمطلق، وفكر حر توّاق إلى كل ما هو جديد، لا نكاد نراها في أي مكان من الأدب العربي الحديث: "إن يوسف الخال، الوارث ضمن التراث المسيحي الخاص، هو فاتحة التجربة المسيحية بالمعنى الميتافيزيقي الخالص في الشعر العربي"(49)، فمقياس الجمال عنده هنا لم يعد مجموعة من القواعد والمبادئ الفكرية والجمالية فقط، بل هناك عاطفة دينية جديدة حقيقية، فأخفت سطوع لمعان فكرة " الله "  كل فكرة أخرى، وكشفت لنا الطبيعة الحقيقية ليوسف الخال.

*  *  *

لقد كتب يوسف الخال ملحمة شعرية تخالف أصول وقواعد ومنهج بناء كل الملاحم التي وضعها النقاد، فلم يكن فيها ذلك الأسلوب الجاد المبجل في الملحمة التقليدية، فهي قصيدة قصصية طويلة لعلاقة الإنسان بالإله في شقيها الإيمان و الخطيئة وعبر كل العصور، ولم يكن بطلها إلا الشاعر نفسه، الذي يمثل مُثلاً دينية وثقافية، تعرّج على المشكلات الإنسانية الخالدة. فكرتها الكامنة تحمل الضعف الإنسان، وعوامل الانتصار عليه، بنفس ملحمي يكاد يشيع في شعر الخال من أوله حتى آخره، لاسيما في أقصر قصائده، إنها ملحمة ذاتية خاصة في كل أبعادها الفكرية والجمالية.

وقد تقدم القول، بأن هذه الرؤيا برغم مظهرها الميتافيزيقي، لم تكن إلا انتصاراً للإنسان وقضاياه المصيرية، فكان عمل الخال محاولة لبعث الأشياء الفاقدة للحياة، والتي يجب أن تحيى من جديد. وإطلاق رصاصة الرحمة على كل فكرة نبذتها الحياة المعاصرة، وهذا ما يتفق مع طروحات الخال النظرية في هذا المجال، وإن كانت تبدو متقدمة أو مناقضة لرؤيا الشاعر الإبداعية، بيد أننا إذا ما تجاوزنا ظاهر الأشياء إلى عمقها بحثاً عن الحقيقة والجوهر، لوجدنا أن الرؤى النظرية والإبداعية تعملان في خطٍ واحد، ذلك أن الغاية لكليهما، هو"بعث" الإنسان، و"الانتصار" لحريته، و"الحرص" على مصيره.

وما تبني الخال للقضايا الوطنية التي يعيشها المجتمع ويفرزها واقع الحياة الجديدة إلا ينبوع يصب في ذلك النهر، و يمكننا وعبر الاطلاع على قصائد( المجد للثلاثة، العابرون، بعد الخامس من حزيران) أن نرى الخال وهو في صميم الألم الإنساني الذي تفرزه الوقائع اليومية، إذ لم يكن منعزلاً في صومعته الجميلة، بعيداً عن المجتمع، بل كان واحداً من بناة العصر، يعيش ألم الحياة وفرحها، سواء بسواء مع أبناء وطنه، ولا يسعه إلا أن يحب ويعشق هذه الأرض :

كنت أودّ  أن أرى

ماذا وراء تِلْكُم القمم

لكنني أُحبّ هذه السفوح مثلما

يُحبّ جُرحَهُ الألم(50).

*  *  *

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن هذه المهيمنات الموضوعية والفكرية الرئيسة (المفازة، البعث، الله)- التي قدمناها في قراءات ثلاث لشعر الخال-  لم تكن إحداها منفصلة عن الأخرى، بل أنها تتماها بعضها بالبعض الآخر،وما تقسيمها إلا محاولة لتسليط الضوء على كل منها، للحصول على أكبر قدر ممكن من الكشف عن كل ثيمة فيها.

 

 

 

د. رياض الناصري

‏السبت‏، 10‏ تشرين الأول‏، 2020

........................

الهوامش

1-  ينظر: الأنساق الدلالية والإيقاعية في ديوان "البئر المهجورة"، للشاعر يوسف الخال، عبد القادر الغزالي، مجلة " نزوى "، ع 11، 1997، ص87 .

2- الأعمال الشعرية الكاملة، ص197.

3- ينظر:الأنساق الدلالية والإيقاعية في ديوان " البئر المهجورة "، ص87.

4- نفسه والصفحة نفسها.

5- الأعمال الشعرية الكاملة، ص197.

6- ينظر: الأنساق الدلالية والإيقاعية في ديوان " البئر المهجورة "، ص87.

7- المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، فيليب فان تيغم، ترجمة: فريد انطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط3، 1983، ص12.

8- رونسار، عن المصدر السابق، ص12 .

9- ينظر: البئر المهجورة ليوسف الخال، ص142.

10- دفاتر الأيام، ص119.

11- ما قبل الفلسفة، هنري فرانكفوت وآخرون، ص14.

12- أزهار الشر، بودلير، ترجمة: خليل الخوري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1989، ص30 .

13- نفسه، ص31 .

14- ينظر: مسيحية المنطق وعبثية الايمان، ص95.

15- الأعمال الشعرية الكاملة، ص203 .

16- ينظر : شعرنا الحديث إلى أين ؟، ص137 .

17- نفسه، ص180 .

18- الاعمال الشعرية الكاملة، ص17 وما بعدها .

19- شعرنا الحديث الى اين ؟، ص180 .

20- الإنجيل، كتاب الحياة، ط6، 1982، المقدمة .

21- نفسه، ص651.

22- موسوعة الكتاب المقدس، دار منهل الحياة، لبنان، 1993، ص31.

23- إن الرسالة التي ينطوي عليها الإيمان المسيحي، ملخصة ببراعة في بضع عظات مدونة في " سفر الأعمال ".

24- النار والجوهر، ص42.

25- العزلة والمجتمع، ص179.

26- الأعمال الشعرية، ص227 وما بعدها.

27- النار والجوهر، ص43.

28- الأعمال الشعرية الكاملة لم تضم هذه القصيدة (الوحدة)، فنقلنا هذا المقطع عن المصدر السابق، ص43 وما بعدها .

29- الأعمال الشعرية الكاملة، ص200 وما بعدها.

30- نقلاً عن " النار والجوهر "، ص44.

31- ينظر: النار والجوهر، ص44.

32- الأعمال الشعرية الكاملة، ص216.

33- النار والجوهر، ص44 وما بعدها .

34- الأعمال الشعرية الكاملة، ص204.

35- ينظر: دفاتر الأيام، ص67.

36- أسعد رزوق، نقلاً عن: شعرنا الحديث إلى اين؟ ص137.

37- ينظر: مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، ص98 وما بعدها.

38- ينظر: قصائد مختارة، ص22.

39- ينظر: قصائد مختارة،ص22.

40- الأعمال الشعرية الكاملة، ص306.

41- قصائد مختارة ليوسف الخال، ص22.

42- الأعمال الشعرية الكاملة، ص239.

43- ينظر: من الذي سرق النار(خطرات في النقد والأدب)، د. إحسان عباس، جمع وتقديم د.وداد القاضي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980، ص177.

44- دفاتر الأيام، ص64.

45- ينظر: دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ص582.

46- الأعمال الشعرية الكاملة، ص272.

47- الأعمال الشعرية الكاملة، ص265.

48- ينظر: السريالية وتفاعلاتها العربية، عصام محفوظ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1 1987، ص118.

49- قصائد مختارة، ليوسف الخال، ص22.

50- الأعمال الشعرية الكاملة، ص364.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم