صحيفة المثقف

ملاذات الشيطان عند المجتمعات الفاشلة او الحضارات المتراجعة

مهدي الصافيالاسطورة - الدين – التراث-الحضارة العلمانية الحديثة

لن يبتعد الانسان على الارض عن هذه المحددات الاربع، سيبقى يدور في فلك الماورائيات الغيبية او المصطنعة في التاريخ القديم، او يأخذ به العلم الى المستويات الفكرية العظمى، ثم يعود به الامر الى الواقع، لتبدأ رحلة الاندماج والتأثير والتأثر او التفاعل المتبادل مع الاخرين او المحيط والمجتمع...

الشيطان او قائد محور الشر ليس بالضرورة ان يكون شيئا ملموسا، او كائن مخفي، انما كل فعل او عمل لا اخلاقي او غير منطقي، ولاعقلي او علمي، يصبح بعدها ملاذ للانحرافات البشرية، التي اعتادت عليه منذ بدء الخليقة، ومن ثم يمكن ان تكون اسس وقواعد مهمة وعامة في بعض الحضارات (او الملاذات الاربع)، يطلق عليها الحقوق الانسانية الاجتماعية او الطبيعية، مع انها ليست كذلك لانها تخالف الطبيعة التكوينية للحياة او البشر (قضية زواج المثليين، التفوق العرقي او العنصري، الارهاب، الاجهاض، الاستنساخ البشري، الخ)...

مثلما هناك ملاذات الشيطان تخترق المجتمعات الانسانية، توجد في المقابل ملاذات الرحمن او الخير وهي شاملة لكل الحضارات الانسانية التي ساهمت بالتطور البشري، واحدثت نقلة نوعية او ثورية في مجال الحقوق والعلوم والتنكولوجيا وقوانين الحماية والعدالة الانسانية والبيئية...

الخوض في هذه المجالات الفكرية او الظواهر الانسانية ليست ترف ثقافي، او محاولات مثالية لاعادة المجتمع الى المستويات العقلية المتزنة في الايمان والاعتقاد، انما هي بحث فلسفي عميق مختصر، يقدم الرؤيا المعرفية الشخصية والعامة، ويشير الى الزوايا المظلمة في التاريخ العربي، الذي اصبح فوضويا وعبئا ثقيلا على المجتمعات المسلمة والعالم، التي بدأت تدرس وتبحث وتقلب وترد على اشكالات الحضارة الغربية او على دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون حول"ان الاسلام يعيش ازمة حقيقية"، (التي لم يمر عليها سوى ايام قليلة حتى جاءت جريمة ذبح المعلم الفرنسي)

ولكن هل علينا ان نفهم ان مجتمعاتنا تعيش في ازمة الملاذات المقدسة او نحو ذلك،

منها بالطبع مايقدم للعامة من بسطاء المسلمين على سبيل المثال مايقال عنه انها توفر حالة الاستقرار النفسي او الروحي (التخدير الخاطئ او التنويم الممغنط للعقل والمنطق)، الناس تذهب الى دور العبادة لانها تؤمن لهم كل مقومات الملاذ الروحي الارضي المطلوب للمريدين(كما تحصل في الحركات والفعاليات والطرق الصوفية، اي العبادة الجماعية)،

في حين ان الحضارة العلمانية الحديثة تؤكد على ان هذه الاماكن كانت ولاتزال هي مصدر الازمات والقلق والتناحر الاجتماعي على مر العصور والازمنة الحديثة، ولم يتمكن العقل البشري من الانتاج والابداع العلمي التكنولوجي، الا بعد ان خرج من هذه الملاذات المغلقة او المظلمة، وابقتها مجرد هياكل تأريخية بعيدة عن السياسة والقيم الاجتماعية المتحررة للدولة،

بينما لازالت الشعوب المتخلفة اسيرة تلك المعوقات والمحرمات او الممنوعات الاسطورية او الدينية والتراثية (العادات والتقاليد والاعتبارات الاجتماعية المتوارثة)......

ام ان التأخر الحضاري ايضا يسير وفق حركة الكون الطبيعية المتغيرة ...

 تتعثر وتتأخر الامم عن الركب الحضاري بسبب الظروف والعوامل الموضوعية او الواقعية القاهرة (الاستعمار، وانظمة الحكم الشمولي، والفقر والجفاف، طبيعة التركيبة الاجتماعية، الخ.)....

البيئة مصنع اخلاق وانسانية المجتمعات، وكذلك مصدر توحشها وانهيارها او تشرذمها، تتحكم بها الظروف كما ذكرنا، وعوامل كثيرة تؤثر في تزايد النقاء والصفاء والاستقرار النفسي والاخلاقي الاجتماعي الطويل الامد وبالعكس، (الموروث والعادات والتقاليد، الدين والطوائف والفرق والاشخاص المتحكمين بها، طبيعة النظام السياسي والنخب الحاكمة والمثقفة، الازمات الاجتماعية والاقتصادية، والكوارث والنزاعات والحروب، اللغة والمفردات الخشنة او الحكم والامثال وثقافة المجتمع المستندة الى التراث، الخ.)..

لا يخفى على احد ان اول المؤسسات في التاريخ حللت الفساد، ونظمت سرقة الشعوب هي المؤسسات الدينية، مع ان اغلب الاديان السماوية تجرم هذا الفعل، وتنفذ بحق المذنبين اقسى العقوبات الجسدية، وقد كانت في الاعم الاغلب سلطة الظل المساندة لاستبداد الحاكم، تدرجت بعدها تلك السلطات بمواقعها وقوة هيمنتها في الدولة، حتى صارت شريك فاعل في السلطة...

- تحولت المجتمعات البشرية المنتظمة فيما يسمى بالامبراطوريات القديمة في المدن الى نموذج الانظمة الحديثة المتمثلة بشكل وطبيعة الدولة الحالية، الا ان العالم صار مقسم الى عالم علماني متحضر، واخر ايديولوجي متأخر نسبيا، ومتفاوت من حيث الثروات والثقافة والتراث والمعتقد والموروثات او المشتركات التاريخية والتداخلات الجغرافية،

- لعبت الاساطير دورا كبيرا في صناعة الاديان الشعبية والتراث المحلي، واصبحت جزء لايتجزأ من التراث الانساني العالمي، بل ان البعض يقول انها اي الاساطير وهي اساس الاديان (كما يعتقد الكثيرون من الباحثين في مجال علم الاساطير والاديان، علم الميثولوجيا-الاركيولوجيا-الانثربولوجيا-تاريخ الاديان، الخ.)، فهي بالطبع لها وقع غيبي وروحي على كل الشعوب المؤمنة بالماورائيات والغيبيات السحرية المقدسة، ترجع اليها بقوة اثناء الانتكاسات والانهيارات الاخلاقية والاقتصادية الكبيرة، بينما لاتوجد في المعرفة العلمية قواعد ايديولوجية ثابتة او مقدسة، لايمكن اخضاعها للعقل والعلم والمنطق المعرفي الحديث، والا اصبحت حياة البشر حياة بهيمية غير منتجة، ولهذا تفوقت الامم المؤمنة بالعلم على الشعوب الملتزمة بالدين ولو ظاهريا، لانه تحول اي الدين او رجاله الى مؤسسة السلطة السماوية العليا بيدها مفتاح شرعية السلطة الحاكمة الارضية، وكذلك شرعية الحياة الاجتماعية المقيدة بالحدود الدينية الاصيلة او المختلقة....

الملاذات الاربع وتفرعاتها المتعددة ليست كيان ميت، او محدد برقعة جغرافية معينة او متعلق بأمة او حضارة او عالم دون اخر، هي الطوق الكوني الشامل لمختلف نواحي الحياة، تخفت او تنام وتغيب كليا او جزئيا عن المشهد الاجتماعي العام،

الا ان الازمات والاضطرابات والظلم والمعاناة هي من تبعث الروح فيها، وتعيد بناء وصياغة هيئتها واهدافها ووسيلة اندفاعها بين الناس، كما تعتقد الجماعات الارهابية الشيطانية بأن الفوضى وسيلة للسيطرة وفرض حكم الشريعة على الضحايا، كذلك تغذيها تصاعد حدة الصدام او الصراع الرأسمالي الامبريالي بين القوى العظمى، للهيمنة وبسط النفوذ العابر للحدود الوطنية للدول الاخرى، تعد هي الاداة المحركة لها، وان اختلفت الشعارات او الاساليب والطرق المطروحة امام الرأي العام العالمي...

الدول الديمقراطية المتقدمة بعيدة عن الحضارة الانسانية الواقعية، فالصراع الطبقي وقوة رأس المال وتأثيره في الحياة السياسية في بلادهم لازال عند مستوياته العالية، بل بدأت تزحف هذه الدول على مصادر الطاقة والثروات بطريقة استعمارية جديدة، تنظر فيها الى قارة اسيا وافريقا على سبيل المثال على انها قواعد استراتيجية لها، لابد ان تبتعد عن الطموحات الاستعمارية الصينية او الروسية الخ.

صعود اليمين المتطرف في اوربا وامريكا ايضا يعطي انطباع واضح عن التراجع الحضاري، الذي اصاب مجتمعات تلك الدول، وشل حركة وتأثير النخب المفكرة والطبقة المثقفة في المجتمع او في القرار الرسمي (مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والمنظمات الدولية المستقلة الخ.)، ولعل اسلوب الرئيس الامريكي ترامب المتبع مع الصحافة والاعلام المحلي، اثبت ان مايحصل اصبح ظاهرة عامة، انتقلت الى بقية دول العالم، حيث لعبت جائحة كورونا الدور الكبير في اعادة اساليب القمع وتقييد الحريات وحركة الافراد ومراقبة الناس، وقد شاهد العالم انفعالات واعتداءات رجال الشرطة العنيفة على المدنيين بحجة عدم ارتداء الكمامة او التجمعات غير القانونية، وفرضت غرامات كبيرة حتى على من لايترك فاصلة بينه وبين الاخرين، من جهة اخرى ترى انهم ينهون حالة الاغلاق من اجل اعادة الحياة والحركة الاقتصادية، بينما كارثة الموجة الثالثة للجائحة سجلت ارقام قياسية في امريكا واوربا، وهناك كما يقال موجات رابعة وخامسة قادمة اي الجائحة باقية حتى العام القادم، مع وجود اشارات طبية علمية واعدة تؤكد على الاقتراب كثيرا من انتاج اللقاح الفعال للقضاء عليه .

استحضار الملاذات الثلاث في الحضارة العلمانية الحديثة (الملاذ الرابع) جاء بعد احداث 11 سبتمبر2001 (هجمات على برجي مركز التجارة العالمي من قبل جماعة القاعدة الارهابية)، وعلى خلفية شيوع ظاهرة زواج المثليين، وانتشار ظاهرة الارهاب في العالم، اي عاد الدين الى الواجهة السياسية والاجتماعية، واصبح رؤساء الولايات المتحدة الامريكية يرفعون الكتب المقدسة (الاناجيل)، ويحضرون في احتفالات الكنائس، ويرددون العديد من عبارات ومباركات ومعجزات الرب (اي السيد المسيح ع كما يعتقدون)،

من جهة اخرى زادت شعبية الاحزاب اليمينية المتطرفة في اوربا، ردا على مايسمى بالاسلام المتشدد (ظاهرة الاسلاموفوبيا) والهجرة غير الشرعية (اللاجئين)، الغريب في الامر كل هذه الامور والقضايا قفزت الى الساحة الدولية بعد 2003 او مايسمى بالربيع العربي او مشروع الشرق الاوسط الجديد، ومع تنامي قوة وقدرات الصين وروسيا العسكرية والاقتصادية، وانتشارهم في المحيط الدائر حول مصادر الثروات الطبيعية القريبة منهما...

هذه الظواهر الاجتماعية السلبية (ظواهر التقوقع والانكماش او الاحتماء والاختباء تحت عباءة الملاذات) لاتنتج استقرار دائم، انما حالة من الدوران الزمني البطيء كفصول السنة الاربع، تتحكم به ادوات المعرفة والاكتشافات العلمية الحديثة، كما تتحكم به ايضا نسبة العلاقة التراتبية او المترابطة مع الدين والتراث او مايسمى في الحضارة الغربية القيم الاجتماعية، اذ لايمكن فصل الاخلاق عن الاديان او منظومة القيم الاجتماعية المتوارثة، ولكن يبقى النقاش مفتوحا حول ماهي المعايير الاخلاقية التي يمكن اعتمادها لغرض رفض او قبول المستجدات الاجتماعية او المتغيرات في العلاقات الاسرية او القيمية او حدود الحريات الشخصية (الاستنساخ الجيني، ثقافة الكراهية، الرسوم المسيئة للاديان والمعتقدات والانبياء والرسل، منع الحجاب، قوانين الموت الرحيم للمرضى، العنصرية والتطرف، الخ.)، كما نعتقد ان هناك عوامل مؤثرة كثيرة تلعب دورا محوريا في بناء المجتمعات الهادئة، البعيدة عن العنف والتوحش، بينما تغرق المجتمعات المتخلفة في دوامة الموت المتوارث، حتى تصل الى مستويات خطيرة، يصبح الانسان فيها بلا قيمة، يقتل لاتفه الاسباب، لهذا يمكن تلخيص تلك العوامل بما يلي:

اولا: فساد وظلم الانظمة السياسية الحاكمة

ثانيا: الفقر والحروب والازمات الاقتصادية

ثالثا: طبيعة وجغرافية الارض وقساوتها (الصحراء القاحلة، الجبلية الباردة، الخ.)، وتركيبة المجتمعات الاثنية والقبلية او العشائرية او البدوية

رابعا: الاديان والطوائف:لكل دين او طائفة الطقوس والشعائر المؤذية، وقائمة من المحرمات والتكفيريات والحدود والقرابين او الممارسات البشرية المتوحشة احيانا، ومفاتيح الجنة والنار اي الدعشنة الشاملة للمجتمع

خامسا: انهيار منظومة الاخلاق، وتشويه الفطرية الانسانية السليمة بالتثقيف على اعتبار ان المنطق الخاطئ هو جزء من الحريات الشخصية الفطرية...

هناك ايضا سحابات نفسية سوداء تحكم قبضتها على غالبية عقول المسلمين، بعيدا عن قضايا القضاء والقدر والروايات التبشيرية بيوم القيامة او مايحصل من احداث بمايسمى علامات الساعة، هي تعدد الالهة داخل عقلية المسلمين لا اراديا، او خارج اطار الشعور العقلي اليومي، لانها متوارثة وكامنة وملقنة منذ الصغر، حتى اصبحت اقرب الى الاسطورة، او هي جزأ لايتجزأ منها"تعدد الالهة"، حيث يمكن تمييزها على النحو الاتي:

اولا: تقديس الصحابة والائمة ورجال الدين او المراجع والشعائر والطقوس

ثانيا: المال والسلطة

ثالثا: عبادة الحاكم او النظام الظالم او الاستسلام والخضوع للخوف والماورائيات والغيبيات

بالطبع الاصنام وفكرة تعدد الالهة التي كانت موجودة في الاساطير القديمة تغلغلت وتسربت الى المجتمعات المسلمة او المؤمنة بأحد الاديان السماوية الثلاث (اليهودية المسيحية والاسلام)، بما تحمله من ثقل تراثي كبير في مستوى العبادة المطلقة للاشياء او للكون والطبيعة، ولها مساحة كبيرة في مجال الغيبيات او ماوراء الطبيعة، اي الغوص الروحي الكامل في المجهول (الهة الخوف من عظمة الكون والموت)، هذه الظواهر الاجتماعية هي ايضا ملاذات شيطانية تستحوذ على العقل الجمعي للعامة كما هو واضح من خلال النتائج...

الحلول ليست بحاجة الى معجزة او مفكرين من كوكب اخر او انبياء ورسل جدد، وان كانت في المجتمعات المتخلفة الغارقة بالجهل، والمستسلمة لفكرة تعدد الملاذات والالهة تحتاج الى هكذا معاجز، الا ان التاريخ والامم المتقدمة والحضارات سلكت في نهاية المطاف ولو نسبيا سبيل الثالوث الارضي غير المقدس"العقل-المنطق والاخلاق-العلم"، بهذه المنظومة الانسانية العصرية يمكن ان يتحرر الانسان من تلك القيود الثقيلة القاسية والمدمرة احيانا، وينعتق من سلسلة الملاذات الاربع لينطلق بعدها الى فضاء الفطرة الطبيعية السليمة، فيكون هو اساس البناء الحضاري السليم او الهدم بنية الاصلاح، تتنافس عنده الخيارات داخل دائرة العقل ومعايير العلم والمعرفة الحديثة المتطورة، اذ ان الحكمة الخالدة في هذه الحياة هو العقل والعلم وكل مايأتي بعدها هو تحصيل حاصل ملاكات المعرفة (حركة الكواكب والنجوم، الشمس والقمر والليل والنهار حركة عقلية علمية خالدة).....

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم