صحيفة المثقف

الشبح

بكر السباتينثلاث قصص قصيرة

(1) "قضية فساد"

جلس القاضي خلف الطاولة للنطق بالحكم بعد أن رفض تأجيل الجلسة نظراً للضغوطات التي تعرض لها من قبل أهل الظنين المتنفذ، البيانات التي قدمها محامي المشتكي لم يسمح لها بالمرور والتأثير على حيثيات القضية التي ترصعت بعناوينها الصحف الصفراء.. القاضي أزعجه وميض آلات التصوير لكنه لم يكترث بها ولا بالهواتف المحمولة التي شرع أصحابها في تسجيل الحدث بانتظار القرار المهيب.. وها هو سعادته بكل مظاهر الهيبة التي أحاطت به.. ينظر إلى الظنين بارتعاد.. يتحسس بطنه المندلق بالرشاوي.. العرق يتصبب من جبينه حتى ابتلت أوداجه المنتفخة.. يده تقبض على عصا المطرقة.. يرفعها ببطء فترفرف أجنحة الأمل لدى الظنين الذي سَيُفَكُّ أسرُهُ زوراً وبهتاناً بعد حين.. يطرق القاضي على الطاولة طاحناً ضميره المتيبس، طالباً على إثر ذلك من الحاضرين توخي الصمت كي ينطقَ بالحكم.. النسخة التي كتب فيها القرار كانت وحيدةً وكُتبت بغير خط يده.. كأنه طُلِبَ منه تلاوتها بدقة متناهية فقط.. لكنه تلعثم وقد فوجئ بكثرة الأخطاء الإملائية التي ملأت النص المكتوب.. شعر بضيق نفس.. تحشرجت أنفاسه.. بحث عن شريط الدواء في جيبه.. أو خلف كوب الماء الذي اندلق على ورقة الحكم فأتلفت بياناتها.. ثم انكب القاضي بكل جبروتهه على سطح المكتب بوجهه المحتقن وخرَّ صريعاً.. وخارج شهادة الحاضرين، كان عزرائيل يدور حول المشهد؛ كي يتأكدَ من الخاتمة التي ألجمت من بالقاعة، إلى حين تحرُّرِ الحاضرينَ من أثر الدهشة، ليجمعهم الفضولُ والنخوةُ حولَ جثةِ القاضي الذي فارقَ الحياةَ لتوه.. وكانت يدٌ خبيثةٌ تتسللُ إلى قرار المحكمة المُعَدُّ مسبقاً؛ لتتخاطفه الصحفُ في اليوم التالي تحت عنوان ":قضية فساد"

**

 (2) الشبح

تنبلج صباحاتُهم محتفية بشمس لا تفيق بازغة إلاّ من خلال زيتونة التل العالي.. الشاهدة على من يستظل تحتها من القاصدين باب الله إلى حقولهم المحروثة للزرع أو إلى بحرهم الذي يألف إطلالاتهم في رحلات الصيد اليومية، والعائدين من المعارك المحمومة مع المحتل على حدود قراهم بملابسهم المتربة وبواريدهم المرفوعة على الأكتاف، وعرقهم المتفصد على جباههم الملوحة بشمس تألفهم في المكان منذ ألف عام؛ لبثَتْ فيها تلك الزيتونة الهرمة تعبق المكان ، وتظلل أبا الفضل في نوبات الحراسة على الحدود مع العدو…

وكأنها تبتسم دائماً ما دام أبو الفضل ماثلاً أمامها ، والسلاحُ مُشرَعٌ باتجاه تلك النقطة…

وهذا المساء..!

أرخى الليلُ سدولَه على المكان ، وأسند أبو الفضل ظهره على حَنيَةِ ساق الزيتونة ، كمن يغرس رأسه في خاصرة أمه الدافئة .. مسنداً كعبَ السلاح على حذائه المُلمع .. وانتظر حتى تنجلي الرؤية عن الشبح القادم.

“أتراه ضابط الخفر ؟! أم… !؟”.

قطعَ تفكيرُهُ الموتُ الذي أتاه على حين غرّة، ومات ساقطاً على الأرض ، متأبطاً ساق الزيتونة المفجوعة بعمرها المديد، وحزنها الطويل ، ومال السلاح عن كعب حذائه الذي عفره الترابُ ، وظلَّ على حالهِ حتى بزوغ شمس الصباح ، وكأنها ترسِلُ إلى جسدِه المُخضّبُ بالدّماءِ الزكيةِ سَنَاها كي توقظه ، فلا من مجيب.. فانتشر ضوءُ النهار بعدها في الطرقات كي يوقظَ المارة :-

"أبو الفضل مُضرَجٌ بدمائه".

وأخذت طيورُ الصباح تزفُّ روحَ أبي الفضل إلى السماء… بعيداً عن زحام المشيِّعين وهم يهتفون:

"لا اله إلاّ الله، شهيدنا حبيب الله"…

وكانت تلك الروح وهي تبتعد إلى العالم الآخر تودّع الزيتونة الهرمةِ بقلق شديدٍ سرعان ما تلاشى حينما سجدَ تحتها مقاتلٌ آخر.

**

(3) نذالة صديق

فقد ساعة يده الأنيقة في سيارة صديقه الذي كان قد دعاه عصر ذات يوم إلى حفل شواء عائلي، تحت السنديانة الظليلة في مزرعته الجميلة، وكان قد اكتشف ذلك حال وصوله البيت، حيث أقلته سيارة الصديق نفسه الذي غادرهم مسرعاً.

وفجأة هاج صاحبنا خارجاً عن طوره كالثور الأعمى، كأنها سحابة سوداء غشت ضميره، أو شعور بالنقص أمام الصديق الكريم غطت على عقله الذي طفق يغلي كالمرجل، لتخرج الشتائم من فمه كالدخان الأسود، وهو يتهم صديقه النبيل زوراً وبين أفراد اسرته بأنه سرق الساعة التي أعجبته أثناء الحفل حيث أحاطها بحدقتي عينيه طوال الوقت مبدياً إعجابه بها، وراح يعزز موقفه بالدلائل والبراهين.

وفجأة! طرق الباب، فإذ بصديقه المؤتمن يعيد الساعة المفقودة إلى صاحبها الذي عقدت الدهشة لسانه "ساعتك يبدو أنك نسيتها في السيارة" لتذكره هذه الساعة بنذالته كلما دقت الساعة الثالثة عصرا، كأنها تنصحه بهدوء" راجع الطبيب النفسي".

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم