صحيفة المثقف

فلسفة التاريخ الشعبي أو (فلسفة التاريخ التطبيقي المحلي)

محمد كريم الساعديمن اجل مدرسة تاريخ عراقية فلسفية

بدأت اوليات فكرة فلسفة التاريخ الشعبي معي، في محاضرات مادة فلسفة التاريخ لطلبة الدكتوراه منذ سنوات، ودار في ذهني ان اطبق مفاهيم  ابن خلدون وهيجل وكارل ماركس ونتشه وشبنكلر وتوينبي على مجتمعاتنا المحلية، وانا اعلم ان الكثير من شواهد فلاسفة التاريخ سيما توينبي هي شواهد من المجتمع المحلي . لكن فلاسفة التاريخ يوضفونها ضمن قواعدها العامة ونظرياتهم بوصفها تفاصيل دالة، شارحة .

وكتبت ونشرت منذ سنوات عديدة، تمهيدا لمدرسة تاريخ عراقية فلسفية متميزة،  افكارا منها:

1- منهجية استشعار الحادثة التاريخية.

 2- تطبيق الية التحدي والاستجابة لفلسفة التاريخ على الفكر الفلسفي.

3- فلسفة تاريخ القبيلة.

4- فلسفة التاريخ بين علم الكلام والتطبيق والمستقبل.

وما اقصده بفلسفة التاريخ الشعبي هي فكرة مرونتها التي اعدها اكبر من تصورات مدرسة الحوليات الفرنسية التي تعتمد على المعالجة الفكرية لجزيئات التاريخ مثل تواريخ العمارة والعبيد والغجر والفن وغير ذلك .

ان الية ونقطة ارتكاز فلسفة التاريخ الشعبي بشقين الاول ان تكون مادة وموضوعا لتطبيق الافكار والمفاهيم التي جاء بها فلاسفة التاريخ على المجتمع المحلي او المدينة والثاني هي استفزاز ذلك المجتمع المحلي واعادة بناء مفاصله الاجتماعية – السياسية – الثقافية والفكرية والادبية، وذلك بتلافي الاخطاء او بوساطة (الطريقة الغيرية) وسوف اتحدث عن هذا الان ولاحقا بمقال منفصل .

وبعض من غاية فلسفة التاريخ الشعبي انما تحاول:

1- التنبيه وفسح المجال لدراسة التاريخ المحلي بطريقة فكرية ترتبط بالتاريخ والمستقبل، على حد سواء.

2- تطوير وتنمية المدينة (اي مدينة) او المجتمع المحلي بقراءته وفق التاريخ المفلسف، وتجاوز الاخطاء، ومحاولة معرفة اسباب الفشل لوضع قواعد لتلافيها .

3- تكوين وتأسيس قواعد مهمة نقوم باشتقاقها من القواعد العامة لفلاسفة التاريخ وتطبيقها على حوادث المجتمع الشعبي المحلي التاريخية .

4- ان هذا المشروع يمزج بين الاسس الفكرية العامة الخاصة بفلسفة التاريخ وبين الجزئيات الخاصة بالمجتمع المحلي، وايضا السعي الى تحقيق التنمية السريعة .

5- تطبيق نظريات ومفاهيم فلاسفة التاريخ على الحوادث الشعبية والحروب والصراعات العشائرية والاقليمية والقومية والطائفية ....الخ . فالاقطاع وجد في مناطق مختلفة من العالم وليس روسيا فقط، وبامكاننا تطبيق اراء ماركس على جنوب العراق مثلا، مع الانتباه الى الفروقات الاخرى . وتبرز العصبية في طبيعة طبقة الزعامات في الجبل والريف والصحراء في كل بلد في العالم، وتختلف بعض تفاصيلها من مكان الى اخر . وهنا السؤال هل ان العصبية تطبق على الدولة فقط دون سواها، وايضا التبادل الدوري والحتمية والتحدي والاستجابة والاقطاع والسادة والعبيد ...الخ . الجواب كلا وفق دراستنا لمفهوم فلسفة التاريخ الشعبي، فمعظم المصطلحات الخاصة بفلسفة التاريخ تدخل بهذا السياق ولو بنحو جزئي .

6-  البحث عن محركات التاريخ المحلي وفهمها واعادة تقيمها وتوازنها.

7-  استشعار الحادثة التاريخية المحلية وفق اليات الاستشعار لغرض تغطية الحدث بشكل دقيق .

8-   فهم اسس الصراعات المحلية واعادة توجيهها وفق منهجية الغيرية الثنائية بمحاور منتجة اجتماعيا منها الثقافة والفكر والادب والفن .

ومثالي هنا هو توجيه الاستفزاز المعرفي والثقافي والعلمي وبطريقة سيناريوية واعلامية لمدينتين مثلا (ميسان وذي قار) وفق تأسيس ديالكتيك ومنهجية المنافسة بهذه المحاور وبطريقة تنمية كل ما هو مهم في المدينتين . وسيثمر الصراع الموجب عن نهضة ادبية وفنية وفكرية وعلمية، وهو خلاف صراع الثيران التي تحطم القرية او تثلم هويتها .

عند تتبعي لتاريخ هذه المدن وللعراق  بشكل عام وجدت بان مدنه هي مسرح للصراع الهامشي، ولعوائل وبيوتات تأسست بفعل الهجرة وتحدياتها، ففي الجنوب صراعات قبائلية مميتة لا ثبات الهويات بدأت منذ زمن بعيد وتبدو وكان لها ديالكتيكها ومحركها الخاص بها، وصراعها غرائزي يرتبط بالطبيعة وتحولاتها (اقصد ان الارض هي الموضوع المتصارع عليه)، وهدف الصراعات هو امتلاك الارض وبسط السيطرة، وهذا يشمل الدول العظمى والزعامات القبلية، مع اختلاف قسوة كل زعامة عن الاخرى، ومع وجود العثمانيين والانكليز، فان هذه القبائل كانت تتأثر بأداء القوى السياسية وبالبيئة، فكانت تدخل في صراعات سببها الجانب البركماتي الغرائزي، هنا نحن نحتاج تبيان القواعد التاريخية التي سارت عليها المدن والقبائل والمؤسسات وفئات المجتمع وقواعد الصراع والاشتباك، ومعرفة وعيها بمرحلتها وبيئتها في ذلك الوقت، وايضا معرفة محركات الخلافات المحلية الشعبية وتحليل ما تبع ذلك فيما بعد .

علينا تقصي اثر الاقتصاد والسياسة والادارة والفن والادب والتعليم والبيئة والدين ووجود المثال  في تغيير التاريخ المحلي لكل مدينة وقبيلة .

وسيكون من الملزم لنا معرفة:

1-  موت وانبعاث المجتمع المحلي او القبيلة، وانقساماتهم، ومعرفة طبيعة السيادة القبلية وتأثيرها – اثار الاعراق على التاريخ المحلي .

2-  اثر الطبقة الوسطى في فلسفة التاريخ الشعبي، سيما تلك التي تخلق النظريات الشفاهية او المكتوبة .

3-  متابعة الهوية المحلية وصمودها وفق التحدي والاستجابة  التوينبية وبروز الهوية الجماعية بالقياس الى الهوية الفردية مما قاد الى ضعف التنمية وبروز صورة القبيلة .

4-  تحليل المحركات المحلية لمجتمعاتنا الماضية، فمن الملاحظ ان الصراع الاجتماعي قاد تلك المجتمعات الى تنافس لم يثمر الا عن بداوة وقد وحدهم الاستفزاز الانكليزي بوصفه احتلالا نبهت على خطره المؤسسة الدينية فكانت تلك المؤسسة العامل الوطني الاول الذي تنبه لخطر الاحتلال الانكليزي وحاربه، كان ذلك قبل ان يستبدل الانكليز اليتهم بمعالجة المجتمع بأكثر من اسلوب طروادي لاختراق المجتمع المحلي، ومازالوا .

5-  من المحركات الشعبية تبرز الغريزة، الغيرية السالبة (الحسد) فكثير من الصراع سببه التحاسد، غيرية  الرجل او المرأة الريفية والتي قادت الى صراعات عديدة بداية من الاعداد الزمني الطويل لا بنائها للتصدي لشؤون القبيلة وانتهاء بالتحريض . وهذه الغرائز شغلت مخيلة القبائل حتى عن التفنن بزراعة الارض واستخراج خيراتها . وشغلتها عن ابتكار الوسائل الحياتية التي تقلل من الجهد الضائع، وقد كانت المخيلة في غالب تلك المناطق ضعيفة جدا .

وكان لا ثر البيئة في المجتمع الشعبي في العراق او في كل بلد، تأثيرا كبيرا ومهما، ولو طبقنا اليات توينبي لفهمنا ان الامكان الخصبة لنظرية التحدي والاستجابة انما هو في جنوب العراق، وغربه بفعل البيئة الصحراوية،وشماله ايضا، لكن تأثر القبائل كان بفعل الصراع السياسي او بفعل طموحات تغالب شيوخ العشائر، وساترك صراعات بني لام والبو محمد وبني اسد والسواعد في جنوب العراق لوقت اخر، لا نها كانت قتال قطع الشطرنج المتكررة التي تستبدل في كل مرة بقبيلة اخرى . ولكن ماذا سيقول توينبي عن صراعات المجتمع المحلي، انها بالتأكيد تحديات لاستجابات ساذجة قد يشفع لها ان مجنونا مثل هتلر وموسوليني وصراعات قادة وطغاة العرب كانوا يحركون التاريخ بشكل عابث .

6-  بإمكاننا الاكتفاء بموجات الهجرات الشعبية القبائلية، من دون وصفها بالحضارية، لان الحضارة هي ان تتشابه امة في العادات والتقاليد وغير ذلك، مع امة اخرى وان تتميز (وهذا هو المهم ) في البناء والعلم والثقافة والمعرفة والادب، وان تمتلك التدوين والاثر الذي يبقى بمثابة الشاهد .

7-  لا تؤثر في حديثنا عن فلسفة التاريخ الشعبي صورة ان قواعد فلسفة التاريخ العامة ثبتت بوصفها تتحدث عن وقت زمني طويل يعد بالآف السنوات، فالدافع هو معرفة التاريخ القريب وفق خضوعه لقواعد الفعل الانساني الفردي او الجماعي واثر تلك الافعال على التكتلات البشرية والقبائل والعشائر بشكل عام .

8-  قد لا تتعلق فلسفة التاريخ الشعبي بدراسة الحضارات بوصفها حضارات او الدول وتقلباتها، لكنها تتداخل مع فلسفة التاريخ العامة بمفردات مهمة كما بينا منها البيئة والفعل الانساني وتعدده، واذا اختصرنا فانه ستبرز مصطلحات بيئة فلسفة التاريخ  الشعبية في مجمل مناطق العالم ومنها ( المجتمع الارستقراطي، الازمات (العامة – المحلية )، التحدي والاستجابة، السادة والعبيد، البداوة، الاقطاع، العصبية والياتها، الاقليات، البطل المحلي والبطل الديني، تاريخ الطبيعة المحيطة، الحتمية والدين، الزعامة والزعامات، السرد التاريخي، صراع الطبقات، الصراع ...الخ .

اظن بان المقال لن يفي حق الموضوع ونحتاج لتفصيل اخر بالتأكيد، ولكن يمكننا ان نفكر باثر الاقتصاد على مجتمعنا الشعبي على مر مئات السنوات وهذا هو احد محركات التاريخ المحلي بالإضافة الى الصراع الاثني والطائفي والعرقي ربما ايضا يحرك تاريخنا المحلي بصورة متقطعة .

وبإمكاننا ايضا تقسيم تاريخ المدينة الواحدة او المجتمع الشعبي ككل على مراحل مهمة ودراسة تلك المراحل وفق سياق تحليلي تاريخي مع قراءة تحليلية لدويلات بعض القبائل الكبيرة التي اسسوها وخصائصها، ودراسة الروابط بين الريف والبرير او الصحراء والجبل، وتطبيق المفردات النقدية لفلسفة ماركس الاشتراكية على اريافنا وصحارينا، فقد زخرت كل البلدان الفقيرة المتخلفة بالطبقية والبرجوازية والرأسمالية، ويندر ان تجد تنويرا في بيئة الصراع القبائلي .

 

د. رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم