صحيفة المثقف

المجمع الانتخابي وتماسك الفيدرالية الأمريكية من أسرار النجاح

بكر السباتينفي ولاياتٍ تستقلُّ في سياساتها الداخلية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي تشكل نصف القارة الأمريكية الشمالية، فإنه من الصعب توحيدها في إطار فيدرالي دون ابتكار نظام انتخابي ضابط يحقق العدالة الديمقراطية بين ولايات متباينة في الكثافة السكانية.. من هنا أستحدث الآباء المؤسسون الهيئة الانتخابية بما يعرف بنظام المجمع الانتخابي الذي يخضع اليوم لاختبار كبير بسبب الحجم الاستثنائي لعدد المشاركين في العملية الانتخابية برمتها؛ من أجل انتخاب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ضمن خياريْ: دوناند ترامب مرشح الحزب الجمهوري الذي يرمز له بالفيل الأحمر، وجو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي الذي يرمز له بالحمار الأزرق.

ولعل ما يميز هذه الانتخابات هو وجود صراع استثنائي يتعلق بالبرامج التي طرأت على المشهد السياسي الأمريكي مثل: انتشار جائحة كورونا التي أحرجت موقف الرئيس الحالي ترامب، بدعوى أنه فشل في التصدي لنتائج الوباء الوخيمة على البلاد؛، ما أدى -وفق حجة الديمقراطيين- إلى ضرب المنجزات الاقتصادية التي يراهن عليها ترامب، وتسبب باستفحال ظاهرة البطالة حيث دقت مؤشراتها البيانية ناقوس الخطر.. لتنحصر الصراعات الأخرى على الملفات الداخلية، حول المواضيع التقليدية، على نحو التباين في المواقف بين الحزبين فيما يتعلق بموقف الحزب الديمقراطي، ذي القاعدة الشعبية التي تضم اليسار وأيدلوجياته المختلفة، والأقليات العرقية، والسود الأمريكيين، والمكونات الدينية المتباينة من مسلمين ويهود وكاثوليك، هذا الحزب الذي يؤيد الإجهاض، وحقوق المثليين خلافاً للموقف الجمهوري الذي يجد التأييد الكاسح في ذلك من قاعدته المسيحية البروتستانية.. ثم تأتي البرامج والمعالجات التي تقترح حلولاً متباينة في قضايا البطالة، والتمييز العنصري، والهجرة غير الشرعية للمكسيكيين عبر ولاية أروزينا الجنوبية التي أمر ترامب بإقامة جدار عازل على طول الحدود مع المكسيك.. ثم بعد ذلك تأتي أهمية السياسة الخارجية بالدرجة الثانية رغم انعكاساتها المباشرة على الملفات الداخلية من الناحية الاقتصادية، مثل: التباين بين الحزبين فيما يتعلق بتقليص التواجد الأمريكي في مناطق الصراع في الشرق الأوسط كليبيا وسوريا، الذي يؤيده ترامب، والذي يتبنى أيضاً استراتيجية الحرب الاقتصادية مع الصين، والإمعان في محاصرة إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، واجتثاث الإرهاب الإسلامي في العالم، والانسحاب من منظمة الصحة العالمية، والاتفاقية البيئية الدولية بما في ذلك اتفاقية الاحتباس الحراري، وذلك خلافاً لسياسة الديمقراطيين، مع أن الحزبين يتفقان بشدة فيما يتعلق بدعم الاحتلال الإسرائيلي، مع تباين في المواقف فيما يتعلق بصفقة القرن وضم الضفة الغربية التي يخالفهما بايدون الذي ينادي بحل الدولتين تحت الرعاية الأمريكية.

وبالعودة إلى الشأن الأمريكي الداخلي وقدرة نظام المجمع الانتخابي على إشراك كل الولايات في رسم السياسات الأمريكية من خلال الاتفاق على الرئيس ونائبه، فإن هذا النظام يحقق العدالة لقدرته على منح حق الانتخاب لكل ولاية وفق كثافتها السكانية، لانتخاب الرئيس التنفيذي للولايات المتحدة الأمريكية و نائبه، وهي الدولة الوحيدة التي بها هذا النوع من الاقتراع غير المباشر وفق الدستور. فبدلاً من التصويت المباشر لصالح الرئيس من قِبل المنتخبين يتم التصويت لصالح ناخبي هذا المجمع، وهذا الأخير هو الذي يختار من سيحكم البلاد.. بمعنى أن الانتخابات الداخلية لكل ولاية تُعتبر شأناً داخلي، ومن تفرزهم الانتخابات كممثلين للناخبين في كل ولاية، مخولون بانتخاب رئيس الولايات المتحد الأمريكية عن المجاميع التي يمثلها.. لينتهي الصراع الحاسم وفق نتائج انتخابات أعضاء المجمع الانتخابي. ومن أجل تتبع مسيرة الانتخابات الأمريكية الجارية حتى الآن، لا بد من تسليط الضوء على كيفية عمل المجمع الانتخابي الذي أقر حسب الدستور الأمريكي منذ توحيد الولايات الأمريكية على يد الآباء المؤسسين، وقد أفلحوا في ضبط العملية الديمقراطية باقتدار وتفرد لا مثيل له. ويتألف هذا المجمع الانتخابي الذي يُقترن ذكره تباعاً بكل تفاصيل العملية الانتخابية الجارية، من ناخبين عن خمسين ولاية أمريكية، بالإضافة إلى المقاطعة الفيدرالية التي تقع فيها واشنطن العاصمة والمتمتعة باستقلالية خاصة، وصلاحيات قد تمنح حاكمها الإداري سلطة تخوله حتى بإخراج الرئيس الأمريكي دوناند ترامب نفسه من البيت الأبيض إذا ما رفض الخروج منه؛ تعبيراً عن رفضه المسبق لهزيمتة في الانتخابات التي حكم عليها بأنها مزورة في بداية الحملة، خلافاً لما صرح به، بعد إحرازه تقدم ملموس وفق نتائج الانتخابات الأولية في ساعاتها الأخيرة.. والعاصمة واشنطن هي غير الولاية الأمريكية التي تحمل ذات الاسم والواقعة في أقصى الشمال الغربي الأمريكي.

والجدير بالذكر، أنه منذ عام 1964 يتكون المجمع من 538 ممثلاً للشعب ممن يقومون رسمياً باختيار الرئيس ونائب الرئيس للولايات المتحدة الأمريكية. بحيث يتوزع على خمسين ولاية أمريكية.. وتجدر الإشارة إلى أن كل ولاية بها عدد من الناخبين يساوي عدد ممثليها في الكونغرس الأمريكي المكون من مجلسي الشيوخ و النواب الأمريكيين. أما مقاطعة كولومبيا الواقعة في الجنوب الأمريكي ( لا تُعتبَر ولاية) يوجد بها ثلاثة ناخبين فقط. وفي العموم، فإن لكل ناخب من المجمع الانتخابي أحقية صوت واحد يمنحه للرئيس وصوت آخر لنائب الرئيس.. ولا بد من حصول المرشح ليفوز بمقعد الرئيس على أغلبية 270 صوتاً وما فوق في المجمع الانتخابي.

وما يجعل "الانتخابات الجارية" تتراوح نتائجها المرتقبة ما بين الشك واليقين؛ هو انتشار جائحة كورونا التي دعت هيئة الانتخابات الفدرالية إلى استحداث طريقة الانتخابات بالبريد، وكان ترامب يقف ضد هذه الخطوة ويعتبرها مدخلاً للديمقراطيين كي يتلاعبوا بالنتائج، وكإجراء احترازي لم يوافق ترامب على إعادة حساب الأصوات التي رصدت ضمن النتائج المعلنة تباعاً وهو ما أثار حفيظة بايدن..وسنعيدكم الآن إلى سياق الانتخابات الجارية، فحتى الساعة الثامنة مساءً بتوقيت الأردن، كان حصاد النتائج يميل لصالح جو بايدن بفارق ضئيل، بواقع 238 صوت في المجمع الانتخابي إلى 213 لصالح ترامب، ويمكن احتساب ما يحتاجه كل مرشح من الأصوات لتحقيق شرط الفوز المتمثل ب 270 صوتاً وما فوق.

في عالم الانتخابات لا توجد ضمانات، لأنه قد يخرج ناخب في المجمع الانتخابي عن إرادة رئيس الناخبين لاحتيار مرشح أخر فيقلب الطاولة على الجميع! وفي أمريكا كل الاحتمالات ممكنة، إلا أن نظام المجمع الانتخابي يُعد أكبر صمام أمان لوحدة الولايات المتحدة وتماسكها. لكن العيب الذي يضرب النظام الديمقراطي في الصميم هو وجود حزبين أمريكيين لا ثالث لهما، يسيطران على مجلسي النواب والشيوخ، وويقفان حجر عثرة إزاء أي تغيير في الخريطة الحزبية الأمريكة.. وباتا أخيراً يتصرفان كمليشيات محلية بسبب تكاتف مؤيدي ترامب وراء تغريداته المحرضة على العنف إذا ما خسر الانتخابات، فنشطت حركة شراء الأسلحة إلى درجة لافتة، وكأنها تعبئة على المواجهة واستعراض القوة.

إنها ديمقراطية العم سام، وحصادها الذي يتراوح بين السلبي والإيجابي على المستويين الدولي والمحلي.. الديمقراطية التي لولا سيطرة المجمع الانتخابي على تفاصيل العملية الانتخابية لتفكك الاتحاد بمبادرة من الولايات القوية ديمغرافياً واقتصادياً.. والتي تشعر بالغبن كونها تهدر ميزانياتها على الولايات الضعيفة في معادلة غير منصفة..

 

بقلم بكر السباتين..

4 نوفمبر 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم