صحيفة المثقف

ملحمة يوميات الثورة: قراءة في (ملحمة التكتك) للشاعر يحيى السماوي

يمتلك الشعر جمالية خاصة، اذا كان مختزلاً من شوائب الاستطراد الزائد بالحشو الزائد. التركيز في تصوير الحدث ووصف رؤيته البليغة (كلما أتسعت الرؤية ضاقت العبارة) هذا التكوين الشعري الخلاق في التركيز المكثف. يعجنه الشاعر السماوي الكبير ببراعته الفذة، في عملية الخلق والابتكار يشكلها بعجينتها الطيعة. التي ينفخ في اشكالها في المعنى الدال بعمق خلفيته وسيمائيته الظاهرة والباطنة (في الدلالة والاشارة) التي تعطي المعنى البليغ لأخيلته التصويرية، التي ترتقي الى مستوى الاحداث البارز ة، وفي بصيرته الثاقبة والنافذة. والديوان الشعري (ملحمة التكتك) يمثل قمة تقمص واستلهام اغوار ثورة الشباب بيومياتها العاصفة بالاحداث المرئية التي طفحت على السطح. من تراكم الزبى ومعاناة السنين، في وطن ينحدر الى التدهور الخطير. والصياغات الشعرية تملك قوة المعنى والعبارة. قوة الفعل الدراماتيكي الفاعل، قوة الرؤية الصائبة في مفاعيلها التي تجسد الاحداث وخلفيتها الدرامية والدموية في اراقة انهار من الدماء في ثورة الفتية والشباب. في استقراء يومي لاحداث الثورة التي غيرت وجه تاريخ العراق السياسي قبل وبعد الثورة. الديوان الشعري (ملحمة التكتك) مخصصٌ في تقصي يوميات الثورة، وجاء اهداء الديوان الشعري الى ثورة الشباب الفتي وشهدائه الابرار (الى جميع شهداء ثورة الخامس والعشرين من اكتوبر السلمية الذين سقطوا مضرجين بحب العراق، والى الذين لم يستشهدوا بعد..) والديوان الشعري يمثل تجسيداً حياً وفعلياً للتوثيق الملحمي ليوميات الثورة. كما وثقت الثورات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ، مثل الثورة الروسية والثورة الفرنسية وغيرهما من ثورات الشعوب الطامحة الى الانعتاق والحرية. فقد تجسدت يومياتها (شعراً وسرداً) والسماوي يسجل هذه المبادرة التاريخية في الشعر العربي والعراقي، في تجسيد يوميات الثورة بالوثائق اليومية في احداثها العاصفة. قبل خميرة الثورة والتي تراكمت في الانفجار الكبير، الذي هز كيان العراق، كما هز كيان الاحزاب الحاكمة. وهذا التوثيق الشعري في بياناته الدالة، من شاهدٍ عاش عمق الاحداث العاصفة، وسجلها باحساسه الوجداني الذي يهفو بعشق الوطن. والشاعر في مهارته التسجيلية التاريخية، يرتقي الى سجدة الشعر في براعة تكوينه، الذي ينبض في احساس ووجدان الناس، يمثل التجانس الروحي والمعنوي في الذات الجمعية ، يسجل نبض الوطن وخفقاته الملتهبة بنيران الظلامين من الارهابين واللصوص الفاسدين. الذين سمموا عروق الوطن بسمومهم القاتلة. لكي يخنقوا هواء الوطن بدخان حرائقهم.

تمثل المجموعة الشعرية تسجيلا احترافياً بارع الدقة، بحيث يجعل القارئ يعيش الاحداث العاصفة، ويشحن ذهنه بالتأثيرات الحماسية، ويدرك عمق الصورة المشرقة، للصمود والتحدي والمجابهة بالصدور العارية، التي تلقت قنابل الموت الدخانية من المرتزقة الملثمين. ويضعه في صورة الصمود البطولي، هذا يؤكد بشكل ساطع، أن العراق لن يموت، فلابد ان يبزغ النور من كنف الظلام الدامس. هذا الاصرار العنيد في نيل الشهادة في سبيل الوطن، رغم اراقة انهارٍ من الدماء. ولكن الشباب والفتية صرخوا بصوت مدوٍّ واحدٍ (هيهات منا الذلة) كما صرخ بها الامام الحسين في استشهاده العظيم، لا يمكن الخضوع لقوى الظلام. الديوان الشعري يبرز جوانب الصراع العنيف، يجسدها من مرئيات الواقع، بين الصدور العارية التي تتلقى الموت وهي تحضن العلم العراقي ليغرقوا في برك الدماء من البلطجة الدموية السادية. يجسد النص الشعري لهيب رصاصات الغدر من اللصوص والفاسدين الذين خلقوا اقزاماً تجلب الموت والانتقام. يجسد النص الشعري اعادة من جديد ملحمة كربلاء على ارض العراق. بنصوص شعرية واسعة الافاق وبالمغزى البليغ. ان الملحمة الشعرية للسماوي (ملحمة التكتك) تنقل الشعر الى الفعل الدرامي الملحمي، المرهف في احساسه، في ضمير عاشق الوطن. لنأخذ فيضاً من غيض او بالعكس. × ندخل في صلب الدولة العميقة. التي شيدها اللصوص واالفاسدون، ونصبوا أنفسهم أسياد اً وملوكاً وسلاطين. دولة جلالة الخليفة، واشبعوا بتخمة المال من الياقوت والذهب والدولار، وتنعموا بفردوس الارض، ومنحوا الشعب الدخان والغبار والاهوال والمصائب. في هذه الدولة العمياء. دولة الغنائم وتوزيع الحصص على السراق والعملاء. فما فائدة ان يتنعموا بالبستان والبيدر والحقل، ويحرموا الجياع. فما فائدة كمامات المتظاهرين، وقنابل الموت تخترق الجماجم وتحرقها بالدخان. لقد شيدوا دولة الحقد والاجرام.:

جلالة الخليفة

قبلَ أن تُشيدَ لنا الجسور

شُقَّ لنا الانهارَ أولاً..

الـجـائـعُ يـحـتـاجُ خـبـزاً

لا حَـجَـراً يـشـدُّهُ عـلـى بـطـنِـه..

*

إذا كـنـتَ نـيـرون

فـبـغـدادُ لـيـسـت رومـا

لـمـاذا إذنْ تـريـدُ إحـراقـهـا ؟

*

الـطـيـورُ لا تـبـنـي أعـشـاشـهـا عـلـى ىشـواهـد الـقـبـور..

قـبـل أنْ تـطـلـبَ مـن الـمـتـظـاهـريـن خـلـعَ الـكـمّــامـات

أطـلـبْ مـن مـرتـزقـتِـك ومـيـلـيـشـيـاتـك

خـلـعَ الـلـثـامِ أوّلاً..

أنـتَ وحـاشِــيـتـكَ أصـبـحـتـم

زائـديـن عـن الوطن كـالـزائـدة الـدوديـة

الــرَّعـيـةُ مُـنـشـغِـلـةٌ بـإصـاخـةِ الـسـمـعِ لِـعـجـلاتِ " الــتـكـاتـك "..

*

" نـوح " لـم يـحـمـلْ فـي ســفــيـنـتـهِ زوجـاً مـن الـلـصـوص الـفـاسـديـن

فـكـيـف أصـبـحـوا زرافـاتٍ

فـي وطـنـي الـمـعـروض لـلـبـيـع والإيـجـار

في حوانيت المحاصصة !

لايمكن أن يستمر الظلم والحرمان والطغيان، فلابد ان تدق ساعة التحرير. ساعة الحساب والعقاب. ان يهجم الجياع على الآلهة التمر. ذات غد قريب لا ريب فيه، اليوم الذي يخرج فيه العراق من الظلام الى النور. وتصبح لافتاتهم، حفاظات للاطفال:

ذات غـد (الـسـاعـة آتـيـةٌ لا ريـبَ فـيـهـا) سـاعـة يـقـضـمُ الـجـيـاعُ الآلـهـةَ الـتـمـر

* (ذات غـدٍ ســيـجـمـعُ الـفـقـراءُ لافـتـاتِ أحـزابـكـم

وأعـلامَ مـيـلـيـشـيـاتـكـم

لِـيـصـنـعـوا مـنـهـا حـفّـاظـاتٍ لـلأطـفـالِ)

عطلوا الحياة برمتها واصبحت مسرحاً للقناص الملثم. أن يقتل ما يشاء ويفعل ويعبث بالارواح البريئة مثلما يرغب. فقد وجدوا وظيفة جديدة. وظيفة القناص الملثم، وتعطل التكبير في المآذن التي اصبحت عاطلة يملكها القناص الملثم. هذا ابتكار احزاب الغضب الالهي:

(أخـيـراً: إبـتـكـرَ الـقـنّـاصـون وظـيـفـةً جديدة لـلـمـآذنِ الـعـاطـلـة عـن الـتـكـبـيـر!)

من بركات الاحزاب الحاكمة التي تقودها شلة من اللصوص والقتلة، عطلوا كل شيء. سوى حفاري القبور يشتغلون بمجارفهم بالعمل المرهق والمتواصل لحفر المزيد من القبور للملائكة الذين حصدهم رصاص الابالسة القناصين:

(وحـدهـم حـفّـارو الـقـبـور:

خـرجـوا لـلـعـمـل مُـشـمِّـريـن عـن مـجـارفـهـم

لـحـفـر الـمـزيـد مـن الـقـبـور

لـلـمـلائـكـة الـذيـن حـصـدَهـم: رصـاصُ الأبـالـسـة!)

تساؤل وجيه لماذ يصر الناس مع سبق الاصرار على الانتحار ؟، في بصمة الحبر البنفسجي، في شرب سم الحبر البنفسجي، وبارادتهم واختيارهم الحر ـ كما فعل (سقراط) في شرب السم. يعني المشاركة الطوعية في جريمة اغتيال الوطن:

(نحـن لــســنـا " ســقـراط "..

فـلـمـاذا شــربـنـا سـمَّ الـحـبـرِ الـبـنـفـسـجـيِّ

مـن تـلـقـاءِ أصـابـعـنـا !)

لا شعر يعلو إلا شعر الناس.

لا صوت يعلو إلا صوت الناس. ولا شعر يكتب إلا بدماء الشهداء في ساحة التحرير. ليكتب شعراء الوطن المعلقة الثامنة، ويعلقوها على جدران كعبة الثورة، على جبل أحد، في المطعم التركي:

(نـحـن ـ الـشـعـراءَ ـ جـمـيـعـنـا نـكـتـب قـصـائـدنـا بـالـحـبـر..

إلآ فِـتـيـةُ وشــبـابُ سـاحـةِ الـتـحـريـر

فـإنـهـم يـكـتـبـونـهـا بـدمـائـهـم..

لـذا فـهـم الأشـعـرُ مـنـا جـمـيـعـا..

الـمـعـلـقـاتُ لـيـسـتْ ســبـعــاً..

إنـهـا ثـمـان

سـبـعٌ عُـلِّـقـنَ عـلـى جـدران الـكـعـبـة..

والـثـامـنـة عُـلِّـقـتْ على جَـبَـلِ أُحُـد الـثـورة فـي الـمـطـعـم الـتـركي !)

لا يمكن التستر على الجريمة البشعة، التي داهمت الشباب في اواخر الليل وهم نيام. من قبل جنرال قاتل ومسعور لسفك الدماء. فلابد ان تأتي ساعة الحساب لهذا السفاح القاتل. حتى حذاء الشهيد ينتفض مطالباً بحقه في القصاص. ولابد للقضاء العراقي ان يستيقظ ضميره بميزان العدل، ويطالب بدم الغزلان البريئة والطاهرة، هذه هي عدالة الارض والسماء من الجزار القاتل:

(الـشـهـيـدُ الـذي حـلَّـقَ مـن جـسـر الـنـاصـريـةِ نـحـو الـسـمـاء

تـركَ حـذاءَهُ الـمُـلـوّنَ بـالـلـونـيـنِ الأسـودِ والأحـمـر..

الأسـودُ: لـون لِـثـام الـقـنـاصّـيـن..

والأحـمـر: لـون شـارةِ الأركـان الـتـي يـحـمـلـهـا الـجـنـرال..

الـجـنـرالُ الـذي أصـدرَ الأمـرَ لـذئـابـه

بـنـهـش أجـسـادِ الـغـزلان)

سقطت الاقنعة وبانت العورات، لم تعد الوعود الكاذبة منقذاً. فقد تكسرت وداستها اقدام العابرين. فالشباب كتبوا الوعود الكاذبة بالطباشير على ارصفة ساحة التحرير وداستها أحذية العابرين:

(نـعــرفُ أنَّ وعـودكـم كـاذبـة

لـذاكـتـبـنـاهـهـا بـالـطـبـاشـيـرعـلـى أرصـفـةِ سـاحـةِ الـتـحـريـر

لِـتـقـرأهـا أحـذيـةُ الـعـابـريـن

قـبـل أنْ يـمـسـحـهـا الـمـطـروالـعـاصـفـة)

***

الكتاب: ديوان شعر: ملحمة التكتك

× المؤلف: الشاعر يحيى السماوي

× تاريخ الاصدار: عام 2020

× اصدار: الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق - بغداد

× عدد الصفحات: 117 صفحة

***

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم