صحيفة المثقف

مكابدات السيّد بنفسج (مقامة)

امين صباح كبةكان الموت يملأ الطرقات، والليل أبكم، والنور يحتدّ،وكان ضياء السراج يغمر السماء ببطئ، ويغطي النجوم المتدلية كعنقود من العنب، وكانت الحشرات تغني، والعصافير تحوم،وكان لؤلؤ الندى الأبيض يغمر النوافذ وأوراق الأشجار، و هبّ نسيم شباط متموجًا وحائمًا فلفح الوجوه الخارجة من النعاس بعد تثاؤب طويل، ولّى وجهه شطر السماء، وكانت بنفسجية ملبّدة، فأغلق على قلبه، وظل مسكونًا بماضيه وسجينًا لوساوسه وأوهامه، لا شيئ يخصه إلا سلام القلب ونداوة الهواء، لم يجد بغداد التي يعرفها، الفتيات اللواتي تلصص عليهن، الألحان التي ظلت عالقة في رأسه، (كأجمةّ نادرة تورقُ أسراره

ينصت وحيدًا

إلى أغنية الوجود

يسجّل ما يتلاشى

ويحتمي بعزلته).

ثمة أشباحٌ ترافقه منذ أن صنع قوقعة أبعدته عن الجحيم والنعيم، وغاص في عزلته وهو يردد الدعوات ،وينتظر الأشارات مرددا: (مللت هذه الشطآن، ومن عليها،ليتني أصير غيمة،لأهاجر إلى أرض جديدة).

أعياه عدم إقبال الناس عليه،وتوجههم بالذم إليه،وشعوره بالاستثقال عليهم،  ولمّا كان (العطاء من الخلق حرمان،والمنع من الله إحسان)، فقد ابتعد عنهم و شغل نفسه  بالفن فكان يرى أن الحاجة للتعبير عنه في دافع الانسان العقلي لاستخراج العالم الداخلي والخارجي في وعي روحي لنفسه، وكان يرى أن الإنسان سجين في  الواقع العام والزمانية الدنيوية، مقهورًا بالحاجة والعوز، ومساقًا بالطبيعةوسجينًا في المعاناة والمتع الحسية.وكان يرى أن الفن هو المثقف الأول للشعوب*.لذا فقد انهمك في الموسيقى والرسم والكتابة ،ولوحات فان كوخ ورسائله، وأغاني ليونارد كوهين وأشعاره، وبسيد مكاوي وألحانه، وبمصادره الطبية،وكان يهمهم تاركًا لوحاته غير المكتملة والكمان الذي حاول أن يتعلمه:

(أهذا هو إذًا

مسكني طيلة الحياة؟

خمس أقدام من الثلج).

كانت الشوارع توغل في الحزن،وتهرم بلا مارّة وهو عاجز كمطر يحاول أن يغسل غبارها،وكان يتجاهل انبهاره العفوي بكل شيئ،وأمله بوجود شخص يفي بوعوده،وانتظاره للحب الكامل ،ويتذكر وهو يمشي علاقاته العاطفية الفاشلة وصوت حبيبته السابقة وهو يحوم في رأسه:ما أطيق صوتك ولا نظراتك،وأرجع لعالمك.

عندها رفض الوقت أن يكون منقذه ليخلّصه  من دوامات أوهامه ،وعلى طول  جدار النور حيث يتربّص به خطرٌ داهم،أو أشارات فنّد أصلها من تلقّاها، وأثبت بطلانها من أعمت أنظارهم بسحرها. كانت الأشجار مغطاة بالثلج والقطط تتعارك وتموء،وكان يشمُّ في كلام الناس رائحة مؤامرات وضحايا،( أي الدروب ستسلك؟

الجمرات خبت

والضفاف بعيدة!).

الريح تقلّب  أوراق الأشجار وتمزّق منها ما تشاء، الأبواب تصطفق، والفراشات تدور، ويعلو صوت سيد مكاوي:

(والليل بلقاك أفراح وأمان

حتى ولو كان من غير قمره .

وأنا بيك على طول دايماً مشغول .

بحلم وبقول وبغني و أقول

أوقاتي بتحلو . بتحلو معاك

وحياتي . تكمل برضاك)

ثم يتجسّد أمامه ،فيعود معه إلى مسجدي أبوطبل والحنفي ،وتتمايل ألحان الأناشيد والترتيل في أذنه .

ويصغي لهتافات سكان عالمه وهم يرددون:

يا بنفسج ،(إذا كان فمك يعرف كلمة الطاعة، فخيرٌ له أن يبقى مغلقًا كالقبر).

ويسمع فان يردد وهو يرسم أحذيته بحرارة وانفعال:(أنا أضع قلبي وروحي في عملي هذا،وربما سأفقد عقلي بسبب ذلك)

ويعود مع فان ومحاولاته العاطفية الفاشلة من أورسولا لوير إلى كاي وراشيل وترنّ رسالته إلى ثيو :ينبغي أن أعثر على امرأة تحبني أو سأتجمد وأتحول إلى حجر.

وينغمس في عوالم فان وخيالاته حتى يلمح شحمة أذنه المثلومة والرصاصة التي حاول الانتحار بها.

ويشاهد ليونارد وهو يركض،وعندما يتبعه يجيب:أنا أركض متأخرًا لقد أغلقوا البار.

فيستذكر ما قالته حبيبته عندما رفضته:هواي تأخرت.فيردد ساخرًا الكلب كلب وإن طوّقته ذهبًا.

ثم يلمح الندب على جسد ليونارد ويرى قلبه وقد انتزع،ويتقافز مع ماريان ليختتما رقصتهما الأخيرة معًا ثم يحدجه مرددًا:

(أراها هناك عندما لم يكن هناك محيطات

لجامعي القمامة أمثالي

لقد صعدت إلى السفينة

وباركت بقايا أسطولنا

وبعدها وافقت أن تكون عرضة للتحطيم).

ثم تتسلل إلى أنفه روائح الجثث التي تملأ الطريق،ويرى غربانًا تنعق، ثم تسقط مذبوحة ومنتوفة الريش،وترعد السماء بلونها البنفسجي الداكن،وتختلط روائح الدم والمطر والبارود والقنابل الدخانية،ثم يسقط متجمدًا وقد تحول إلى حجر.

خاتمة

كان ذلك في الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء  اليوم الحادي عشرة من شهر شباط لعام ٢٠٢٠ميلادية حيث عثر على المدعو بنفسج مطعونًا بالسكاكين في ساحة الخلاني وسط أكوام القمامة وندف الثلج التي غطّت بغداد،ويذكر أن المدعو كان من مرضى مستشفى أبن رشد التدريبي للطب النفسي وقد تم تشخصيه مسبقًا باضطراب ثنائي القطب وظهرت عليه في الأيام الأخيرة أعراض الذهان،

وقد تكررت محاولات هربه بعد أن أقنع أحد أطباء المستشفى ورشاه ، وجاءت وفاته مطعونًا بسكاكين المندسين الذين حاولوا أرضاخ المتظاهرين لمرشحهم م.ت.ع .

الدكتور م س

مستشفى أبن رشد التدريبي/بغداد

* دراسات في علم الجمال مجاهد عبد المنعم مجاهد

***

أمين صباح كُبّة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم