صحيفة المثقف

غريبٌ في المانيا، غريبٌ في كوستاريكا ..

كريم الاسديلقاءٌ مع أنور الغساني في برلين ..

التقيتُ أنورَ الغساني مصادفةً في برلين .. كان يجلس رفقة زملاء عراقيين من أبناء جيله في مقهى في الحيّ البرليني الذي أقيم فيه حيّ (Prenzlauer Berg) الذي يُعتبرُ حيّاً ثقافياً يقيم فيه عددٌ كبيرٌ نسبياً مِن الأدباء والكتّاب والمثقفين والفنانين والطلّاب الجامعيين من دول عديدة ومن مدن المانية أُخرى .. كنت أعشق هذا المقهى وأرتاده وعلى الأخص في الأيام المشمسة حيث بأمكان الروّاد الجلوس مباشرة تحت اشعة الشمس الربيعية أو الصيفية التي تعتبر هديةً نادرةً في المانيا مقارنةً بشموس الشرق الوفيرة، وأمام المقهى تزهو حديقة عامّة صغيرة اسمها (Kollwitz park) كنت أجلس فيها أحياناً و ألعب رياضتي التي أعشق وأجيد منذ أيام الطفولة والشباب المبكر (كرة الطاولة) حيث توجد طاولات معدنيّة وحجريّة تفي بالغرض وان كانت لا تماثل الشكل النظامي للعبة تماماً . أتيت في ذاك اليوم الى المقهى لأجدَ أنور الذي لا أعرفه شخصيّاً ولكنني طالما سمعت عنه وعلى الأخص من صديقه الأستاذ الشاعر فاضل العزاوي الذي كنت ألتقيه فيما مضى باستمرار .. كان يخبرني ان أنور الآن في كوستاريكا ويبتسم ربما بسبب المفارقة، وأنا أستغرب، وحين أسأله كيف حدث هذا، ومَن معه هناك يقول لي : انه تعرف في المانيا على زميلة من كوستاريكا وأصبحت زوجته، وحين عادت الى بلدها ذهب معها ..

لم أره من قبل الّا انني كنت أحس بالفعل بتعاطف معه هو جزء من تعاطفي مع مآلات العراقيين في غربتهم وفي عراقهم المسروق منهم على حد سواء .

كان الوقت في ذاك اليوم ما بعد الظهيرة من يوم مشمس وقد جلس زبائن المقهى على الكراسي المنثورة على الرصيف الواسع بمواجهة الحديقة العامّة .. أعتقد انني رأيت معه الشاعرين سركون بولص ومؤيد الراوي فبادرتهم جميعاً بالسلام، فطلبوا مني الجلوس بعد ان عرَّفوني بالشاعر أنور الغساني ..

كان أنور هادئاً، وقوراً، متاملاً ، ولا أدري لمَ احسستُ ان الغربة قد أثَّرتْ فيه وربما منحتْه هالةً من الحزن وشيئاً من الشرود .. استقبلني بحفاوة وحميمية، وسألني عن كتاباتي ونشاطاتي، فأخبرته انني أكتب دائماً وأنشر وأقيم الأماسي الأدبية في اللغتين  العربية والألمانية، فسألني فيما اذا ستكون لي أُمسيةٌ شعرية قريبة أو نشاطٌ أدبي قادم، وأعرب عن رغبته في الحضور .. فأجبته ان ما مِن أمسية خاصة لي في الأيام المقبلة ولكنني أشترك كل يوم أحد بعد الظهر في صالون أدبي برليني في اللغة الألمانية في مقهى قريب من هذا المكان وفي نفس الحيّ اسمه مقهى والدن  أو   Cafe Walden، وقد أفردَ صاحبُ المقهى للأُدباء صالةً واسعةً في المقهى تتسع لما يقارب الأربعين شخصاً .. أخذ مني أنور العنوان، وحين أتى موعد الصالون الأدبي يوم الأحد كان أنور الغساني هناك قبلي يننتظرني في نفس المكان وقبل الزمان .. حينما جاء دوري وصعدت الى منصَّة الأِلقاء نبَّهتُ الزميلات والزملاء المشاركين والمستمعين الى حضور أنور، وقلت لهم: (ان لدينا اليوم ضيفاً من روّاد أدب الجيل الستيني في العراق، وهو يفهم ويتقن الألمانية اذ حصل علىى شهادة الدكتوراه من المانيا .. فمرحباً به ).

أردتُ بهذا ان أحييه وأن أقول له انه ليس أحد الحضور فقط وليس بالمستمع المجهول . فعلتُ هذا رغم صعوبة تفضيل ضيف على ضيف ومستمع على مستمع عندي .. فلقد حضر السيد السفير المصري قراءةً لي ذات يوم في متحف برلين ـ كرويتسبرج، ورأيتُ مِن الصعب عليَّ الترحيب به بشكل خاص قبل بداية القراءة مفضلاً ومميزاً اياه على بقية ضيوفي، بيد انه اشترك في الحوار وطرح الأسئلة في نهاية القراءة، فأخبرتُ الجمهورَ ان السائل هو السيد السفير المصري ثم أجبتُ على سؤاله، وبقيت عندي هذه المسألة مثل وخز الضمير دون ان أحدّثه أو أعتذر منه، بيد انه بادر فيما بعد الى دعوتي لأِقامة أمسية شعرية في السفارة المصرية وقدَّمني الى الجمهور المصري والعربي والألماني بنفسه . لا أدري لماذا كان الأمر مختلفاً مع أنور فلقد قدَّمتُه كرائد من روّاد الجيل الستيني العراق دون أي حرج .. حينما انتهت الأمسية وبعد ان سمعنا بعض نصوص الضيوف الحاضرين وشاركنا في النقد ذهبنا الى المقهى لنجلس الى بعضنا، فسجَّل لي اعجابه بمشاركتي في صالون أدبي لا يحضره سوى الألمان والأوربيين على الأعم الأغلب واعتبر الأمر شجاعةً وتقحماً وثقةً في النفس .

بقيتُ على صلة طيبة به حتى ما بعد رحيله الى كوستاريكا ..

ولكن كيف سنبقى على صلة بجمهرة الراحلين منّا الى الديار القصيّة في الضفة الآخرة المجهولة تماماً ؟! ..

لمْ أعرف الّا فيما بعد ان أنور ينحدر أصلاً من قلعة صالح في العمارة، وهي مدينة من المدن القريبة من أماكن نشأتي في الفهود والچبايش في الناصرية بحكم امتداد البحيرات الكبيرة واتصال مياهها وتوحِّدها في الهور العظيم الذي كانت تأتي اليه حشودُ الطيورِالمهاجرة بالملايين وبأنواعِها المختلفة من سيبيريا واسكندنافيا وشمال أوربا فيمنحها الدفءَ والغذاءَ وضوءَ الشمسِ الغزير .

كنت أتصور ان أنور من عائلة تنحدر أصلاً من كركوك ..

ولكن ما الفرق مادام العراق هو العراق ..

ومادام أنور هو أنور ..

 

 كريم الأسدي

....................

زمان ومكان كتابة هذا النص : في اليوم الخامس عشر من تشرين الأول 2020، في برلين .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم