صحيفة المثقف

ولادة قصيدة وطن رائية العرب

صالح الطائيتستوجب كتابة التاريخ الملحمي لأي مرحلة إجراء طقوس تمهد للفكرة، أما كتابة تاريخ حقبة معاصرة فتستوجب أن تكون هناك طرقا فنية مبتكرة وغير تقليدية تتماهى مع انبثاق روح الثورة في النفوس، والاندفاع الجاد من أجل التغيير، وصولا إلى التمرد على كثير من الموروث، واللجوء في بعض الأحيان إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة مع المقدس، ولكن حتى مع ضغوطات أكثر العصور تطورا، عصرنا الحاضر الذي يبدو أنه ألقى حبلها على غاربها ونشر الانفلات بين الجد والفوضى أملا في الوصول إلى نهايات لم يصل إليها أحد من قبل؛ لابد لنا أن نناكف الموروث، نشاكسه، نتجرأ عليه، ونقتنص ونقتبس منه وهجا أو قبسا نرفعه بين أيدينا في مقدمة انبعاث الجماهير لينير دهاليز النفق المظلم الذي نشعر أنه يقيدنا ويشل حراكنا، ولن يتعارض ذلك بالمرة مع تدفق القوى السالبة والموجبة للعصر، فالعصر بحيويته ونضجه وجنونه وفوضويته ودهشته وروعته ورقته وقسوته وغرابته وتشدده وانفلاته؛ يستوعب وشل كل التواريخ، ولا يغص فيه أبدا، طالما أنه يمثل خلاصة كل ما مر على الإنسانية منذ وجودها الأول، ولكن العبث معه لا يخلو من مجازفة فيها الكثير من الخطورة.

من هنا، من هذه الحافة الناتئة الجارحة ولد تحدي مشروع "قصيدة وطن" في يوم 31/1/2020، وكان نتيجة صراع انثيالات وتداعيات الأحداث التي أفرزتها منظومة معقدة من المشاكسات المتراكمة التي تسببت بكل ما تتعرض له الأمة اليوم بشكل عام والعراق الجريح المبتلى بشكل خاص على يد بعضٍ من أبنائها وبعض المحسوبين عليها ممن تولوا قسراً أمرها، وعلى يد أعدائها ولاسيما القوى العظمى، وعلى يد جيرانها الذين طمَّعهم خور الحكام وطيشهم بها؛ بشكل لم تتعرض لها أمةٌ من قبل، ففي مجتمعٍ مثل المجتمع العربي الذي أصيب على مدى القرن الماضي بخيباتٍ مريرة، هذا المجتمع الموحد ـ المتناحر، المتحاب ـ المتباغض، المتقارب ـ المتباعد، المجمع ـ المفرق، الملموم ـ المشتت؛ صاحب الرأي الواحد ـ مُخْتلِف الرؤى والعقائد، المستقر ـ القلق إلى حد النزق، والثائر ـ الهادئ إلى حد السكون... هذا المجتمع الذي يشكو ضعف القوة وقوة الضعف، والدكتاتورية المطلقة وندرة وجود القيادة الأمينة الناصحة الإنسانية الوطنية التي تأخذ بيده نحو شاطئ الأمان. في مثل هذا المجتمع الغريب في تكوينه يكاد يكون الحديث عن أمرٍ جمعي مشترك مهما كان بسيطاً، حتى ولو كان على مستوى نظم قصيدة مشتركة أمراً في غاية الخطورة والصعوبة، بل مجرد أضغاثٍ مجنونة ونزقٍ غير موزون، محكومٌ عليه بالخيبةِ والفشلِ والخسران. ولكن كيفَ للفكرةِ المجنونةِ المشحونةِ بالتحدي الكبير والعناد إلى حد النزق والانفعال أن تهدأ أو تهادن أو لا تتمرد؟ أنى لها أن تنجح وأن تكون مميزة وبمستوى الطموح في عالم مجنون إذا لم تكن بكل هذا الجنون المنبعث من القلوب الحزينة التي آلمها ما آل إليه أمر الأمة، فالجنون يكون أحيانا أعلى مراحل الوعي، وكم توهجت إشراقات الحكمة من دنيا المجانين، فلم لا تشرق من هذه الدنيا قصيدةٌ تُحيي مواتَ قرنٍ من الزمان، وتعيدَ للأمة وهج العمرِ الذي مضى والذي ترك في قلبها أعظم حسرة.

 

لم تكن ولادة فكرة قصيدة وطن سوى مغامرة غير محسوبة النتائج ولاسيما لمن ينظر إلى حال الأمة وتشظيها وتباعد مكوناتها عن بعضها، ومقدار اللاأبالية التي تتحكم في نفوس أبنائها، وعدم اهتمام أغلبهم بأبعد من حدود واقعه الجغرافي الضيق، بحدوده الوهمية المصطنعة.

1917 قصيدة وطن

كانت فكرةً فيها الكثير من الجُرأة والتحدي للواقع ولكل ما يدور على الساحة العربية ولاسيما وأن مكونات الأمة لم تعد تهتمُ ببعضها، وبما يصيب الآخر من أبناء جلدتها وأرومتها، وكل جزء منها يحمل شعار: إذا متُ ظمآنا فلا نزلَ القطرُ.

ومع ذلك راهنتُ على الطيبة السابتة في نفوس أهلنا ولاسيما منهم من يحمل نفساً شفيفة وروحا ًشفافة وضميراً أخضر وعيناً أبصر وفؤاداً قد من كوثر، وأقصد بهم الشعراءُ والأدباءُ، فقررتُ التوجه إليهم بالذات دون غيرهم وأنا لا أملكُ من الأمل سوى بصيصاً خافتاً أحملهُ بين جوانحي كما تحمل الأم وليدها وأسيرُ بهِ في طريقٍ وعرةٍ ورياحٍ عاتيةٍ وأمطارٍ غزيرةٍ؛ ولا أعرفُ متى ينطفئ؛ فلا أُبصرُ لخطواتي موضعا.

كان مفتاحها بيتاً يتيماً قلتهُ بعد أن آلمني ما جاء في نشرات أخبار الظهيرة عن حال الأمة التي تتآكل من الداخل وكأن مرضا خبيثاً تفشى في أوصالها، فباتت طريحة الفوضى، تتلقى الصدمات والطعنات من الخارج والداخل. هذا البيت كان من بحر الوافر وبقافية الراء المضمومة، قلتُ فيه:

حذارِ من الهدوءِ إذا تفشى                        فعندَ الفجرِ قارعةٌ تثورُ

وكنتُ في بداية مشواري أنتظر مشاركة العراقيين من الشعراء؛ للبناء عليه ببيت أو بيتين، طبقاً للنداء الذي توجهتُ به إليهم، وعظيم خوفي كان ألا يستجيبَ منهم أحدٌ، ولكنهم بكل ما لدى العراقيين من نخوةٍ ووطنيةٍ فاجأوني بسيلٍ من الأبياتِ الرائعةِ المفعمةِ بالروحِ الثوريةِ بما يترجمُ حرص العراقيين على وطنهم وحبهم لبلدهم وحلمهم بيومٍ تتحققُ فيه وحدة الأمة.

في هذه الأثناء وردتني مشاركة غير متوقعة من شاعرة سورية، وكانت على مستوى عالٍ من البناء، جعلتني أعيد النظر بالمشروع برمته، فحولته من عراقي المظهر إلى عربي المخبر، وخاطبتُ الشعراء العرب في كل أوطاننا العربية ليسهموا ببناء قصيدة وطن، ويهدوها إلى ثوار العراق من دعاة الإصلاح، وإذا بزخم ٍمن المشاركاتِ ينهالُ عليَّ من أركان وطننا العربي الأربع إلا من أبى ممن لا زال يحمل في قلبه حقداً على العراق وأهله، حيث شمر شاعر أو أكثر من شعراء هذا القطر أو ذاك عن سواعدهم وكتبوا نصرةً للعراق وأهله أعذب الأبيات، واتسعت رقعة المشاركاتِ لتشمل: سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والعراق وفلسطين وسوريا والمملكة الأردنية ولبنان ومصر وتونس والجزائر والمملكة المغربية والسودان وليبيا وموريتانيا، فتجمعت لدي كمية كبيرة من المشاركات مثلما تتجمع قطرات المطر لتكون سيلا جارفا فاحترت في كيفية بناء قصيدة بمستوى الوطن من هدير هذا السيل الجارف ولاسيما وأني لست بشاعرٍ بل عاشقاً للشعر استذوقه، وقد يفوتني الشيء الكثير مما قد يلحقُ ببناء القصيدة وهنا غير مقبول.

في هذه الأثناء وأنا اتخبط في حيرتي اتصل بي صديقٌ مغتربٌ هو الشاعر ضياء تريكو صكر ابن الشاعر الكبير تريكو صكر، هذا الشاعر الذي ورث عن أبيه لا صنعة الشعر فحسب، بل ورفعة المعنى والمبنى والمفردة والفكرة، وكل ذلك مدافٌ بروح وطنية ليس لها مثيل، ولأني كنت أحد عشاق قصائده وأتابع ما ينشر باستمرار وأعرف أهليته لمثل هذا العمل الكبير، بل أعرف أنه من نوادر من قد يجيدون هذا العمل، فقد أوكلتُ إليه بناء القصيدة وفق رؤيته الناهضة، وبدأت أرسل له المشاركات تباعاً.

على مدى الأشهر الثلاثة اللاحقة كان ضياء قد أوقف حاله للقصيدة وحدها يقدم ويؤخر، يختار ويرفض، يُحوِّرُ ويبدل، يَنْظُم روابط بين المشاركات، يهتم بتسلسل فكرة القصيدة، ويعيد النظر في جميع المشاركات باحثا عن التميز والفرادة والجودة والغرابة والخروج على المألوف والشائع، وفي النهاية اختار مشاركات 139 شاعرا من أصل أكثر من 600 مشاركة وصلتنا، وبعد أن أضاف للمشاركات المختارة بحدود 30 بيتاً من نظمه للربط والترتيب، خرجت القصيدةُ عروسا ولا أبهى بـ371 بيتاً من أصل مئات الأبيات التي وصلتنا، فكانت بحقٍ واحدةً من أروعِ القصائد الوطنيةِ، هذا إذا لم تكن هي الأروعُ على مر الزمان.

وهكذا تعاضدت أقلام وجهود المبدعين العرب لتدعم هذا المشروع البنائي الوطني الكبير الذي انتهت المشاريع المشابهة له منذ زمنٍ طويل، حتى ما عاد أحدٌ يذكرها إلا ما ندر، والتي لا يعرفُ جيل الشباب عنها شيئا، ولتعلن هذه الألفةِ الحميمية والتعاونِ الأدبي المثمر للعالمِ كله أن ما يبدو وكأنهُ انهيارٌ واسعٌ في منظومةِ العلاقاتِ الخاصة والعامة بين العرب، ما هو إلا زوبعةٌ في فنجان، وزبدٌ من نتاج نزق وطمع وفساد بعض الحكام؛ سوف تذروه رياحُ الثورةِ ويذهبُ جفاءً، وأن الشعوبَ العربيةِ ليستْ صاحبةَ القرارِ في هذا التباعد والتباغض، وأنها لا زالت كما هو العهدُ بها كريمةً عند الشدائد، واحدةً موحدة عند النوائب، متماسكةً عندما تدلهم الخطوب، مصرةً على التضحية التي تستطيع تقديمها ولو كانت بيتاً من الشعر، فالكرمُ هو شعار وجودنا، والبخلُ ليس من عاداتنا ولا من طباعنا.

وهكذا ولدتْ قصيدةٌ وطنية ٌمن أبدع ما يكون، بهمة شعراء الأمة وفرسان كلمتها، وبهمة الشاعر الكبير الفخر ضياء تريكو صكر لتكون القصيدة الوحيدة التي اشترك بكتابتها هذا العدد الكبير للمرة الأولى في التاريخ.

فكان ما بين مطلع القصيدة وقفلتها ومضةُ إلهامٍ يهمسُ في أذنِ الأثيرِ مخاطباً أمّةً طال غفوتها، وطالت رقدتها، وبين الغفوة والرقدة كان صّدى الفكرةِ يقتحمُ أبواب الضميرِ العربي أينما كان بعفويةِ نقيّةِ، بلا شائبةِ، ليؤسسَ لفكرةٍ وحدويةٍ ليس لها مثيل، تطاولت حتى علت كل أسس الشقاق، حتّى إذا انبلجَ فجْرُ التحدي؛ أشرقت الحقيقة من بين وجع الأضلع وآهات القلوب وهي أنِ اجتمع العربُ من المحيط إلى الخليج بمـا لم يجتمعوا عليه من قبل، وتوحدّت أقلامهم على أنبل موقف وهو حبّ العــراق. فكانت سابقة متفرّدة في تاريخ الأدب العربي، من هنا جاءت قفلة القصيدة بقلمي أيضا مثلما هو المطلع لتعلن اسم المولود المنتظر الذي ترقب العيون ولادته

 ألاَ فاحْـذَرْ هدوءً قد تفشّـى              غـداةَ الفجْرِ قارعـةٌ تثورُ

فكان مطلع القصيدة وقفلتها خيرَ حاضنٍ لصرحٍ يليق بالوطن، فإذا به العنوان مرسومٌ على جبين الوطن موشى بذهب الوحدة ليعلن عن اسمه بلا خوف في زمن الزيمة والضياع: قصيدة وطن رائية العرب.

وقد صدرت القصيدة في طبعتها الأولى بكتاب جميل عن دار الوطن للطباعة والنشر في المملكة المغربية، فضلا عن ذلك صدرت عن دار المتن في بغداد بطبعة ثانية لتكون في متناول يد عشاقها.

 

الدكتور صالح الطائي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم