صحيفة المثقف

إنها لُعبتي!

منى زيتونمنذ حوالي عشرين عامًا، كنت في رحلة سياحية إلى مدينتي الأقصر وأسوان لمشاهدة معالمهما الأثرية، وتصادف أثناء تجوالي في أحد المعابد القديمة أن شاهدت مجموعة من السائحين الأجانب يبدو أنهم يتبعون فوجًا سياحيًا أجنبيًا واحدًا، وكان معهم طفلان صغيران دون سن المدرسة، وفي تقديري أن سنيهما كان ثلاث سنوات وخمس سنوات، وكان السبب الذي لفتني لهذه الجماعة تحديدًا أن أصغر الطفلين كان يتشبث بدُمية مع أخيه الأكبر ويحاول سحبها منه بالقوة ويصرخ فيه، وإذا بالأم تمنع الصغير من أخذها من الكبير، وتوضح له أنها دُمية أخيه وليس من حقه أن يأخذها منه، فأخذ الصغير يصرخ ويبكي، فما كان منها ومن باقي الفوج إلا أن تركوه يصرخ ويمرغ ملابسه في تراب المعبد كما يشاء، وتحركوا للأمام في بهو المعبد دون أن يلتفت منهم إليه أحد، فلما زاد ابتعادهم قام الصغير من الأرض جاريًا نحوهم لاحقًا بهم بعد أن تملكه الخوف أن يضيع!

لا زلت أذكر هذا الموقف جيدًا ويستوقفني للمقارنة بينه وبين أحوالنا في تربية أطفالنا، عندما أشاهد أمًا مصرية تظلم الطفل الأكبر وتأخذ ما يمتلكه إرضاءً لأخيه الصغير، لينشأ الكبير متقمصًا دور الضحية، ويصير الصغير مدللًا تافهًا لا يصبر على شيء، وربما تحول إلى إنسان فاسد عندما يكبر.

لكن، هذا المشهد الذي رأيته في المعبد منذ سنوات صار يعاودني كثيرًا في اليومين الأخيرين، تزامنًا مع إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020، والتي وفقًا للمثل المصري قد "قلّبت علي المواجع"؛ وكما كتبت في مقالي الأخير عنها –قبل أسبوع من إجرائها- أن ما جرى قبلها يكاد يكون تكرارًا لما سبق جولة انتخابات الإعادة في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012 بين الفريق دكتور أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي، بدءًا من رفض مرسي التام لتقبل أي احتمالية لخسارته الانتخابات رغم تقاربه مع شفيق في نتائج استطلاعات الرأي، ثم قيامه هو وجماعته بالترويج لفكرة أن خسارتهم تعني بلا شك حدوث تزوير لصالح شفيق.

ولأن أصوات من يحضرون شخصيًا إلى مراكز الاقتراع يتم فرزها وعدّها أولًا –وأغلبها يكون للجمهوريين- ثم يتم فرز وعدّ أصوات المصوتين غيابيًا –والشريحة الأعلى فيها للديمقراطيين-، فقد تنبأت في مقالي الأخير بأن ترامب سيفعل ما فعله مرسي 2012، وسيبادر إلى إعلان فوزه قبل اكتمال عملية فرز الأصوات، لأجل إحداث مزيد من البلبلة والضغط لوقف عملية عد الأصوات البريدية التي يعلم يقينًا أن أغلبها لصالح منافسه الديمقراطي جو بايدن.

والحقيقة أن ترامب لم يكذب حدسي، فحاول استكمال محاكاة المشهد المصري، فخرج علينا في وقت مبكر من صباح اليوم التالي للانتخابات، الأربعاء 4 نوفمبر، وأعلن فوزه في الانتخابات رغم أن ملايين الأصوات كانت لم تُفرز بعد! وأهم ما جاء في كلمته تلك: "فزنا بولايات لم تكن متوقعة- نستعد للفوز في الانتخابات، وبصراحة فزنا في هذه الانتخابات"! ثم لم يفته التلويح بأن أي تغيير في هذه النتيجة –التي هي لصالحه كما يُشيع- سيكون ابتعادًا عن النزاهة، مهددًا بأنه سيلجأ إلى المحكمة العليا، وأنه يريد للتصويت أن يتوقف! موحيًا لأنصاره أن الديمقراطيين يضيفون أصواتًا لا يحق لهم إضافتها لانتهاء موعد التصويت، متجاهلًا وصول البطاقات إلى مراكز الاقتراع قبل موعد الغلق! وختم ترامب كلمته بأنه لن يصمت أمام محاولة البعض اختطاف الانتخابات!

وحاول ترامب الترويج لأكذوبته من خلال فيديو بثه على مواقع التواصل الاجتماعي يتم فيه حرق أوراق قليلة شبيهة بأوراق التصويت البريدي موهمًا أتباعه أن الأوراق التي صوتت له يتم حرقها وعدم احتسابها في مراكز الاقتراع!

والحقيقة أن ترامب في خطابه ومنشوراته وتغريداته هو من كان يحاول اختطاف الانتخابات واختطاف الديمقراطية في أمريكا مثلما فعل مرسي وجماعته في مصر من ثماني سنوات، ووأد أولى تجاربنا الديمقراطية في العصر الحديث لأنه مجرد تافه لا يتحمل المنافسة بشرف وتقبل احتمالية الهزيمة. ولكنها أمريكا وليست مصر، وليس لشخص غير ناضج انفعاليًا أن يتشبث بكرسي الحكم –ولا حتى بما هو دونه- ويجد مختلًا كطنطاوي يطاوعه تخوفًا من أن يتمرغ في التراب كالأطفال! على أن يتم أخذ اللعبة منه عندما يهدأ منعًا لأي فوضى!

إن الدرس الأكبر من الانتخابات الأمريكية هو عدم المبالاة بمن يحاول فرض واقع مزور على الآخرين، ويهدد كالأطفال لحمل الناس على الاستجابة لرغباته. وكما كانت وقفة رجال السياسة ضد الرئيس ترامب قوية، فتواصل فرز وعدّ الأصوات وإعلان النتائج وفقًا لما يسفر عنه الفرز، غير عابئين بمطالباته المستمرة بوقف الفرز، ولا باتهاماته غير المبررة لهم بعدم النزاهة، فقد كانت وقفة الإعلاميين ضد همجيته تستحق الإشادة، فوجدنا موقع تويتر يضع تحذيرات على تغريداته الملئية بالاتهامات والتهديدات، ثم قطعت عدة شبكات تليفزيونية أمريكية -"أم أس أن بي أس" و "أن بي سي نيوز" و"إيه بي سي نيوز"- النقل المباشر لكلمته الثانية منذ الانتخابات التي بثها مساء الخميس الخامس من نوفمبر من البيت الأبيض للترويج لأكذوبة عدم نزاهة الانتخابات وسرقة الديمقراطيين الانتخابات منه! بينما استكملت شبكة "سي أن أن" نقل كلمة ترامب، وعلقت عليها بأنها "حفلة أكاذيب".

إن تحول نتيجة الانتخابات من مراكز فرز الأصوات إلى المحاكم بات في حكم المؤكد، وكان متكهنًا به من قبل أن تبدأ، ولكن نظرًا لعدم وجود أدلة حقيقية في يد ترامب، فلا نعرف إن كانت المحاكم ستقبل النظر في دعاواه أم لا، ثم هل يوجد ما يمكن أن يتم الاستناد إليه لتغيير النتيجة التي تبدو حتى اللحظة تميل إلى جانب بايدن؟

والسؤال الأهم: كيف سيتم إخراج هذا الطفل الكبير بسلام من البيت الأبيض؟ وهل يمكن أن يتسبب في تناحر وانقسام بين الأمريكيين مثلما يفعل كل من لهم تركيبة شخصيته فيهدمون المعبد على رءوس الجميع؟

 

د/ منى زيتون

الجمعة 6 نوفمبر 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم