صحيفة المثقف

أحزاب ركبت صهوات الخلاف وحملت رماح الصراع

اياد الزهيريفمزقت نسيج مجتمع وأغرقته بالدماء

بعد معاهدت سايكس بيكو تشكل العراق بخريطته الحاليه، بقوميات مختلفه، وأديان عديده ومذاهب شتى، قلما تجد بلداً بهذا التنوع، ولكنه بالحقيقه لا يختلف كثيراً عن العراق التاريخي الذي يمتد من الموصل شمالاً الى البصره جنوباً، ولكن هذا العراق لا يُنكر أنه لم يكن ذو نسيج أجتماعي منسجم، ولم يكن على درجه عاليه من المتانه والتلاحم الوطني بسبب ماذكرنا من تنوعات قوميه ومذهبيه ولغويه، بالأضافه الى ما طرأت عليه من هجرات كثيره من بلدان وثقافات مختلفه، ساهمت بأحداث الكثير من الأختلالات الأجتماعيه فيه، منها بسبب الأحتلال الذي تعرض له البلد من أكثر من دوله، ومنها هجرات لأسباب كثيره ليس هنا محل ذكرها، فجاء الملك فيصل الأول كأول ملك عليه،حاملاً مشروع تشكيل أمه عراقيه، لأن العراق وحسب رأيه كان كياناً واحداً ولكن لم يشعر بأن أهله يشكلون شعباً واحداً، وحسب ما يُزعم عن الملك فيما ذُكر عنه ( أقول وقلبي ملآن أسى.. انه في أعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد تكتلات بشريه خاليه من أي فكره وطنيه.. لا تجمع بينهم جامعه سماعون للسوء ميالون للفوضى.. فنحن نريد والحاله هذه تشكيل وتكوين شعب.. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي..). فالشعب عند تشكيل الحكومه العراقيه كان عباره عن جزر متناثره تفصل بينهم فجوات ليست بالقليله، وهذا ما دعى فيصل الأول الى محاولة ربط جسور التواصل بينهم، وجعل منهم وحده واحده، فالرجل ليس من السهل أنجاز مشروعه لسببين مهمين، ألأول هو بسبب أنه شعب صعب المراس، كما وصفه القائد الفلسطيني (أحمد جبريل)، والأخر بسبب قصر مدة حكم الملك، فالرجل حكم العراق بين(١٩٢١3-١٩٣٣م) وهي فتره قصيره جداً، ومن بعده لم تستقر كل الحكومات التي تشكلت، والسبب أن رجال هذه الوزارات قسماً من أصول غير عراقيه، وقسماً من مناطق وأنتماءات مذهبيه وأثنيه مختلفه وأستبعادها للأكثريه العدديه من سكانه، مما عكس حاله غير منسجمه بين أعضاء وزراءها والجمهور، وفجوه واسعه مع الجماهير التي تحس بغربة هؤلاء المسؤولين عنها، مما أحدث فجوه ونفره بينهما، وهذا هو من أهم أسباب الثورات والأنتفاضات المتعدده التي حدثت بين الناس وهذه الحكومات . عدم الأنسجام هذا، وحدوث حاله من التذمر وعدم الرضا ساعد على حدوث ثورة 14 تموز بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم . هنا كانت مرحله مفصليه بتاريخ العراق الحديث، فكان الرجل وطني التوجه فأراد تأسيس حاله جديده يؤسس عليها حاله وطنيه جديده على أنقاض تجربه لم يكتب لها النجاح، فعمل على دعوة أحزاب سياسيه كانت في طور تكوينها الأولي مثل حزب الأستقلال والحزب الوطني الديمقراطي، والتجمع القومي والناصري بالأضافه للحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الكردستاني، فالرجل حرص على تأليف حكومه عراقيه تتألف من هذه الأحزاب بأعتبارها أحزاب رئيسيه وتمثل أغلب الشارع العراقي، وأن كانت الكتله الأكبر من الشعب العراقي هي مستقله، ومن مشروع هذا الرجل هو تأنيه في الأنضمام للمشروع الناصري القومي أملاً بأعطاء الأولويه للبناء الوطني . من سوء حظ العراق أن الرياح جرت بما لم يشتهي الزعيم فبدأ صراع محموم بين القومين ومن ضمنهم البعث من جهه والزعيم عبد الكريم والشيوعيين من جهه أخرى . الصراع كان سببه حماسة القوميين بالأنضمام للجمهوريه العربيه المتحده (سوريا و مصر) بقيادة جمال عبد الناصر، في حين كان الزعيم يرى بضرورة التضامن معها أولاً، والعمل على بناء مؤسسات الدوله، وومعالجة مشاكل البلد وبعد ذلك يمكن النظر في مسألة الوحده مع مصر وسوريا، وكان الحزب الشيوعي قريب من توجه الزعيم، حيث أقترح الفيدراليه، ولكن للأسف الموج الهادر للمشاعر القوميه، وقلة الخبره للتنظيمات القوميه العراقيه، خاصه وأن أغلب قياداتها من الشباب المتحمس،هو ما أشعل هذا الصراع بين الأطراف، وهو السبب بالقيام بعدة محاولات أغتيال للزعيم عبد الكريم والذي أنتهى بالأنقلاب عليه في حركة 8 شباط 1963، والذي أنتهى بمجزره راح ضحيتها الكثير من المدنيين والعسكرين ومنهم أعدام الزعيم عبد الكريم قاسم، وقد وصف السياسي البعثي ووزير الخارجيه العراقي الأسبق طالب شبيب في ذاكرته التي كتبها الدكتور علي كريم سعيد الأوضاع آنذاك قائلاً (ومنذ عودتي للعراق عام 1958 وجدت نفسي داخل أجواء تصادميه مع سلطة عبد الكريم قاسم والشيوعين، ولم يترك لنا الصراع وللأطراف الأخرى فرصه كي نعيد التفكير ببداياتنا وتطوير أنفسنا) . فقد كان الصراع بين الأحزاب صراعاً عبثياً مقيتاً، حتى أن حردان التكريتي في مذكراته يقول عن البعث وسلوكهم العدواني (كنا عصابه من اللصوص والقتله نسير خلف مليشيات صدام للأعدام..) كما أن بالمقابل مارس الشيوعيون عنفاً غير قليل ضد البعثيين وبعض القوميين وخاصه في قضية حركة الشواف في الموصل حتى أن بعضهم أشتكى عند عبد الكريم قاسم وبكى أمام الرئيس وينقل الصحفي يونس الطائي أن قاسم أخرج منديلاً وبكى معهم، كما كانت هتافاتهم تتسم بالحده والدعوه الى أستعمال القسوه،حتى كانت هتافاتهم في المحكمه التي حاكمت المتمردين بحركة الشواف من مثل (أعدم أشنق لا تكول ما عندي وقت) و ( أسحقوا المؤامره والمتآمرين) و (طهروا بلادنا من الخونه)، كما أن أحداث كركوك التي أتسمت بالعنف والذي أتهم بها الشيوعيون ساهم في رفع درجة حرارة الشارع أنذاك، وأيقظت مشاعر الأنتقام والكراهيه في الشارع العراقي، حيث قامت المقاومه الشعبيه بعمليات سحل وتمثيل بالجثث والتعليق على أعمدة الكهرباء بالشوارع، وقد ذكرت صحيفة أتحاد الشعب التابعه للحزب الشيوعي العراقي قي عددها ١٩٥٩/٣/١٣ (علقت وسحبت جثث المجرمين القتله من مدن الموصل، وأنجلت المعركه فأذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة مدنيين وعسكرين صرعى في دورهم أو في قارعة الطريق)، كما في عدد آخر في الجريده بتاريخ ١٩٥٩/٣/١٦ كتبت (...ان مؤامرة الموصل وسحقها وسحل جثث الخونه في الشوارع ستكون درساً قاسياً للمتأمرين وضربه بوجه دعاة القوميه) حتى أن الزعيم عبد الكريم فد أدان مذبحة كركوك وأتهم الشيوعيون بها،فقال في خطابه في مقر كنيسة مار يوسف (هل فعل ذلك جنكيزخان، أو هولاكو من قبل ؟) حتى أن القيادي الشيوعي ثابت حبيب العاني قال بصدد العنف الغير مبرر من قبل الشيوعيون (أن مجزرة الدملماجة من قبل رفاقنا في الموصل كانت جريمه ارتكبت لا لزوم لها)، فكانت حمة الثوريه وما تخللها من عنف وقسوه هي السائده بين المتخاصمين السياسيين، وهذا هو من قاد أزلام البعث للأنتقام من الشيوعين في أنقلاب ٨ شباط 1963 الذي قاده البعثيون وجاؤا بعنف أكبر حتى أن في الليله الثانيه من الأنقلاب قام صالح مهدي عماش وبرفقة القيادي البعثي علي صالح السعدي بأقتراف مجره في معسكر الرشيد وذلك بأعدام مجموعه من الضباط بأدعاء أنهم مارسوا العنف في فترة حكم قاسم، وهكذا كانت النزعه العدوانيه في أوجها بين المتخاصمين، فقد كانت مشاعر العنف والأنتقام، وليس مشاعر الود والأحترام هي السائده بين الأحزاب العراقيه، وما أقدم عليه الحرس القومي البعثي من عمليات أنتقام مروعه لخير دليل على ما جرى من ساديه مقيته، فما كان عندهم للحوارمن مساحه، فكانت أحزاب بالأسماء ولكنها بالحقيقه تحمل طبعاً عشائرياً بدوياً تغالبياً فيما بينهم، وهذا هو ما أفقد العراق أستقراره، كما لم يسمح بظهور أعراف وتقاليد حزبيه راقيه تقوم على الحوار والتفاهم تؤدي الى أقامة تحالفات وجبهات وطنيه تقود البلد في مشاريع تنمويه كبرى، بل أن علاقاتها الشرسه مع بعضها هي من ضيعت على الشعب العراقي الكثير من فرص النمو والرخاء، وخاصه والعراق بلد مكتنز بالثروات الطبيعيه الهائله، التي لو أستثمرت بشكل جيد لكان في طليعة البلدان في المنطقه .

أن الأفكار والمبادئ المثاليه التي جاءت بها هذه الأحزاب، والذي زاد بالأمر بله هو أن من تبناها أكثريه من الشباب المراهق، والمبتدأ الثقافه والقليل الخبره بالعمل الحزبي، والذي زاد من حماسهم هو الموجه الكاسحه من الأفكار الثوريه وخاصه الأشتراكيه التي كانت تحمل مبدأ العنف الثوري، والذي برر لهم مشروعية العنف، كما كان هناك عامل غايه بالأهميه الا وهو أن هذه الأحزاب تبنت وأستندت على فلسفات سياسيه وفكريه جاءت من خارج البيئه العراقيه، أو على الأقل لم يكيفوها لواقعنا العراقي، مما جعلها عصيه على التطبيق وبعيده عن الواقع مما أصابها بالتعثر لغرابتها عن مزاج شعب تشرب بموروث مختلف كثيراً عنها، وهذا أحد أهم أسباب تقاطعها مع الواقع الأجتماعي والسياسي، فكان الشعور بالغربه منها سائداً، وما اكتساح بعضها للشارع في فتره ما لا يرجع لأسباب القناعه بها وأنما لأسباب نفسيه وأجتماعيه معينه. فقد كان الفكر الأممي والقومي موضة سنوات الأربعينات والخمسينات والستينات، فكانت عباره عن فقاعات سرعان ما خفتت وتلاشت . أن الواقعيه السياسيه القائمه على الحاجه الموضوعيه، ودراسة الموروث بعين ناقده، والأنفتاح على التقدم العلمي والفكري للشعوب الأخرى، وتبني الأفكار التقدميه والبناءه، هي الكفيله ببناء وطن يضم الجميع ويحمل مقومات البناء والتنميه، ويحقق الأمن والسلام لشعبه.

 

أياد الزهيري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم