صحيفة المثقف

دراسة في رواية (سيدات زحل) للكاتبة لطفية الدليمي (4)

حيدر عبدالرضاالتصوير الروائي بين وحدات السرد وإضاءة مضمون النص

الفصل الثاني ـ المبحث (4)


توطئة:

حاولنا في مباحث الفصل الأول والثاني من دراسات كتابنا، الحديث حول زمن الاستدعاءات التابعة للأنا الشخوصية المشاركة في الرواية، وكان أبرز تمفصلات مباحثنا تمحورا في وظيفة (الزمن الماقبلي) وصولا منه إلى زمن الخطاب الروائي المستخلص في ظل مستحدثات مواقع انتقال رؤية المحور الفاعل ـ السارد المشارك ـ في بث أهم مؤشرات الحاضر السردي من مسار الأحداث والمواقف الشخوصية، اقترانا بما يضفيه دليل (السارد = الفاعل) من مؤثرات ذاكراتية تم تدوينها على صفحات من كراسات التركيز الموقعي للسارد وخيالاته الشخصانية المشاركة في مسار سرد الرواية . وتستوعب موضوعة الرواية للعديد من وحدات السرد المنقسمة ما بين (مرجعية واقعية ـ مرجعية مخيلة) امتدادا نحو إضفاء جملة علاقات جديدة ومكررة غالبا في تقانة التقديم والتأخير للمشاهد والأحداث والشخوص الزمنية والمكانية في الرواية . فهناك أحداث قد جرى طرحها وإعادة ذكرها في كل أماكن فصول الرواية، وهذا الأمر ما بات يشكل دليلا على تقانات زمنية خاصة في وحدات وعناصر موضوعة الرواية .

ـ موقعية الأنا الساردة ومحاور التمكين الشخوصية

نستطيع ونحن نقرأ دلالات فصل (حياة في المتاهة) الإلمام بالكثير من الدقة والعناية بين مستويين من التمثل الذهني وعملية تلاحق الصور والمواقف والمعاناة في حياة وموقع الشخصية المشاركة حياة البابلي، فيما تبقى شروط توحدها الكلي في ماهية المدينة وطرقها وتفاصيل ضياعها ونهبها من قبل اللصوص والجماعات المتوثبة في هستيريا إحراق كل شيء في هذه المدينة له كل الصلة بتأريخها وتراثها وصورة حاضرها . تخبرنا الساردة المشاركة في حدودها الذاتية البالغة في وظيفة الرواية، بأنها : (بعد تسعة عشر يوما من القصف أترك السرداب إلى الطرقات، أدع النساء الوحيدات يتدبرن أمر بيت النساء / أطير فوق بغداد كيمامة حزينة، أطوف حول المنائر وبرج بغداد وأعبر دجلة في قارب إلى جانب الرصافة / خلال مسيرة خبلي وسط الحرائق وأنا أتعثر بالجثث تهب في وجهي رياح محملة بالرماد .. بغداد تحتضر أمامي، أسمع أنينها الدهري يتصاعد من أعماق دجلة في تلك اللحظات المريعة تفجر في أحشائي ألم كثيف كالجنون، ما جت في رحمي أوجاع .. كظمت صراخي وتهاويت بين أعمدة شارع الرشيد المحترق . / ص98 ص99 الرواية) أن البعد النفسي يأخذ في وحدات السرد مكانة خاصة، ذلك بسبب صيغة التداعي التي تلعب دورا حلميا في اللاشعور لدى الشخصية، حيث أننا نجد أن جميع مشاهد احتراق أمكنة المدينة وتساقط الجثث على أرضها، جاء تأكيدا عن دور الشخصية وهي تجول في زمن انفعالاتها الحسية والعضوية، امتدادا إلى محورية زمن الحرب وما خلفته من آثار نفسية صادمة في مجرى حياة الأعضاء والحواس لدى الشخصية ذاتها . يتبين مع مسار الأحداث بأن الشخصية تراودها ظنون حملها اللاشعورية، من دون معرفتها المسبب والفاعل الاتصالي الخارجي بذلك : (أعود إلى سرداب السراب، وتغادرني النساء أحيانا إلى ليل بيوتهن أو يتوزعون بين غرف بيتي وأنول إلى السرداب وحدي، أنام على الأريكة وأتدثر بأغطية ثقيلة فلا تتوقف رجفة أوصالي ولا هلوسات عقلي .. منتصف الليل أو منتصف الكابوس أحس بشيء يتحرك ويسبح كسمكة في بطني، ما الذي يتمطى في أحشائي ؟؟ أتساءل في ارتياحي : ـ متى حملت ؟؟ من كان السبب ؟؟ ص99) ولعل هذه الحادثة الغريبة قد أحدثت تغيرا دراميا في منحى هواجس حياة البابلي وصراعاتها النفسية الحادة وتساؤلاتها النذيرة والفاجعة في حقيقة وقوع مثل هكذا أمر، ولكن تبقى دخيلة الصفاء أحيانا غربالا لمحو مثل هكذا شكوك، خصوصا وأن موجودات الملمات الشعورية اللاشعورية هي من يتكفل في تكوين (الرمز / المعادل النصي) فالزمن المتوحش الذي تحيا وسطه حياة البابلي، ذات مظاهر مجردة من المحسوسات اللامتعينة غالبا، فزمن ذلك الغول المتحرك في أحشاء الشخصية، يحملنا، نحو ذلك التقابل المعادل في مشاعر ورؤية الشخصية إلى حرائق وضياع مدينتها، وقد تم بالنتيجة أحتضان ذلك الحمل الهمومي القاهر داخل رحم الزمن المفترض بحمل الشخصية، فهو في الخلاصة يجسد بذاته مفهوما مترابطا، ومحملا فاجعيا لأحداث المدينة في روح الشخصية المستلبة قهرا : (أقترب مني شبح شفاف، كائن مجنح رقيق، رفرف حولي وهمس : ـ أنت أمها، أحمليها في أحشائك حتى أبد الوجود المدينة حلت في أحشائي، وتناهت ألي نبضات جنين غارق في مياهي وأنا أتلوى في ألمي . / ص100) .

ـ السرد بين وقائع التوثيق وخلفية الميثولوجيا الذاكراتية

يطول العنف في قلب المدينة حتى يكاد يطال إيقاع الزمن الميثولوجي من امتدادها العريق، وإذا ما ألفينا مؤطرات وتقاويم ودقائق ذلك الزمن السردي، لوجدناه حاضرا بامتداده المخيالي في سياق ذاكرة الشخصية الساردة، إذا الامتلاء بالحزن وفواجع الذات يولدان في مذكرات الذهن رائحة منظورية خاصة تتحسس صور الأشياء بمواقفها ودقائق شريط عرضها المسرود في الأثر المخزون من استدعاء أمكنة الذاكرة . تخبرنا الشخصية حياة البابلي عبر فصل (الست فريدة ومس بيل ـ في شارع الرشيد) حول جولتها في شارع الرشيد، ومرورها العابر من أمام :  (سينما مهجورة في شارع الرشيد كان يتخذها المثليون مأوى لهم / مسلحون بائسون حفاة بملابس عسكرية ممزقة / تتراءى لي مس غرترود بيل صانعة الملوك، تلك البريطانية التي حكمت الشرق من وراء غلالة الشغف والطموح ن وصنعت دولة حديثة في بغداد على أنقاض حكم بني عثمان .. أرى فرسها تسير خببا تحت فارستها النحيلة ونظرتها المتعجرفة . / ص102 ص103) يتم تركيب صيغة الموصوف السردي في أدق تفاصيل المنقول الميثولوجي، وتلخص لنا الساردة المشاركة أبرز علامات أفعال حكاية هذه الزعيمة الانكليزية عبر موجهات كمية ونوعية من وحدات الوصف السردي، وهو أكثر حكيا ومحاكاة عن حالة وسيطية تقع ما بين  الزمنين : (اليوم هو 12 نيسان 2003، هل كان يوم خميس؟ لست أكيدة فقد احترقت تقاويم الزمان، كان الجياع واللصوص المحترفون اللذين فتحت لهم القوات الأمريكية مصاريع أبواب القصور الرئاسية، قد دمروا كل شيء لم يتمكنوا من حمله . / ص103) أن حاجة الرواية هنا إلى الاستطراد لنقل معارف وحقائق المكان والظرف الزمني، جعل منها علاقة ممتدة ما بين ثلاثية (التصوير ـ الذاكرة ـ التخييل) وعند نقطة الاستعادة الذاكراتية، نلمح ذلك التعلق بمواصلة المسرود تعاقبا مع جملة علاقة عنصر الزمن المستعاد من نقطة وجهة  نظر الحاضر الروائي : (تراءت لي المس بيل وهي على فرسها في ساحة الميدان وساحة باب المعظم، ورأت رجالا يسكبون النفط في الطوابق العليا للمكتبة الوطنية ودار الوثائق ويحرقون وثائق الدولة العثمانية والوثائق البريطانية، لم تعرف المس بيل إن أحدا من اللصوص المحترفين كان يبحث عن رسائلها إلى الملك فيصل حول المعاهدة البريطانية وحدود مملكة العراق .. لم تعرف مس بيل إن رسائل والدها وأصدقاءها وجميع وثائق الانتداب البريطاني لقيت المصير ذاته في ليلة حرق التاريخ . / ص103 ص104) إن حجم ومفهوم الفضاء الاستعاري في محسوس ذاكرة التخييل لدى الكاتبة لطفية الدليمي، جعل من شواهد المرحلة التوثيقية للمصدر الميثولوجي، كمكمنة لمعاينة عين موضوعة الواقع التخريبي كإدانة موضوعية له، قياسا إلى عملية المزاوجة بين الرسم الفضائي للمعنى الروائي وحقيقة محاورة الخلفية التأريخية، كوثيقة وكإستجابة متلاحمتان في تأويل المعنى المراد سردا . وقد تظهر ظلية هذا المرجع الميثولوجي من ناحية استدعاءات المخيلة في إضفاء ذلك المدلول من الظل الخفي في واقعة وحقيقة حرائق تاريخ المدينة .تخبرنا الرواية عن حكاية عشق مس بيل إلى ذلك المقدم (دوتي) والذي كان متزوجا، حيث رفض فكرة الزواج منها، محتفظا باستقرار حياته العائلية، سوى أن يتخذها كعشيقة له في بعض الحالات ولكن عندما أجهز عليه قتيلا في الحرب، قررت المس بيل إنهاء حياتها بعد تعاطيها كمية من الاقراص المهدئة: (انتحرت المس بيل في وحشة القلب وملل الروح من مغامراتها السياسية ويأسها من صنع الملوك والدول بينما روحها تقرضها الوحدة وجسدها الناحل يذوب في مكابدة المرض وجدب الروح وخذلان العاشق .. فرسها الوحيدة تعدو مسرعة في بغداد غير آبه بالنار والرصاص متجه إلى مقبرة الانكليز في محلة الكرنتينة لتقف عند قبر الخاتون مس بيل وتذرف دموعا على الأشواك واللبلاب البري . / ص105) .

ـ مخطوطة بغداد وكتاب الشيخ قيدار

يمتاز الخطاب الروائي في رواية (سيدات زحل) بخصوصية العلاقة الكامنة بين معاينات المصدر الميثولوجي من مسار أحداث قد وقعت أو تم تدوينها في كتاب خطابات أو أنها  مجموعة مذكرات تحتل لذاتها موقعية المحاور الاسترجاعية ووظائفها من خلال مخطوطة الراوي المشارك في النص كما الحال في فصول كراسات : (بيت الموسيقى / مدينة الأجراس / بهيجة التميمي / مهند البابلي / هاني البابلي / غربال قابيل / طنجة، وكراسات حكائية أخرى هي بمثابة الوصلة المتصلة في نمو الحيز الروائي . كنا نود القول عن تجربة رواية (سيدات زحل) بأنها الخلاصة التدوينية الناتجة عن نص الراوي والمؤلف الضمني، حيث يمكننا ملاحظة ذلك انصياع الروائي في محورية مستوى حضور الواقع السردي، وضمن مؤشرات موقع الراوي المتمثل في شخصية حياة البابلي، ومرورا بكراسة (كتاب الشيخ قيدار) تتبين لنا علامات النمو الروائي على النحو المضموني الذي أخذ يجعلنا نتابع ذلك الزمن من السرد والمسرود من حكاية النص : (سيبدو لمن يراه كأنه على وشك المغادرة أو على أهبة الوصول بين ظهور واختفاء، حتى يحقق هوى الفؤاد الأخير كتابه الكبير عن بغداد ورواد عدلها وحراس سرها وسيلتحق بمن مهدوا له فكرة العمل على تدوين ذاكرة مدينة موشكة على التلاشي . / ص242) وعلى هذا الاعتبار من محكيات الرواية وملفاتها البؤروية، تتبين لنا علاقة النص الروائي إزاء ثيمات المحاور المرجعية من حكايا تاريخ العراق، اقترانا مع حدوثات الحاضر الزمني الذي غدت فيه مدينة بغداد إلى محرقة تاريخية وانسانية كبرى . ومن هذا المنطلق يصير بمقدورنا أن نرى ونجزم بأن الكاتبة لطفية الدليمي قد أرادت من وراء مدونة (سيدات زحل) عملية تدوين وتوظيف المتخيل السردي في روايتها داخل مواطن خاصة من الشواهد التاريخانية المستكملة في حدود اللعبة التخيلية بمادة الصورة الواقعية للحظة الزمنية الحاضرة . لذا نجد أغلب مواقف وحالات الشخوص في الرواية، كان أساسها هو ذلك التدوين والمدونة بالإضافة إلى إمكانية المخيلة الناسجة لأبها حكايا الميتارواية .

ـ تعليق القراءة:

وفي ختام مباحث الفصل الأول والثاني من دراسات كتابنا حول رواية (سيدات زحل) يمكننا القول بأننا لم نذكر بالشواهد الناصة كل تمفصلات أحداث ومواقف الرواية غالبا، ولكننا حاولنا جهدا جهيدا في مباحثنا دراسة وأهم وأبرز خصائص المنظور لمادة الرواية وأبعاد دلالاتها المتماثلة والتمثيلية لسمات المدون والتدوين الروائي، والذي كان مختصا في النص الروائي على تصوير أصعب مراحل الحياة العراقية ومنذ الحقب القديمة لهذه المدينة المهروسة في دوامة الحرب والحروب . أن الروائية كبيرة لطفية الدليمي في روايتها هذه أبرزت مجموعة محاور نسوية وسط أعاصير اضطرابات الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد، وكيفية مواجهة مصائرهن العاثرة في الاغتراب خارج الوطن، وفي حياة الوطن المظلم، فما زاد حظوظهن سوى إلتباسا مأزوميا في مصارعة رغبات الأنثى الجميلة وكبتها في ظروف الوطن العابس، وبين طوالع سوداوية زحل وهو يخيم على أبهى جماليات سيدات وحيدات في منزل النصيب والقدر والمصير .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم