صحيفة المثقف

حينما تكون الكلمة أشد فتكاً من الرصاصة العمياء والنموذج الكنفاني

بكر السباتينما الذي يجمع الكاتب الحر كنفاني بالمناضل الياباني تاكو هيموري! وكيف أدّى ذلك إلى اغتياله! وأسئلة عاصفة أخرى

في حومة الهجوم المنظم والمفتوح على الشعب الفلسطيني، واتهام الكتاب بالتقصير إزاء نشر الوعي بالحقوق الفلسطينية من أجل بناء تيار ثقافي قوي لمواجهة دعاة صفقة القرن، تأخذنا الذاكرة إلى منطقة الفعل التي تجلت في تجارب الكبار الذين جمعوا ما بين القلم والبندقية.. كانت الكلمةُ تلقمُ السلاحَ بما هو أشد فتكاً من الرصاص، بالحق المبين، من خلال الأعمال الإبداعية التي ما لبثت تتفاعل في العقل الجمعي الفلسطيني وتنتصب شامخة في بحر التغيير اللجي كمنارات.. لذلك كان العدو إزاء كل مواجهة، يتكبد الهزائم المعنوية التي يتعذر عليه تسويقها كما هو اليوم، على أنها نتاج إرهاب فلسطيني منظم.

وللإنصاف، كان خطاب الثورة الفلسطينية الصادح المسموع، والمدجج بالوعي السياسي والثقافي والقانوني هو الأشد إلهاماً للشعوب المقهورة؛ لتُدْرَجُ في سياق أي خطاب تثويري كأقوال مأثورة.. ومن هذا الباب دخلت أفواجٌ من المتطوعين القادمين من كل أرجاء الأرض بغية المشاركة في النضال الفلسطيني منهم على سبيل المثال: الكتائب الإيرلندية السرية والجيش الياباني الأحمر وغيرهما.. ونستذكر في سياق ذلك بطل عملية اللد الياباني تاكو هيموري من الجيش الياباني الأحمر الذي تم اعتقاله بعد انتهاء العملية وزج به في السجون الإسرائيلية بعد استشهاد رفاقه، حيث قام بتغطية تلك العملية البطولية إعلامياً، كمتحدث رسمي لقادة هذه العملية البطولية، الكاتب الاستثنائي الشهيد غسان كنفاني الذي تم اغتياله بأمر من رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، فخطورة كنفاني تجلت في كونه كاتباً استثنائياً يمتلك خطاباً إنسانياً مؤثراً، وقائداً ميدانياً مُلْهِماً على صعيدين محلي وعالمي.

ومن المفارقات العجيبة هو توافق تاريخ ميلاد الشهيد غسان كنفاني في عكا المحتلة، وانتحار بطل عملية اللد الياباني تاكو هيموري بعد الإفراج عنه، ومناسبة يوم الأرض التي قضيا في سبيلها وذلك بتاريخ (30 مارس- 8أبريل من كل عام).. فسطوة الكلمة حولت أمثال هؤلاء إلى رموز إنسانية تحمل القناديل في عتمة الجهل وتلجم الأكاذيب الممنهجة.. لأنهم كتاب جمعوا بين الكلمة والبندقية.

هكذا أشعل فينا كنفاني الوعي منذ الصغر.. كنت في العاشرة من عمري حينما تم اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.. كان الأستاذ المرحوم حسني عدوان يدرسنا اللغة العربية في مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين بحي الأشرفية في عمان، وقد دأب يحدثنا عن كنفاني بشغف كي يحرض في أعماقنا مكامن الإلهام حتى استطاع إدخال التجربة الكنفانية في عقولنا كمفردة وطنية ما لبثت تحرك فينا ثقافة الالتزام الوطني والعطاء والتفاني لأجل استعادة حقوقنا المشروعة.. وحينما نضجت مشاعرنا واستقرت عقولنا فتحنا النوافذ الكنفانية على عذرية قلوبنا فتفجرت ينابيع المحبة والوفاء لفلسطين السليبة.. وتبرعمت تطلعاتنا الوطنية فنهضت فينا مشاريع بريئة وجادة لأجل تحرير الأرض والإنسان.. عنونت بمسيرة المناضل الشهيد القدوة غسان كنفاني الذي زرع العملاء تحت سيارته قنبلة انفجرت فيه وكانت بمعيته ابنة شقيقته لميس عام 1972.. لقد تناثرت أشلاؤهما وانتشر خبر استشهاده في العالم كالنار في الهشيم ونعته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حيث كان عضواً في مكتبها السياسي.

لقد تعلمنا من كنفاني “أن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس” أيضاً” ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة”.. فيما قربنا أكثر من فكرة الموت حين قال:”إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين”.. وكان للموت عنده كبرياء فعبر عن ذلك قائلاً:” الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، الصقور لا يهمها أين تموت”.. كذلك” لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو أقتلع من السماء جنة أو أموت أو نموت معاً”. كانت الحياة في نظره مهادنة للموت.. وكان يرى بأن الحرية كالشمس لن تجدها في الغرف المغلقة”.. وكان كنفاني يكره الخيانة ويمقت الخونة إلى درجة أنهم في نظره أشد خطراً على القضية الفلسطينية من الصهاينة أنفسهم.. فقال:” إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة.” كذلك علمنا ونحن صغار معنى الانتصار في بأن” تتوقع كل شيء وألا تجعل عدوك يتوقع”. كان كنفاني يؤمن بالكفاح المسلح من خلال ما قاله في أن” أكتاف الرجال خلقت لحمل البنادق، فإما عظماء فوق الأرض أو عظاماً في جوفها”. ولكن في هذا الزمن الذي تتعرض فيه القضية الفلسطينية لنكسات شخصها كنفاني في طور تنبئه لمجرياتها قائلاً:” إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية”.. وكثيراً ما كان غسان يردد: “الأطفال هم مستقبلنا”. لقد كتب الكثير من القصص التي كان أبطالها من الأطفال. ونُشرت مجموعة من قصصه القصيرة في بيروت عام 1978 تحت عنوان “أطفال غسان كنفاني”. أما الترجمة الإنكليزية التي نشرت في عام 1984 فكانت بعنوان “أطفال فلسطين”.

وكنفاني في روايته الأشهر “عائد إلى حيفا” استطاع الدخول في جدلية العلاقة بين المحتل والضحية من خلال محاورة المحتل الإسرائيلي من منطلق كونه إنساناً للتلاقي في منطقة الحقوق الفلسطينية المسلوبة التي تاه عنها الواقع، ذات الحق الذي تجاهله الابن الذي ربته عائلة إسرائيلية كانت قد حلت محل أهله في البيت الذي طردوا منه في حيفا.. هذا الابن الذي عرف حقيقة أن أهله فلسطينيون؛ لكنه وقف متبلماً أمام موقف عصيب في أن يختار أباه البيولوجي يبقي على أمه الإسرائيلية لمجرد أنها ربته.. وهذا يدخلنا في خيار وجودي آخر ما دام الابن يخدم في الجيش الإسرائيلي بينما شقيقه في إحدى مخيمات لبنان قد اختار الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية؛ وكأنها حقائق متصادمة حتى الموت.. هذا هو كنفاني المثقف المناضل السياسي الصحفي المتميز الذي ولد بمدينة عكا المحتلة في 8 أبريل 1936وتم اغتياله ببيروت على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد في 8 يوليو 1972 عندما كان عمره 36 عاما بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت. وهو عضو المكتب السياسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

في عام 1948 أجبر وعائلته على النزوح فعاش في سوريا ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية. أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في ذات العام تسجّل في كلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، انضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه إليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953 ذهب إلى الكويت حيث عمل في التدريس الابتدائي، وانتقل بعد ذلك إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961) التي كانت تنطق باسم الحركة مسئولاً عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها(ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم “مجلة الهدف” وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تزوج من سيدة دانمركية (آن) والتي ما زالت ترعى إرثه الأدبي بكل روح الانتماء لقضية فلسطين .. ورغم كونها دانماركية إلا أنها سخرت حياتها للقضية الفلسطينية بكل تفاني ما يضعنا أمام السبب وراء اغتيال زوجها كنفاني.. إنه وضع الأوراق الصهيونية أمام العدالة الإنسانية إلى درجة تلقي التأييد لها من غير العرب.. صار بوسع الأجنبي أن يموت في سبيل فلسطيني التي تعني بالنسبة له الحرية في أبهى صورها.. كنفاني ركز كثيراً على إنسانية القضية الفلسطينية.. وكان قد التقطت له صورة مع أحد أكبر المؤيدين للقضية الفلسطينية الياباني (تاكاو هيموري).فمن هو هذا الرجل!!؟ وما علاقته باغتيال كنفاني!؟

سنبدأ الحديث عن هذا الرجل من حادثة موته الرهيبة في الثلاثين من أذار2002 حيث أحرق نفسه في حديقة بطوكيو لمناسبة «يوم الأرض» تأييدا للفلسطينيين. إلا أن المنتحر تاكاو هيموري، البالغ من العمر 54 سنة، لم يكن حقيقة سوى المخطط لهجوم نفذته عناصر من الجيش الأحمر الياباني على مطار اللد في 1972 بحصيلة 26 قتيلا، من بينهم اثنان من المهاجمين، بالإضافة الى 76 جريحا بالرشاشات والقنابل في ردهات المطار، وفق بيان بثته حينها شرطة طوكيو. مؤكدة على أن المنتحر عضو بمجموعة “الصوت” اليابانية المؤيدة للقضية الفلسطينية، حين كان أفراد من حركته يقومون بمسيرة داخل الحديقة لمناسبة ” يوم الأرض”فابتعد قليلا عنهم تحت شجرة وسكب على رأسه وقودا من البنزين كان في حوزته داخل علبة بلاستيكية، ليسحب من بعدها ولاعة من جيبه ويشعل في نفسه النار على مرأى من محتشدين دب فيهم الذعر من هول المشهد. بعدها راحت الشرطة تعمل لإكمال تحقيقاتها عن الحادث، فزار محققون شقته التي كان يعيش فيها وحيداً، وليست بعيدة عن الحديقة التي قضى فيها مشتعلا بالنار، وهناك ـ كما قيل ـ عثروا على وثائق وأوراق، ومن بينها ما أكد بأنه كان عضوا ناشطا في الجيش الأحمر، وأنه كان العقل المدبر لعملية مطار اللد الشهيرة التي نفذها وأعضاء المجموعة اليابانية ومن بينهم امرأة على اعتبار أن الصهيونية العالمية تعمل ضد الإنسانية وتنتهك حقوق الفلسطينيين على هذا الأساس.. ذات السبب الذي جعل مدام كنفاني الدانمركية تتفانى لأجل الحق الفلسطيني ذاته الذي قضى شهيداً لأجله المبدع غسان كنفاني.. الذي تم استهدافه كأحد المؤثرين على البعد الإنساني للقضية الفلسطينية.. هذا البعد الذي خلق تيارات مؤيدة كالتي يرأس إحداها الياباني (تاكاو هيموري) .. من هنا كان على الموساد أن يرد بالحجم المناسب على العملية.. وبعد دراسة عميقة في البحث عن أسباب ظاهرة حركة” صوت” اليابانية.. اختاروا كنفاني لأن يكون الضحية.. فتم اغتياله جسدياً فيما ظل يحلق بأعماله عالياً.. وكنا نسمع صدى صوته من خلال أستاذ العربية جسني عدوان وهو يقرأ علينا فصولاً من روايات كنفاني ويعرفنا من خلالها ونحن على مقاعد الدراسة على حقوقنا كفلسطينيين فرضت عليهم حياة اللجوء في المخيمات مستذكرين مقولته الشهيرة”أ نا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل “.. فعساها حرية تخلصنا من الضيم ونستعيد معها حقوقنا المسلوبة.

كنفاني كان رقماً نضالياً صعباً وعسيراً على الاقتلاع والهضم.. يشبه النجوم في المجرات التي تُلْهِمُ المغبونين دون أن تطولها بنادق المتربصين.. وكان أمر اغتياله الأشد غباءً في تاريخ الموساد الإسرائيلي.. لأن استشهاده عمّد منجزه الثقافي بالدم.. وأمست عباراته أشد فتكاً من أي سلاح في يد المتربصين بحقوقنا المشروعة.

 

بقلم بكر السباتين..

23 أكتوبر 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم