صحيفة المثقف

حرية الرأي والفوضى العلمية

يسري عبد الغنيإن حرية الرأي لا تعني تجاوز الحدود وخوض الإنسان فيما لا يحسنه ولا يحق له الكلام فيه لعدم إلمامه بالقدر الواجب معرفته للحديث في علم أو فن له أصوله وقواعده ، ومن ذلك الإفتاء فهو علم جليل القدر، واسع المدى، لا يستطيع الإنسان أن يكون من أهله إلا بعد دراسات مطولة وإعداد علمي خاص.

وقد ابتلينا في هذه الأيام بأناس ذوي معرفة سطحية بأمور الشريعة يدعون الثقافة والفكر ويزعمون أن الفتوى ليست حكرا على فئة معينة، بل من حق كل إنسان أن يتكلم ويبدي رأيه في أمور الدين من غير حجر، وغفل هؤلاء عن أن الفتوى علم كسائر العلوم التي يحجر الكلام فيها على غير المتخصص الذي رخصت له الجماعة العلمية بإبداء الرأي بعد تأكدهم من تحصيله للدراسات المؤهلة.

إذن فالتعبير عن الرأي فيما يتعلق بأمور الدين له ضوابط لا بد من تحققها للفرق بين التعبير عن الرأي وبين الفوضى العلمية التي تفسد على العباد دينهم ودنياهم، ومن هذه الضوابط:

- أن يكون صاحب الرأي أهلا للكلام في الدين بناء على ما حصله من المعرفة الشرعية بالطريق العلمي الصحيح، ولهذا قرر العلماء حق الإمام في الحجر على المفتي الجاهل وتوقيع العقوبة عليه إن عاد إلى الفتوى؛ لأنه يضر بالأديان كما أن الطبيب الجاهل يضر بالأبدان.

- أن يكون صاحب الرأي معظما لمقام التبليغ عن الله تعالى، مدركا لجسامة الكلام في الدين، عارفا بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، ولهذا كان أئمة السلف يعظمون مقام الفتيا وينكفون عنها ما وجدوا من يكفيهم مؤونتها، ويحذرون من الجرأة عليها، ويعدون ذلك علامة على قلة العلم، قال سحنون بن سعيد: (أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه) ، وعن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدا، أو أحمق متكلف"، قال: فربما قال ابن سيرين: "فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث" .

- أن يكون الرأي صحيحا لا يخالف حكما قطعيًا، وإلا كان رأيا باطلا لا يلتفت إليه، وينكر على قائله؛ زجرا للجاهلين عن الخوض في أمور الدين.

- ألا يكون الرأي مبنيا على الخرص والتخمين من غير علم ودراسة، ولهذا كره العلماء التسرع في الفتوى وذموا فاعله.

- أن يقصد صاحب الرأي بكلامه تحقيق مصلحة الفرد والجماعة، فحرية الرأي لا تعني فتح المجال لمثيري الفتن كي يبذروا بذور الفرقة والشقاق في المجتمع الإسلامي تحت ستار الحقوق والحريات، وما من دولة من دول العالم المعاصر إلا وتضع التشريعات التي تكفل حماية المجتمع من آراء من تعتبرهم من المغرضين الساعين في شق الصفوف، والنيل من هوية الجماعة، فالولايات المتحدة الأمريكية تحظر قيام حزب شيوعي، وبريطانيا تحظر الدعوة إلى إلغاء الملكية، والدستور الدنماركي ينص على أمور لا يجوز تناولها باسم حرية الرأي، وعد منها: الهولوكوست اليهودي، والدستور الدنماركي، والعلم الدنماركي،، وفرنسا تحظر الآراء التي تعد -من وجهة نظر المشرع الفرنسي- معادية للسامية، فلا يكون الإسلام بدعا من الأنظمة حين يفرض قيودا تحمي الدين والمجتمع من الآراء الهدامة الساعية في زعزعة الثوابت، وتشكيك الجمهور المسلم في عقيدته وشريعته.

- أن يكون صاحب الرأي مدركا للعاقبة التي يؤول إليها رأيه من مصلحة أو مفسدة، فهذا ضابط لا بد منه؛ حتى لا تكون حرية الرأي سببا للفساد، وقد نهى القرآن عن سب آلهة المشركين؛ لعدم استفزازهم بما يدفعهم إلى سب مقدسات المسلمين، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام 108]. قال ابن كثير: "يقول الله تَعَالَى نَاهِيًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهِيَ مُقَابَلَةُ الْمُشْرِكِينَ بِسَبِّ إِلَهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكَ آلِهَتَنَا، أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ".

- الامتناع عن الإيذاء والتجريح، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 23].

- الصدق في تبليغ الرأي ونقله، والحسنى في الإقناع به، وإلا انقلبت كذبا وغشا وتجريحا ولجاجة، فتخرج إذن عن الدائرة التي رسمت لها في الاستعمال الشائع.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم