صحيفة المثقف

تعويذات

امان السيد في منتصف الشارع الذي يقابلني، يتوقف فجأة، ثم يتابع سيره، وهو يسحب قدميه بثقل، فيتملكني ارتعاش قويّ حيال ما رأيته!.

أفكر، ماذا لو لم أكن حريصا في أثناء القيادة، وماذا سيحصل لو أنه خطر له أن يغذّ السير، ولم أتمكن من الضغط على الفرامل سريعا، وماذا لو في الأساس لم ألاحظ وجوده؟!

بالطبع، فأنا أعي ما ينتظرني، ولا سيما أني مواطن أكثر من عادي، بالكاد استطاع أن يقتني سيارة  صغيرة بعد سنوات من التّغرب، والعمل المضني.

شعرت بأن سيولا من الألفاظ النابية تتراكم عليّ، وتجلدني حين فقط تخيلت الموقف الذي سأوضع فيه، وما سيليها من قضاء لا عدالة فيه، فيما لوكان للرجل ظهر، أو سند.

كان الشابّ في الخامسة والعشرين من عمره شاحبا، فتراءى لي مثل خيط من شفق، وكان يترنح في مشيته، ويكاد يسقط إلى الأمام، بشرته شفّت بما تحتها من العروق، والأوردة، أما طرف وجهه الذي استقبلني منه، فقد كان يوحي بأنه في منتهى الموت، والفناء.

كان  في ذلك الوقت مرتديا " فانّيلا " قطنية، بنية اللون عرّت منه الذراعين، وانسدلت فوق بنطال قصير قديم انحدر ليتوقف عند ركبتين نتأتا فوق ساقيه الرفيعتين، وسمح لقدميه أن تتّقدا في الظهور، وقد ارتدتا ما يطلق عليه عندنا بـ " زَنّوبة، أو شحّاطة بإصبع".

الشارع الذي كنت أقود سيارتي فيه يقع وسط مدينة، ضجيج منتصف النهار فيه جزء من المعاناة اليومية لسكانها، تضاف إليه الحفريات، والإصلاحات التي يؤخّر العمل فيها للصيف بحجة أن الشتاء لا يسمح، فتجعل الناس دائمي الشكوى، والتذمّر، لأنهم مقتنعون أن ذلك التأجيل ليس إلا وجها من وجوه الفساد يتقصده من وُلّوا الأمور لما سيعود عليهم بالمنفعة، والربح.

كنت ما أزال أغرق بين الأفكار إلى أن انتشلتني الإشارة الضوئية الحمراء، وقد أخذ الشرطي يشير إلى السيارات لتنطلق، وكنت ما أزال غير مطمئنة إلى ما قد يصدر عن أحد العابرين الماشين من استهتار لا أشك في أنه سيعرض السائقين إلى الخطر.

لم يخطئ بي الظن، فذلك الشاب كان غير عابئ، لا بالشرطي، ولا بالسيارت المكتظة، ولا بإشارات المرور، ولا بسلامته أيضا.

يتنقل بين السيارات، يلوّح بكفيه، يتوقف برهة، يحجلُ، ثم يتابع سيره، بتّ لا أستطيع الحكم عليه، أهو مريض، أم مصاب بمسّ في عقله، ثم إن عينيّ حين نظرتا إلى جلده، وقد صار بمحاذاتي، لم تصدقا ما رأتاه عليه، كيف بإمكان أي شخص أن يُدمّر جلده بمثل ما قام به  ذلك الشاب، نقوش، وأختام حُقنت بصباغ مُزرّق سرى بكل وحشية، وعنف في كل موضع منه، كان ما رأيته يخرج عن قناعاتي، وعن قناعات سكان مدينتنا أيضا!

استهجنت الشابّ في مجمله، في أسلوب سيره، وفي مظهره، وأختامه، وازدرائه للجميع، وللقوانين، لكن أغرب ما استطعت قراءته من النقوش التي ملأته، كان حروفا ثلاثة جمعتها كلمة افترشت أكثر المساحات المتكشفة من جسده، ففسّرت تلقائيا ما يسيطر على وعيه من المعتقدات، والقناعات.

الاسم متداول بشدة في الشريط الساحليّ، ثلّة تطلقه على بنيها أسوة بشخص صاحبه آملين أن يحوز السميّ بعضا من خلاله الكريمة، وثلّة أخرى تتذرّع به عبر سباق من التعصّب، والتحدّي، وآخرون جهلا، وتقليدا دون أن يكونوا قد فقهوا شيئا من سمات من يتقلدونه، اسم لوقعه ألفة، وسطوة لدى الطائفة المسلمة باختلاف مشاربها، فهل يكون الاسم المنقوش على الشاب " عليّ " ذاك اقتداء، أم تعصبا، أم ....،  ثم إنني سلمت بالأمر بلا جدال، ورحت أنادي عليه، وأكرر المناداة: عليّ، عليّ...

ما الذي دفع بك يا " عليّ " إلى أن تنقش الاسم على جلدك بهذا الشكل الدامي، ألعلّك خشيت أن يسقط عنك سهوا، أو لعلك خشيت عقابا إلهيا إن لم تقم بذلك؟!

*

أحاول أن أستكمل طريقي، وأرغب بالتوقف عن هلوساتي في شارع استمر يزدرد بصعوبة ما فيه من الازدحام، والعشوائية، والحرّ، غير أني أشعر بالشاب، وقد التصق بوجهه على زجاج سيارتي الجانبي ناحية المقود منطبعا على وجهي الملتصق أيضا بزجاجها من الداخل، فسقط ما تقنّعنا به، حين التقت نظراتنا، الرّسالة اتّضحت على التوّ، ولا سيما أنها ارتفقت بقبضته التي نفرت منها رؤوس عظامها، شدّد من النّقر على جبهتي، أحسست به يريد انتشالي من جحيم أفكاري، فهل تراه عرف بما كنت أفكر به؟!

أخذ يخفق برأسه على الزجاج أيضا، هل كان يرغب بأن ينتحر، ويورطني به، أم هل كان له غرض آخر؟! أقسم، إنه يتقصد ما يقوم به، ولكن لم اختار سيارتي المسكينة تحديدا!

لم يُجد تجاهلي له نفعا، فرددت وجهي عنه، وانطلقت أهمهم، وأعوّذ نفسي بابتهالات اختلطت ببعضها، وأراقبه خلسة، أما الشرطي، فكان يراوح في مكانه بهدوء قاتل، ولم يحاول شيئا مع الشارع الذي أوقده الانتظار باللهيب، والثورة، وكان الهياج قد اشتدّ بالسائقين، وتجرأ بعضهم على شتم الفساد، وأصحابه، حين تأكد لهم أن أصواتهم لن يقُبض عليها، بسبب ما يعتمل من فوضى الازدحام، في حين لم يتوقف الشاب الذي لحقت به العدوى عن الخبط الذي انقلب إلى ركل أيضا، يخبط، يركل، يطأ السيارة بتتابع بأسفل " شحّاطته" التي راحت تنزلق منه، وهو يصرخ مناديا:

يا عليّ، يا عليّ.

تأكدت عند ذلك أن كلينا كان يُعوّذ نفسه بما يعتقده!

*

احتوى الشرطي الموقف أخيرا دافعا بالشاب أمامه، وأجلسه على طرف حوض بَنوَه على مساحة واسعة مقابلا الساحة المزدحمة، ومدرسة خرّجت كثيرا من الرجال الذين صار لهم شأن في المجتمع حملت اسم واحد منهم، وزرعوا فيه زهورا لم تُر يوما مبتسمة، وهناك أمام صّنم ضخم تسامق مرتفعا بقوة، وتحدّ، خرّ "عليّ" راكعا بقدميه المُعفّرتين بطين الحفريات، وبجسده الهزيل الذي توّحدت فوقه الطبعات الثلاث.

انطلقت إحدى السيارات تسابق الريح في عدوها، ومن أسفلها برز حذاء طفل وليد يتأرجح وهو يلعق الأرض بنهم، كنت أحاول جاهدة أن أكتم صوتا خرج من صغيرتي التي اشرأبت برأسها مشيرة إلى الصّنم بانبهار:

ماما، ماما، انظري، لقد أخبرتني أننا لا نستطيع أن نشاهد بعيوننا الله، ألا ترين هناك؟!

 

أمان السيد

....................

"مقتبسة من كتابي "سيراميك" مع بعض التعديل، وتفاصيل".

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم