صحيفة المثقف

في حضرة الشعر

وليد العرفي أن تكتب تقديماً للشعر في عدد محدود من الكلمات؛ فهي بلا شكّ عمليّة صعبة لها محاذيرها؛ لأنها لا تُعطي الشعر حقَّه من الدرس والتحليل؛ فهي أشبه   ما تكون بولادة قيصرية لجنين يريد أن يأخذ زمنه من العيش في رحم أمه، ولكن لا بدَّ  من ممارسة تلك العملية ؛ لأنَّ الغاية هي تسليط الضوء على الظاهر المكشوف، لا التعمّق في دواخل المتون وتفسير مُضمراتها، ودلالاتها في مراميها البعيدة، إذ الشعر حمَّال وجوه، واللغة الشعرية  ذات أبعاد تتسم بالانفتاح على آفاق من الرؤى، وفضاءات أخيلة بوصف الشعر فناً جمالياً وعاطفة متقدة المشاعر، ووفق هذا الإدراك نحاول تسليط الضوء في حضرة الشعر الذي يطل علينا به

الشاعر ا.د عادل الحنظل في مجموعته البكر التي وسمها بـ  رحيق أيلول، وهو عنوان يفتح مخيلة المتلقي على أسئلة ما وراء العنوان، ومُضمراته النفسية وإحالاته المرجعية التي تكشف عن علاقة ظاهرة، وأخرى خافية، ومن هذا الانكشاف يتبدَّى أنه لا بدَّ للمتلقي من قراءة النصوص عله يصل إلى إجابة لما يدور في ذهنه، ذلك أن العنوان لم يأتِ انتقاءً من عنوان إحدى قصائد الديوان الداخلية، وعلى هذا البعد يبدو اختيار الشاعر للعنوان له ما ورائيته، وهو عنوان لافت قامت بنيته اللغوية على التركيب الإضافي، وهو أسلوب في الصياغة يمنح اللغة طاقة من الخلق والتجدد التي تبعث على الدهشة نتيجة جمع غير المتوافق ضمن السياق اللغوي؛ فما العلاقة التي يُمكن أن تجمع بين الرحيق وهو من حقل الرائحة مع أيلول أحد أشهر فصل الخريف؟

 إنَّ استقراء شعر الحنظل يمكن أن يشي بإشعاع  يُضيء على ذلك الاختيار الذي ربما يُحيل على حدث ماض في حياة الشاعر، وهو سقوط صاروخ بالقرب منه، وهو ما  أشار إليه في هامش قصيدته، (خواطر في دائرة الموت):

1955 عادل الحنظللم يعد يحضرني إلا نبوءات الفناء

لمحات عبرت أشتات بالي

 أوصلت لي كل تأريخ الحياة

عرضت لي بانحسار الذهن وشرود اللحظات

صوراً تشبه أمي

وخيالاً لنبي كأبي

 يستنهض عزمي

 إنني وحدي هنا أهذي بمفترق الزمان

 إنها اللحظة الفاصلة بين حياة تتبدى في نهايتها، وموت محدق يتلمَّسه الشاعر عبر حادث سقوط الصاروخ، وهنا تتوقف الذاكرة عند صدمة الحدث، وقد تحوَّلت إلى أشتات بفعل الذهول الناتج عن وقع الصدمة، وهول الموقف ومفاجأته الشاعر الذي يجد نفسه في لحظة واحدة يستعرض شريط الحياة ، وكأنها مجرد لحظة يكابد مأساتها، وإزاء هذا الواقع لا يجد سوى صورة الأم التي يحقق من خلالها لحظة أمن يتخلص  خلالها من رعب المكان، لعلَّه يجد نوعاً من السلام الداخلي باستدعاء صورة الأم، وهذه الاستعادة تحتاج إلى قوّة فاعلة تمكنه من تحقيق استعادة القوة اللازمة للخلاص من سيطرة الجو الخانق الذي يحيط به ؛ فيتكىء إلى صورة الأب الذي يجد فيه المخلص بما أسند إليه من صفة النبي الذي يحمل البشرى والسلامة، كما يعني في رمزيته  القوة التي يحتاج إليها لتقوي من عزيمته، وترفع من معنوياته للنهوض من جديد في مواجهة واقع الخوف الذي يعتم عليه الرؤيا الباصرة والرؤية البصيرة في الآن نفسه .

 وبعيداً عن تلك المرجعية يبدو العنوان رمزاً شعرياً يُحيل من ناحية سيكولوجية على تحديد زمني يتعلّق بتأخر الشاعر في إصدار نتاجه الشعري إلى مرحلة متأخرة من العمر الذي عبّر عنه برمزية أيلول، وهو من حيث الفصل الذي يأتي فيه والترتيب في العام يأتي تجسيداً لمرحلة متأخرة من العمر سعى فيها الشاعر إلى إصدار شعره في ديوان جاء شاملاً تجربة الشاعر الحنظل الذي تنوعت فيه الموضوعات ما بين الموضوعات الذاتية التي لم تنغلق على ذاتها إلا لتكون تلك الذات جسر عبور وبوابة وصول إلى الآخر، ومن الفرد إلى الجماعة، كما تبدَّتْ موضوعة الوطن بحضورها اللافت، وعلى الرغم من بُعد الشاعر الجغرافي عن وطنه الأصلي العراق إلا أنه ظلَّ متجذرا بأرض العراق، يحن إلى مياهه، مُستذكراً نسيمه متفيئاً سعف ظلال  نخيله، كما حضرت واقعية الاغتراب في شعره؛ لتكون موضوعاً من الموضوعات التي تكشف عن عمق التعلق بالوطن من خلال مكابدات المغترب التي يعيش مأساته مضاعفة، وهو إحساس الحزن الذي يشعر فيه، ولو كان يعيش في قمة السعادة، وهذا الشعور نجده يتجلّى في قصيدته التي يُصوّر فيها أجواء الحانة وما فيها من أجواء باعثة على المسرة والفرح، ولكن هيهات للشاعر أن يعيش تلك السعادة، وقلبه ممتلىء بالذكريات، وعقله يختزن مئات الصور والقصص الحزينة يقول فيها:

أرنو لكأسي كالغريب

كأنما خمري بها حسٌّ كئيب

 نقيَّةٌ صفراءُ أحسبُها شحوب 

يا كأسُ

هلْ جئْنا لننسى بالحميَّا أمْ لكي نأسى على وطنٍ سليب ؟!

إنَّ انشغال الشاعر بالهمّ الوطني يجعل منه امرأ يحمل الوطن في حلّه وارتحاله، وكأنه الشاعر الجاهلي الذي لا يغادر الطلل، مهما نأى وابتعد عن الديار، وها هو الشاعر يستنسخ من الكأس صديقاً يُوجّه إليه الشكوى ويبثه الألم والحزن الذي يشعر به تجاه الواقع الذي يعانيه من الوطن رغم ابتعاده عنه، إنها العاطفة التي تتملك الإنسان ؛ فلا ينفلت من الوطن إلا بجسده ؛ فيما روحه تظلُّ حبيسة ارتهانها للوطن المعشوق رغم قسوته وظلمه على الشاعر العاشق وكأني بالشاعر يُردّد صدى قول الشاعر القديم : قتادة أبوعزيز الذي تولى أمارة مكة المكرمة عام 597 هـ وتوفي عام 617 :

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ               وأهلي وإنْ شحّوا عليَّ كرامُ  

وتبدو تجربة شاعرنا الحنظل تجربة منفتحة على أكثر من رؤيا، وأسلوب شعري، إذ يجد القارىء أن شعر الديوان قد جاء منفتحاً على كل التجارب الشعرية السابقة ؛ فنقرأ قصيدة العمود إلى جانب قصيدة التفعيلة، وكذلك القصيدة النثرية، وهو في كل تلك الأنماط الأسلوبية في التعبير، وطرائق التصوير بقي أميناً على خصوصيته في البوح والرؤيا التي تجعل من شعره ذا خصوصية تميزه من غيره من شعراء جيله، كما يلحظ المتمعن في شعره تأثير الثقافة العربية والغربية التي تجلت ظهوراتها عبر تناصيات إحالية لم تتبدَ بشكل ظاهر، وإنما كانت ظلالاً موشية قصائده بإشعاعاتها

ولا أعدو الحقيقة إذا قلت بأنَّ في داخل كل شاعر فيلسوفاً، وهو ما يتجلّى في ديوان شاعرنا الحنظل في قصيدته التي يشي عنوانها (ظنون) بمنحاها ذي السمت الفلسفي، إذ الشك أول طريق للمعرفة، وهو ما كشفت عنه هذه القصيدة التي نهضت على السؤال والجواب الباعث على الحيرة وبقاء السؤال منفتحاً على غير تأويل وأكثر من إجابة يقول فيها :

أيها الطين الذي أعميت ظني

فيم للشمس ضياء

 إن يكن ما تضيء الشمس

لا تجلوه عيني

إنها الحقيقة التي يسعى الشاعر إلى اكتشافها، والبحث عنها، وكأني بالشاعر يحيل على مقولة الشاعر أبي الطيب المتنبي :

وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ              إذ اسْتوَتْ عندَهُ الأنوارُ والظلُّمُ ؟!

ويلجأ الشاعر إلى القصيدة العمودية التي يجد القارىء فيها الشاعر ـــ وعلى الرغم من ارتدائها العباءة الخليلية ــ  إلا أنها تتبدى عصرية بلغتها،وحضارية في رؤاها الفنيّة وطروحاتها الفكرية ولعلَّ خير ما أختم فيه هذه الوقفة في حضرة الشعر ومقام الشاعر عادل الحنظل قوله :

أسعد العمر أن تكون حبيباً          يطلب الحب منهجاً واعتناقا

فأنا والهوى وسحر الليالي          أشبه الماء جارياً رقراقا

ينحت الصخر كي يراه جميلاً     ومذيب بمده الأعلاقا

وأخيراُ أمنياتي للشاعر أ د. عادل الحنظل استمرار العطاء والمزيد من الإبداع في دواوين لاحقة، وحياة يرتدي فيها لبوس الصحة وكمال السعادة.

 

د. وليد العرفي   سورية / حمص / جامعة البعث

 في 17/ 10/2020 م

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم