صحيفة المثقف

الأديب حنا إبراهيم يترجل

حسين فاعور الساعديلا أحب الكتابة بمناسبة الموت. أكره ذلك وأكره الذين لا يكتبون عن الأديب إلا بمناسبة رحيله لأنني أعتبر ذلك بخلاً وجبناً أو انتهازية في أحسن الأحوال.

الراحل الشاعر الأديب حنا إبراهيم هو نوع نادر من الرجال. نوع يكاد ينقرض بعد ما أصاب البشرية من ابتعاد عن الجذور وهرولة مجنونة وراء المادة والمصلحة الشخصية الرخيصة والضيقة.

عرفته عن قرب عندما كان مديراً لمطبعة الاتحاد الحيفاوية سنة 1971 يومها عملت في المطبعة مع نصوحي درويش أمد الله في عمره شقيق الشاعر محمود درويش وعودة الأشهب شقيق القائد الشيوعي نعيم الأشهب رحمه الله. وكنت يومها طالباً في جامعة حيفا نهاراً وعاملاً في مطبعة الاتحاد ليلاً. أذكر أنه كان يقول لي بين الفينة والأخرى بلغة أبوية حانية: ما تظلكاش هون دور ع مستقبلك. شعرت يومها أنه يتعاطف معي لأنه يعرف بالتفصيل معاناتنا وقسوة الظروف التي كنا نعيشها بسبب تشبثنا بأرضنا وبيوتنا.

كان صادقاً في أحاديثه وملامحه وحركاته. لم يداهن ولم ينافق ولم يتزلف وقد دفع ثمن ذلك بشكل متواصل وعلى مدى مسيرته النضالية والأدبية.

هذه النوعية من الرجال الوطنيين بحق وحقيقة والممزوجين بتراب هذا الوطن لم يجدوا لهم مكاناً يليق بهم في ساحاتنا "النضالية!" ولا في منابرنا "الثقافية!" لأن الانتهازية والمصالح الضيقة سادت وطغت على كل شيء.

في عينيه وملامح وجهه كنت أرى الظلم والقهر ليس من السلطة الغاشمة فقط وإنما من ذوي القربى ممن حوله من أولئك الذين لم يكفوا عن وضع الأشواك والعراقيل في طريقه وطريق كل الوطنيين الحقيقيين من الأدباء والمناضلين الذين رفضوا نهج القطيع وأصروا على طرح أرائهم بجرأة ومناقشة آراء الآخرين دون خوف من العواقب.

حنا إبراهيم كان يعني ما يقول. ويقول ما يفعل لم يعرف الشعارات ولم يستطع التعامل بنهجها. في حياته اليومية ظل بسيطاً وقريباً من البسطاء. لم تغره المناصب ولم تغيره المراكز. وفي حياته الثقافية، في كل قصصه ورواياته وأشعاره كان يكتب ما فعل أو ما سيفعل. يبدو ذلك جلياً في نصوصه وحتى في عناوين كتبه: "أزهار برية" لأنه أحب الأرض وظل فلاحاً في كل شيء: في نمط حياته، في تعامله مع الآخرين في رؤيته للأمور وفي قراراته. "ريحة الوطن" لأنه أحب هذا الوطن المتمثل بالبعنة التي أحبها كثيراً والشاغور الذي كان يعني له الكثير والجليل الذي عشقه بكل جوارحه وفلسطين التي ورث عشقها عن والده الثائر ابن ثورة 1936. "الغربة في الوطن" التي كان يعيشها في كل مراحل حياته ولم يستطع استبدالها بالتأقلم والانسجام. "صوت من الشاغور" و "ذكريات شاب لم يغترب". كل هذه العناوين تمثل بساطة وعمق رؤياه الإبداعية.

الكلمة عند حنا إبراهيم ذات معنى ولها قيمة يجب المحافظة عليها كما هو عرف الفلاح الأصيل المحافظ على عاداته وقيمه. لذلك كانت كل كتاباته شعراً ونثراً تتسم بالشفافية العذبة وبالصدق العميق. كان صادقاً في بوحه وتعبيره مما جعل نتاجه الأدبي قريباً للقلب والروح. لم يتصنع ولم يزايد ولم يتزلف أو يتكلف. ظل أمينا لمشاعره صادقاً مع ذاته ومع الآخرين دون تكلف أو محاباة لأنه صاحب عقيدة راسخة وإيمان لا يتزعزع بالمبادئ والمثل العليا. لذلك لم يحظ بما يستحق لا في الساحة السياسية ولا في الساحة الأدبية المرتبطة معها ارتباطاً مباشراً وتبادلياً. وخصوصاً في مجال النقد الموجه من قبل الانتماء الحزبي أو العائلي.

الشاعر والأديب المرحوم حنا إبراهيم غرد خارج السرب ثقافياً وأدبياً لأنه لم يغرد مع السرب سياسياً وظل يقول رأيه بوضوح ودون محاباة أو مراعاة من بداية مشواره النضالي حتى آخر أيامه. لم يضعف ولم يندم أو يتراجع لأنه كان واثقاً من نهجه ولأنه ابن الأرض الذي ذاق شظف العيش منذ نعومة أظفاره. أحب الرجال الرجال وتعاطف معهم وكره المنافقين المتزلفين المتلونين نبذهم وابتعد عنهم. عرفته لطيف المعشر،حلو المحضر يحب البشرية قريب للقلب لا يمكن لمن يعرفه ألا يحيه ولا يمكن لمن عرفه أن ينساه. لأن فيه براءة الطبيعة ورائحة التراب ودفء الحياة.

لروحك الرحمة أيها الشاعر والروائي والأديب والإنسان. لن ننساك وستظل في قلوبنا رمزاً للعطاء والشجاعة والصدق. فإلى جنات الخلد يا أبا إبراهيم. وستظل بيننا بشهرك ورواياتك ومواقفك الشجاعة.

***

حسين فاعور الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم