صحيفة المثقف

الأيدي

صالح الرزوقبقلم: ريبيكا روث غولد

 ترجمة: صالح الرزوق


 لفتت يداه انتباهها أكثر من أي شيء آخر. كانتا طويلتين ورقيقتين مثل جسمه. والمدهش علاوة على الشكل كيف استعملهما. فقد شد على يدها بقوة ودون مراوغة في أول لقاء، كما لو أن هذا شيئ طبيعي وليس انتهاكا للثقانون في جمهورية إيران الإسلامية. وربما فاجأها تصرفه، ولم يكن لديها فرصة للتهرب من ذلك. فقد تركت يدها معلقة في قبضته حتى قرر أن يفلتها. مع أنه في اليوم السابق فقط اعتقلت السلطات شاعرا، ساعة عودته من السفر، لأنه مد يده وصافح امرأة. وكم ودت أن تحذره وتقول له: عليك أن لا تقدم على هذه الحماقة. لربما أودعوك السجن لهذا السبب. ثم اختارت الصمت. فهو بالتأكيد يعلم ما يفعل. هكذا قالت لنفسها، ثم من هي لتملي عليه سلوكه في بلاده؟. بعد ذلك لاحظت أنه ترك يديه طليقتين ولم يضعهما في جيبيه. وكذلك لم يسبلهما. وفضل أن تكونا حرتين في نهاية ذراعيه كأي سباح محترف يعرف كيف يضرب الماء ويشق طريقه، ولكن ليس على اليابسة. وكانت الخطوط على راحتيه طويلة تبدأ من معصمه حتى سبابته. ولو طلبت من قارئ الحظ - الذي تكلمت معه في ضريح حافظ في شيراز - أن يقرأ حظه سيتنبأ له بحياة طويلة، يتخللها الزواج السعيد وإنجاب الأبناء. ثم كانت يداه مثل شيء مستقل ومنفصل. وتخيلت أنهما يمكن أن تقدما لها الدفء في الليالي الباردة، وتخففا من آلام ظهرها. كذلك يمكنها أن تطبع عليهما قبلاتها وهو يحضنها. وفي نهاية تلك الليلة الساحرة في طهران، وقبيل الوداع، غامرت وسألته لماذا صافحها. لم يرد عليها. لكنه همس قائلا كأنه يتكلم مع الريح :”أحلم بصناعة معجزة بهاتين اليدين. مثلا أن أكون صانع عطور. وأصنع عطرا مسحورا يساعد على تبديل الأحوال الجامدة في إيران”. لم يكن جوابا مباشرا، لكنه فتح لها نافذة مبهمة على مشارف روحه.

ولتعرف عنه المزيد اتفقت معه على اللقاء في تبليسي. وهناك في جمهورية جورجيا حضنت يديه دون تهيب. وتبادلت معه الكلام بحرية مطلقة - عن السياسة وعن الأمور الشخصية التي لا يجب المساس بها طالما أنت في أراضي الجمهورية الإسلامية. كانت جورجيا شيء آخر. تستطيع أن تتماسك فيها مع امرأة بيديك، علنا، دون أي خرق للقانون. وفكرت: شيء غريب. كيف يمكن للقانون أن يتداخل مع الأخلاق. وأضافت: الأخلاق ثابتة لكن القانون متغير، ومعه تتغير نظرتنا للمسموح والممنوع. لكن أليس شيئا غريبا أن تكون العاطفة والتعبير عن الحب جريمة.

وعندما وضعت يديها على جسمه شعرت بأجزاء منه تسقط وتستسلم لها. ولكن بحدود. وحينما مارسا الحب كانت ترسم بيديها قوس ظهره. كانت تريد أن تحاكي بحركاتها كلمات الحب التي تغازله بها. وأن تلم شمل أجزاء الذاكرة المكسورة والحزينة.

اللقاء التالي كان في أبو ظبي. وهناك لاحظت أن حركات يديه تختلف. وزاد إحساسها بهما. وأرادت أن ترى ماذا ستفعلان بجسدها الخامل. في تبليسي هي من أمسك بزمام المبادرة.أما في أبو ظبي انتظرت منه أن يفعل شيئا. أن يمد يده و يلمسها. أن يعتدي بأصابعه على برودها وموقفها السلبي. كما فعل في إيران. حينما اقترب منها بالعلن. ربما كان يريد إيقاظ القانون النائم. ولكن هذا ما حصل. وسألت نفسها: هل أخطأت في قراءة أسباب تهوره. هل كان يمثّل، ولم يكن يضحي في سبيلها، وغايته استفزاز الدولة والتعبير عن امتعاضه وتمرده، أو امتحان قدرات الحكومة على ضبط النفس؟. أو ربما فعل ذلك احتراما لواجب الضيافة الذي يفترض مصافحة الضيوف كما تعلم. لكن لو الغاية هي حسن الاستقبال والضيافة لماذا لم يفعل ذلك الآن. فالواجب مهمة دائمة !. هل كان للقائه السابق معها معنى استثنائي لم تنتبه له؟. ثم أي قانون يمكن أن يدفعه لمد يده في طهران والاحتفاظ بها باردة وجامدة في أبو ظبي؟.

في لقائها الثاني معه في أبو ظبي. وكانا بمفردهما. لاحظت أن يديه مقيدتان لو قارنتهما مع حاله في طهران وتبليسي. كأنهما من عالم آخر، وعلى جسم آخر، أو في مجرة غريبة. وقررت أن تنتظر حتى يحين الوداع لتسأله لماذا هو بهذه الحال النفسية، ولماذا يتردد في الاقتراب منها. ولكن لحظة الوداع ازدحمت الصالة كما هو الحال دائما. وأصبح صف الانتظار طويلا للغاية مع اقتراب ساعة الصعود للطائرة. كان التوقيت حوالي 5:30 أو أنه 5:35 وكان النهار يبزغ ولكنك تعتقد أنه يوم القيامة. وأعلن مكبر الصوت: رجاء على كل المسافرين إلى طهران التوجه إلى البوابة 6D. وهنا حانت فرصة الكلام - وتوجب عليها أنتصافحه. ومدت يديها نحوه. ولكن كانت يداه مدفونتين عميقا في جيبيه. أعمق من المعتاد. فأجلت الكلام. اليدان أساسا هما موضوع الكلام، وهكذا لم تناقشه بالأمر. ولم تسأل: متى يمكن لهما أن يتماسكا بالأيدي مجددا؟. ثم طلب منها أن تراقب أمتعته ليذهب إلى الحمام. ولدى عودته كان وقت الصعود قد أزف. ولم تجد فرصة للوداع، ولا الوقت اللازم للتحية كما فعلا في طهران وتبليسي. ولم يكن أمامها أي فرصة لتضع يديها في يديه، ولتطبع شكل أصابعه في ذاكرتها، ولترفع أطراف أنامله إلى شفتيها من أجل قبلة، ثم لتخبره أنها بحاجة ليديه في حياتها - مثل حاجتها لكل شيء آخر. لكل قطرة من روحه. ثم فكرت: ربما الزحام أفضل مبرر لتأجيل هذا الكلام المحرج. ولعل الصمت هو الخيار الأفضل. ولم تعلم ماذا يجب أن تقول في الوقت الضيق المتبقي لهما. وهكذا أغلقت عينيها وتخيلت أصابعه تربت على شعر رأسها. وعندما فتحت عينيها كان قد رحل.

 ***

 

...................

ربيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould: أستاذة الحضارة والفلسفة الإسلامية في جامعة برمنغهام. تترجم من الفارسية والروسية. وتكتب القصة والشعر.

* الترجمة عن سيرين بوكس - بالاتفاق مع الكاتبة.

* ترجمة: د. صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم