صحيفة المثقف

"العولمة" إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (8)

ويأتي تسويق هذه الافكار ضمن برامج إعادة هيكلة اقتصادات الجنوب، ومتهمة القطاع العام  بأنه السبب في الاختلالات والمشكلات في البيئة الاقتصادية، إذ راحت تروج الافكار القائلة، ان التنمية ستتحقق عن طريق اللحاق بالرأسمالية وآلياتها ومنهجها العام .

إن وسائل الهيمنة في حقيقة الأمر هي للتهرب من واقع ازمة النظام الرأسمالي، تلك الأزمة التي تعتبر السبب الرئيسي في تردي اوضاع البلدان النامية . لذا تحاول الرأسمالية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الهروب من (حل الأزمة) الى (إدارة الأزمة) من اجل استمرار تحكمها في اقتصادات بلدان الجنوب وفرض هيمنتها على مقدراتها والتحكم بمستقبلها وفرض نوع من القيود التي تعيق نموها وتوجيه اقتصاداتها . ومن خلال هذا المنطق الرأسمالي يتزايد دور الشركات متعددة الجنسيات، ويزداد انفراد وتحكم رأس المال وتتزايد (الخصخصة) ويضعف دور الدولة وربط أقاليم محددة بمراكز سيطرة معينة ثم إدماج الإقليم في مراكز السوق العالمية بما يضمن هيمنة الشمال على إقتصادات الجنوب في إطار ما يسمونه بالعولمة .

فالولايات المتحدة تقف ضد من يخالف (لبرلتها، وأقلمتها، وعولمتها، وخصخصتها) بإستخدام كل الوسائل الرادعة ووسائل الإبتزاز والتهديد . ولعل من ابرز الشروط () التي تفرض على بلدان الجنوب في إطار التوجهات الليبرالية التي تأتي كوصفة جاهزة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لكل الدول ولكل الحالات، ما يلي :

1- تخفيض اسعار الصرف 2- تقليص دور القطاع العام وإعطاء دور متميز للقطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية 3- تحرير التجارة الخارجية وتحرير الأقتصاد 4- رفع الدعم عن الأسعار للسلع الأساسية 5- تحرير الأسعار وتحرير أسعار الفائدة 6-  توجيه الإنتاج نحو التصدير 7 - إلغاء الحماية للسلع الوطنية 8- تخفيض الإنفاق العام 9-  زيادة الضرائب .

إن قراءة متأنية لهذه الإجراءات هي بمثابة تخريب لإقتصادات هذه الاجراءات المقدمة في شكل وصفة جاهزة هي ذات تأثير كبير ولا تشكل مرشداً للسياسات الاقتصادية .

نخلص مما تقدم الى ما يأتي :

-إن الليبرالية المغطاة بشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تتمثل في تيار يطالب بتفكيك القطاع العام وإبعاد الدولة عن إدارة  الانشطة الاقتصادية .

-فرض خيارات اقتصادية على البلدان النامية تساعد المراكز الرأسمالية المركزية الاقتصادية في الاقتصاد العالمي .

-دعوة لسيادة النموذج الليبرالي الاقتصادي في دول الجنوب .

-خطوة نحو تدويل وعولمة الانتاج في اقتصادات الجنوب تمهيداً لدمج وحدات الانتاج المحلية بالانتاج العالمي دمجاً تابعا .

لقد ادركت بعض دول الجنوب النامية حقيقة الطريق المسدود لليبرالية واتبعت طريق التنمية المستقلة ورفضت آلية الليبرالية والعمل باستراتيجية الاعتماد على الذات على وفق الامكانات والقدرات ومراحل التنمية، فضلاً عن توسيع منافذ الموارد وعدم الاعتماد على مورد واحد وتنويع مصادر طلب العون من خارج أليات العولمة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على سبيل الحصر .

إن ما تنطوي عليه الشروط آنفة الذكر تخلو من الكثير من الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والانسانية، ومنها تَجاوزها على دور الدولة الايجابي وإغفالها لممارسات الاحتكارات وسلبيات القطاع الخاص الاستغلالي وإنسياقه وراء الربح بغض النظر عن النتائج السلبية التي يتعرض لها المجتمع . كما ان من ابرز عناصر المنهج الليبرالي التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي شروط هاتين المؤسستين ومنظمة التجارة العالمية وهي :

اولاً- تحرير الاقتصاد القومي، أي إزالة القيود والضوابط التي تحد من حرية حركة قوى السوق، سواء على مستوى الاقتصاد المحلي أو علاقته بالسوق الدولية .

ثانياً- أن تكف الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي .

ثالثاً- عدم إعاقة حركة الرساميل المحلية والاجنبية وما يعيق وحدة السوق الدولية، وضمان ما يخدم في النهاية مصالح القوى الاحتكارية المسيطرة على هذه السوق .

رابعاً- ان برنامج صندوق النقد الدولي لتصحيح الاختلالات في الدول النامية ينطلق اساساً من النظرة الجدية، والتي تعالج اوضاع البلدان المتقدمة النمو، وبذلك يكون الصندوق قد انحاز لأيديولوجية اقتصادية محددة ومرسومة .

خامساً- تحرير اسعار الصرف وتركها تتحدد وفقاً لقوى السوق بحيث تكون اسعاراً معلومة وموحدة لجميع المعاملات، ويدعو الصندوق الى تخفيض قيمة العملة بدعوى تشجيع التصدير، ويعني تحرير اسعار الصرف والتجارة الخارجية، وحرمان الدولة من أية فرصة لحماية اقتصاداتها وصناعاتها، فضلاً عن حرمانها من تحقيق الاستقرار النقدي في ظل الوضع النقدي الدولي الراهن الذي يسوده تقلب الاسعار في العالم .

سادساً- تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وإتاحة الفرصة الكاملة أمام رأس المال المحلي والاجنبي، وتوفير الشروط اللآزمة لذلك، ويطالب الصندوق بالكف عن إقامة مشروعات جديدة مملوكة للقطاع العام، وكذلك بيع المشروعات القائمة الى رأس المال الخاص .(*)

لقد كانت محصلة الكثير من تجارب الصندوق ما يلي :

أولاً- رفع الاسعار وتركها لتحددها تكاليف الانتاج .

ثانياً- تخفيضات عديدة من الانفاق الحكومي الاستهلاكي والاستثماري.

ثالثاً- انتشار الركود والبطالة .

رابعاً- مضاعفة العجز في الميزانية .

خامساً- تزايد حجم التضخم .

سادساً- تمكين القطاع الخاص من السيطرة على الانشطة الاقتصادية.

سابعاً- تحويل الانشطة الاقتصادية الحكومية والخدمات الاجتماعية (الصحة، والتعليم، والإسكان) الى خدمات مدفوعة الأجر.

ثامناً- تفكيك القطاع العام .

تاسعاً- تفاوت هائل في توزيع الدخل.

عاشراً- إرهاق كاهل الطبقات الفقيرة .

احد عشر- تخفيض الاجور الحقيقية (بسبب تجميد الاجور وارتفاع الاسعار).

إثنا عشر- ظهور انشطة طفيلية تبحث عن الربح السريع دون التنمية الحقيقية.

ثلاثة عشر- رفع كل انواع الدعم عن السلع الاستهلاكية والانتاجية وتعديل الاسعار بحيث تتناسب مع الاسعار العالمية.

ويمكن القول : ان سياسة الصندوق الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية تعني باختصار التدخل السافر في الشؤون الاقتصادية لكافة دول الجنوب بصورة خاصة، كما ان لهذه المؤسسات اهدافا سياسية في نشر الرأسمالية عن طريق الليبرالية، وهي لذلك حريصة على اندماج اقتصاد البلد النامي في السوق العالمية دمجاً تبعياً للمركز الرأسمالي العالمي. (*)

يتبع ...

 

د. جودت صالح

12/10/2020

.........................

د. زكي العابدي/  مصدر سبق ذكره – ص 217-221.  (*)

أ. د. حميد الجميلي/ التجربة الاقتصادية الجدية- ابعادها وانعكاساتها- نشرة اقتصادية – العدد الأول السنة الاولى 2000 ص 3-8.   (*)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم