صحيفة المثقف

من صخرة العذرية إلى معراج التصوف

منذر الغزاليقراءة في مقامات الغزل في قصيدة "سبحان من نظمك"، للشاعر العراقي الدكتور وليد جاسم الزبيدي

اولاً، القصيدة، بقلم: د. وليد جاسم الزبيدي

سبحانَ مَنْ نَظَمَكْ..!

ما همّني سقمي بل همّني سقمكْ..

لو زلّ بي قدمي أمشي بها قدمَكْ..

ما كلُ نائحةٍ قصّتْ جدائلها

هل كان من دمها يجري وليس دمكْ..

وافيتني قدرا يلهو بأنجمنا

غيّبتني وطراً خيّرتني عدمَكْ..

صيّرتَ قافيةً مرسى لغربتنا

والبحرُ صومعةٌ أوهمتَ منْ رسمَكْ..

للحبّ أزمنةٌ غنّتْ على وترٍ

ذوّبْتَها قُبَلاً كي تستحيلَ فمَكْ..

كوّنتَ من مهجٍ أحلامَنا طَلَلاً

أوقفتَ ذاكرةً والدمعُ قد وسمَكْ..

يكفيني ما ملكتْ روحي وما نظمتْ

حبّاً لطلعتكم سبحانَ منْ نظمَكْ..

ثانيا: القراءة بقلم: منذر فالح الغزالي

بين يدينا قصيدة تقليدية، تقليدية في بنائها العمودي القائم على الشطرين، وتقليديّةٌ في وزنها الخاضع للقافية وعَروض الفراهيدي، وفي لغتها الرصينة، وموضوعها الذي يعدّ من أهم الموضوعات التي تناولها الشاعر العربي منذ أن قال شعراً.

ولأنها بهذه الرصانة، لا بدّ أن نبدأ قراءتنا لها بدايةً تقليدية نليق برصانة القصيدة وتقليديتها.

فنبدأ بتحليل العنوان، ومنه نعرّج على الغرض الشعريّ للقصيدة.

سبحان من نظمك!

عنوانٌ لقصيدةٍ تتألف من سبعة أبيات، مؤلفٌ من ثلاث مفردات، الأولى تستدعي الثالثة ولا يكتمل المعنى بدونها.

في القاموس مفردة نَظَمَ تأخذ المعاني التالية:

نظَمَ الأَشياءَ : أَلَّفَها وضمَّ بعضها إلى بعض نظم.

نَظَمَتِ اللُّؤْلُؤَ : أَلَّفَتْهُ وَوَضَعَتْهُ فِي عِقْدٍ.

نَظَمَ الشِّعْرَ : أَلَّفَ كَلاَماً مَوْزُوناً مُقَفّىً.

في كلّ هذا الطيف من المعاني نجد الدلالة إلى الإعجاب والدهشة التي تستدعي التسبيح لدقّة الصنعة وجمال الخلق.

هذا العنوان لا يأخذ دلالته الكاملة حتى نقرأ القصيدة وننتهي من الأبيات، ونتأكد من غرض القصيدة. رغم أنّ الشاعر يقول في البيت الأخير  :

 يكفيني ما ملكتْ روحي وما نظمتْ   حبّاً لطلعتكم سبحانَ منْ نظمَكْ..

فالدلالة عامة دون قراءة الأبيات قراءةً دلاليّة، من خلال قراءتها قراءةً معمّقة، والتركيز على مضمونها  ودلالات المفردات، للخروج، في النهاية، بفكرةٍ نطمئنّ إليها عن غرض القصيدة.

بقراءة الأبيات قراءةً أوليّة تركّز على مضامين الأبيات وسماتها اللغوية، نخرج باستنتاج أن الغزل هو ما أراده الشاعر، والغزل العذريّ بالتحديد، وسندرك، منذ البيت الأوّل، أنّ المقصود بالدهشة هو الحبيب.

الغزل في الشعر العربي، لمحة تاريخية

عُرف الغزل منذ العصر الجاهليّ. والقصيدة العربيّة الجاهليّة، إلّا النادر منها، لم تنشغل بغرض الغزل، وإنما الغزل يرِدُ في مقدّمتها فحسب، ويأتي، في الأغلب، مضَمَّناً في الوقوف على الأطلال. ووصف الأطلال يتصدّر القصيدة؛ لكنه في الحقيقة لم يكن سوى صدى العاطفة الصادقة، والحاجة النفسيّة التي يحسّها الشاعر للتعبير عن المواجد والعواطف، فما بكاء الأطلال إلّا بكاءً على حبيبٍ كان وفارق، مثلما اندرست الديار، ولم يبق منها سوى بعض أطلالٍ تدلّ على ماضٍ كان ولن يعود.

 وفي العصر الإسلامي، وجدنا كعب بن زهير يستهلّ لاميته الشهيرة في مدح الرسول بذكر سعاد، والتغزل بها، حتى اشتهرت لاميته تلك بقصيدة "بانت سعاد".

والغزل في العصر الإسلامي اتسم بالطهر والعفّة، حيث أثّر الإسلام على الشعر، والآداب بشكل عام، بحكم تأثيره الأخلاقي على المجتمع.

وفي المجتمع الأموي شهد الغزل تطوراً ملحوظاً، فلم يعد مجرّد مطلعٍ في قصيدة، بل نُظِمت في الغزل قصائد تامّة. وقد ظهر في ذلك تياران للغزل: الغزل الصريح الذي حمل لواءه عمر بن أبي ربيعة، والغزل العفيف أو العذريّ.

والغزل العذريّ فنٌّ شعريٌّ تشيع فيه حرارة العاطفة التي تصوّر خلجات النفس وفرحة اللقاء وآلام الفراق. وسُمّي عذريّاً لأنّ أوّل من اشتهر به من قبائل العرب هم بنو عذرة.

تحليل غرض القصيدة من خلال سماتها الداخلية

سمات الغزل العذري

1- وحدة الموضوع، عدم وجود مقدمات التي تسبق الموضوع، أو تمهّد له، وهذا نجده في القصيدة  منذ البيت الأول:

ما همّني سقمي بل همّني سقمكْ        لو زلّ بي قدمي أمشي بها قدمَكْ

حتى البيت الأخير، فكل كلمة في القصيدة هي في خدمة عاطفة الشاعر.

2- بساطة المعاني:

القارئ لأبيات القصيدة يلمس ببساطة وسهولة ألفاظها ووضوحها، فما يشغل الشاعر هو التعبير بصدق عن المشاعر التي تخالجه ببساطة وعفوية، دون تكلّف أو تلوينات تفقد المشاعر صدقها وعفويتها، فلا مداراة ولا افتعال.

وهذا نلاحظه في أبيات القصيدة، فلا نعثر على مفردة واحدة، أو صفة فيها صفة جسدية، أو حتى تلميحا.

3- الحزن والتشاؤم: وسبب ذلك عدم اللقاء أو الوصال مع المحبوبة ، فنجد الأسى المكتوم والحزن على قلبه والتسليم لقضاء الله قدره.

لنفكر في هذه الصورة التي استقاها الشاعر من تراث البيئة الغني بالتفجع والبكاء.

ما كلُ نائحةٍ قصّتْ جدائلها           هل كان من دمها يجري وليس دمكْ.

قصّ الشعر عادةٌ قديمةٌ منذ العصر الجاهليّ، أن تقصّ الثكلى شعرها وتظهر أمام الرجال، إشارةً للحزن وطلباً للثأر.

أو تلك الصورة التي تفيض بالشكوى:

وافيتني قدرا يلهو بأنجمنا       غيّبتني وطراً خيّرتني عدمَكْ.

القدر، والأنجم، الأنجم المقصودة هي أنجم الحظ التي تتعاضد مع مفردة القدر، ويعطف عليها  تناصٍّاً مع الآية الكريمة: "... فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً..." الأحزاب37، لتعطي حالةً قدريّةً مسلّمةً راضيةً بالنصيب من المحبوب.

أما الصورة التي تعمّق معاني العنوان وتوسّع دلالاتهن تلك التي جاءت في البيت التالي مباشرةً:

صيّرتَ قافيةً مرسى لغربتنا    والبحرُ صومعةٌ أوهمتَ منْ رسمَكْ..

فالقافية، والبحر، البحر الشعري، تعيدنا إلى مفردة العنوان التي تجعل من عملية الخلق نظماً، وتجعل من الحبيبة قصيدةً ينظمها الخالق، في إشارة مجازية غايةً في الرقة والإدهاش. فالحبيبة في عيون ووجدان العاشق مخلوق مختلف، يعتقد أنّ الخالق حين خلقها كان محتفياً بما ينظم، دوناً عن سائر مخلوقاته.

4- الحديث عن المكابدة والمعاناة الدائمة والرضا بذلك.

كوّنتَ من مهجٍ أحلامَنا طَلَلاً               أوقفتَ ذاكرةً والدمعُ قد وسمَكْ.

فنجد الأسى المكتوم والحزن على قلبه، يختم الشاعر قصيدته بهذه الاستكانة والرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، بصورة ترتقي بمشاعر الحب إلى معارج علا قدسية، حيث يقول:

يكفيني ما ملكتْ روحي وما نظمتْ         حبّاً لطلعتكم سبحانَ منْ نظمَكْ.

بعد هذه القراءة الأولية الشاملة للقصيدة، نؤكّد، تحليلياً، بأن القصيدة هي قصيدة في الغزل العذري، بعد أن أكدناها حدساً، من خلال طبيعة الألفاظ والمعاني.

في الصعود نحو المعراج

في القراءة الأولية للقصيدة أنها في الحب العذري؛ لكن المتأمًل للألفاظ، والمتتبع لدلالاتها، سيجد لزاماً عليه قراءة الأبيات قراءة أخرى متعمّقة، متمهّلة، فالشاعر مبدع له مع الشعر عمرٌ وتجربة طويلة وحبٌّ كبير، وليس من البساطة، أو اللامبالاة، بحيث تفلت منه اللغة بدقائقها البسيطة، لكن المهمة أيضاً، عبثاً، ودون هدف.

صادفت هذه الدقّة منذ الشطر الأول: ما همّني سقمي بل همّني سقمَكْ

 فوقفت عند مفردة سقمَك، التي حُرِّكت بالفتح بدل الرفع، إذن هي مفعولاً به، وليست فاعلاً، وصار لزاماً أن نفتّش عن الفاعل، وما هي الفاعلية في الأمر، وهذا استدعى إعادة قراءة القصيدة قراءة متأنية تتجاوز المستوى السطحي إلى ّ الرمزيّة، وفكّ الترابطات الدقيقة بين الألفاظ للوصول إليها. تبيّن بأن للقصيدة مستويين للقراءة، وربما أكثر من ذلك، وعلى القارئ الحصيف تتبّع تلك المستويات.

وهنا يتوجّب عليّ أن أقوم بشرح البيت كاملاً كما فهمته في قراءتي الثانية:

يخاطب الشاعر محبوبه ويخبره بأنّ ضناه وتعبه ليس ما يشغله ويتعبه، إنما الذي يضنيه تصوّره بأن ضناه يضني الحبي. أي: ما همّني تعبي سقمي، إنّ سقمي الحقيقي هو ما قد يصيبك حين تعلم بسقمي.

وبالانتقال إلى الشطر الثاني: لو زلّ بي قدمي أمشي بها قدمَكْ،  يتأكّد للقارئ بأنّ الأمر أكبر من مجرّد غزلٍ عفيفٍ بمحبوبةٍ غابت، على أهميته وسموّه وجماله، إنها تشابكٌ ر وحيٌّ، تجانسٌ وتوحّد بين  الشاعر وبين محبوبه.

 وأعدْت قراءة القصيدة قراءةً أعمق، أو بالأحرى قراءةً أعلى، فقد سمت بي الأبيات إلى المعارج العلا، إلى مقام من مقامات التصوّف، حيث المتصوف العاشق يتوحّد مع المعشوق، ويصبح والمحبوب روحاً واحدة وجسداً واحداً.

إنّ الغزل الصوفيّ أرقى أنواع الغزل، ففيه السموّ والارتقاء وعدم انتظار المكافأة، بل فيه الاحتراق والذوبان في إطار المعشوق.

ولا بدّ هنا من التمييز بين الشعر الصوفي، وبين التصوّف في الشعر. فالتصوّف في الشعر يُنظر إليه باعتباره مكوّناً بنائياً يتجلّى في العبارة الشعرية، بإشاراتها وومضاتها الإشراقية.

الشاعر العذري ينظر إلى محبوبته كأنها (إله يُعبد)، بعيدة المنال، عصية على الوصال، يلتقي مع الشاعر الصوفي؛ لكنه يختلف عنه في أنّ عينيه تريان الصورة، صورة الحبيبة، يتأمّل الصورة ويهيم حباً في الروح الملائكية. أما الصوفي فيتوحّد بمعشوقه من خلال الرؤيا، سواء كانت الرؤيا مقاماً أم حالة.

كلاهما يعانيان الوجد، يعيشان حالةً روحانيّةً مشبعةً بالحب والغزل، غير أن الأول يحسّ باللذة من العذاب والحرمان، والثاني يشعر بلذة الوصال، حين يتجلى له المحبوب في مقاماته العلا.

يكفيني ما ملكتْ روحي وما نظمتْ     حبّاً لطلعتكم سبحانَ منْ نظمَكْ.

 

منذر فالح الغزالي

بون 21/10/2020

...............................

* الإشارة إلى الصخرة المشرّفة التي تقول الروايات أن النبي محمد (ص) عرج منها إلى سدرة المنتهى.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم