صحيفة المثقف

وطن (مقامة)

امين صباح كبةروى أطباء المفرزة التي تقع على ناصية شارع الخلفاء أنّهم رأوا رسل حين قدمت مهرولة مع رفاقها، قالوا أنّهم شاهدوا القنبلة الدخانيّة التي اخترقت رأسها وأسقطتها قتيلة في ساحة الوثبة ببغداد، وقبل أن يفيق الجمع من ذهولهم تصاعد دخان القنبلة، وكوّن غيومًا كثيفة أمطرت سماء بغداد لساعات.

قالت رسل: لقد أحلّ المجرمون دماءنا، وأعملوا سيوف غدرهم في رقابنا.

قالت رسل: كيف نهتف للحرية ونحن في زمن الخوف؟.

ورحلت.كانت جثتها ملقاة وسط الساحة، وجسدها الأسمر الجميل ملطخٌ بالدم، وآثار القنبلة التي اخترقت رأسها ظاهرة.كانت تغني وبغداد نائمة، ودجلة الخير متواطئة:

(أنا عصفورة الساحات،

أهلي ندروني للشمس وللطرقات).

بزغ القمر واحتشدت حوله النجوم في السماء احتجاجًا على الظلام، لا جدوى من الغناء والهتاف، كان الدم على كراسي الحكم يارسل، يختم به الرئيس بياناته، وبغداد مدينة مستلبة يسكنها الغرباء. أسلحة الشغب، والمندسين، والفصائل المسلحة، أنهت الرحلة في مطلعها، إذا اختلفت فصيلتين كانت الضحية عراقي.فامنحيني العذر يا رسل لم أبككِ كما يجب، ولم أقدّم لك عزاء ولا سلوى.

كان المحتجون يهربون من بغداد إلى بغداد، أصبحوا أسرى الدروب الضيّقة، والمحلّات الفقيرة، وتحوّل حلم الوطن الحر والكريم إلى خطوات متعبة للهرب، (ما قيمة الحرّية إذا فقدت الحياة؟ وما قيمة الحلم إذا فقد الغد؟).

أي كاذبٍ سنتّبع، لنعيد للأمهات أولادها (وأي نجم سنتبع، لنعيد البهاء إلى حجرٍ مهمل؟).

كان الثوار يبكون، يستعيدون أنس الليالي، ودفئ هتافات الشهداء، وأنين الأمهات على أبنائهن، جئنا غرباءًا يا رسل، قتلونا في أرض واحدة، وأباحت دمنا العصابة نفسها،

قتلوا ابتسامتك، وفجّروا في دواخلنا ينابيع الحزن، (غالبًا ما أتذكر

 أنّي أفرطت في نسيانك

حين محوت فصولًا من المأساة

بتمامها، وحرثت شتاءًا من العذاب).

قالت بغداد: عندما رحلت غسلت النجوم نفسها في دماءها واكتست بحمرتها.

قالت بيوت الجيران: كبرت الطفلة بيننا وقد كانت لها تؤام لا تفارقها، وعندما أدركت أنّ قدر الماء الساخن سيصيب أختها تلقته بدلًا عنها ورحلت، كبرت الطفلة ولم يغادرها الذنب والخوف.

قال وادي السلام: لم أعد أصلح مأوى للمشردين والخائفين، فأرضي بيد القتلة، ولن أضمّ المزيد من الشباب لأنني قد اكتفيت.

وقال الشعراء : أصابت بضاعتنا الكساد لأن الشعر قد انتهى مع رحيلها.

(مصابيح الوجود انطفأت،

العالم ينام على جمرةٍ

وفكاهة

الملائكة ذهبت إلى النوم).

هبت ريح الموت، وماتت الغزلان، ونبت الحب من ظهور المقابر، ولملم المعمّمون أطراف عبائاتهم، وأصدروا بيانات الاحتجاج.

وخرجت الضفادع بمظاهرات حاشدة تؤيد النظام وخنازيره .ترون هذه البقعة هي أشرف البقع وأحسنها، يتنافس الأشرار في نزولها، ويتغاير الكبار في حلولها، لا يسكنها غير التجّار، وإنّما المرءُ بالجار.وهذه أرضنا، كم تقدّرون أنفقنا على هذه الطّاقة؟، أنفقنا والله فوق الطّاقة، ووراء الفاقة.أرأيتم بالله مثلها ؟، بناها أجدادنا بجدٍ صاعد، وبختٍ مساعد، وقوة ساعد، وربّ ساع لقاعد، تأملوا بالله من يحكمها؟، وكيّف حصّلها؟، وكم من حيلة احتالها؟، وكيف بددوا أموالها على النساء والخمر، والنرد والقَمر، وكم رقعة باعوا؟، ولأي غريبٍ انصاعوا؟، تأملوا بالله عماراتهم وقصورهم، وعشوائياتنا وخراباتنا.

خرجت بعد رحيلك يا رسل جموعٌ غفيرة تهتف بحرقة، وتعهدت الضفادع بأن تجد القاتل، فردوا ثوبكِ الملطّخ بالدم، وساروا به في الشوارع، وبعد أشهر تغافلوا عن قاتلكِ خوفًا منه

قالوا: (لا تفتح جرح الجثّة

دعها نائمة بكل آثامها،

إنها جثة كما ترى

لاتنفع في شيئ

رغم كلّ الأناشيد

والأتباع والأوسمة).

تحلّق رفاقها ليلًا وغنّوا مصفقين:

(حبيتك تنسيت النوم يا خوفي تنساني

حابسني برات النوم وتاركني سهرانة..أنا حبيتك حبيتك).

قالت رسل: لقد أحلّ المجرمون دماءنا، وأعملوا سيوف غدرهم في رقابنا.

قالت رسل: كيف نهتف للحرية ونحن في زمن الخوف؟.

 

أمين صباح كُبّة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم