صحيفة المثقف

سلطة الفصاحة والنحو (1)

عبد الجبار الرفاعي

اللغةُ كائنٌ تنطبق عليه القوانينُ التي يخضع لها كلُّ كائن حي،كلُّ كائن حي لا ينمو ويتطور يتحجر ويموت. اللغةُ كائنٌ اجتماعي حقيقتُه التغيّر والتحوّل. اللغةُ الحيّة ذاتُ ديناميكية داخلية، تولد فيها كلماتٌ جديدة وتندثر أخرى، تبعًا لديناميكية التطور الحضاري للمجتمع الناطق بها، لذلك تواصل كلماتُها باستمرار الولادةَ والنموَّ والشيخوخةَ والمرضَ والموت، وتبعًا لذلك تتجدّد أساليبُها البيانية، وطرائقُ التحدث بها.

كلُّ لغة تُنطق وتُكتب بقواعد، لا يمكن إهمالُ تلك القواعد كليا في التحدث والكتابة، قواعدُ النطق في اللغات الحية سهلةُ التلقي منذ الطفولة من البيئة اللغوية، وسهلةُ التعلم والإتقان. قواعدُ اللغة العربية كثيرةٌ دقيقة تفصيلية متشعّبة، تتنوّع فيها اجتهاداتُ البصريين والكوفيين الأوائل ومن تأخر عنهم. قواعدُها صعبةُ الإتقان للمتخصّص، إذ يلبث التلميذُ سنواتٍ عديدة في دراستها ثم تدريسها ولا يتقنها أحيانًا، فكيف بغير المتخصّص الذي لا يخصّص سنواتٍ لتعلّمها، وهم أكثرُ الناطقين بها من أبنائها. هذه مشكلةٌ مزمنة يعيشها الناطقون بالعربية، تدعونا لتيسير قواعد النطق بهذه اللغة.

استبدّت مقولةُ "الفصاحة" و"الإعراب" بالعربية، وتحولت "الفصاحةُ" و"الإعراب" بمرور الزمن إلى سلطةٍ صارمة، أعاقت الديناميكيةَ الذاتية لتحديث اللغة لنفسها، ومنعت اللغويين من تيسير قواعد النطق بها، بالشكل الذي يتمكن معه المتحدّث بها من مراعاتها بسهولة، ويتبادر إليه إعرابُها بعفوية يرثها من بيئته اللغوية، بلا تَعَلَّم وإتْقَان وتخصّص.

‏ مشكلةُ العربية تشبّعها بهالة المقدّس، بوصفها لغةَ القرآن الكريم والنصوص والتراث الديني، واستحواذ المدارسُ الدينية على تعليمها بالتدريج، وأفضى ذلك إلى أن يتولى حمايتَها رجالُ الدين ففرضوا سلطتَهم وسطوتَهم، إلى درجة صارت أيّةُ دعوة لإعادة النظر في قواعدها وأساليبها وتحديثها كأنها عدوانٌ على مقدّس.

يقول علي الطنطاوى: "أصبح النحو علمًا عقيمًا، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ، قرؤوا النحو بضعة عشر عامًا، ووقفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كلّ مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول"[1].

حضرتُ مناقشةَ دكتوراه قبل عشر سنوات في تخصّص اللغة العربية، كان المناقشون خمسةَ أساتذة يحملون لقبَ أستاذ دكتور باللغة العربية، جلستُ نصفَ ساعة فخرجتُ لكثرة الأخطاء النحوية في نطق بعضهم. عندما خرجتُ رأيتُ أحدَ المؤلفين المحقّقين المعروفين غادر القاعةَ قبلي، كان متذمرًا جدًا لفرط انزعاجه من أحد المناقشين الذي ماتت حروفُ الجرّ في حديثه وتعطلت وظيفتُها على لسانه.

لا يعود ذلك فقط إلى: تقصيرِ المعلمين في تعليمِ اللغة ونحوها، أو إهمالِ وعدمِ جدّية المتعلمين، أو ضعفِ وإخفاقِ المقرّرات الدراسية، بل يعود أيضًا إلى مشاكل بنيوية عميقة في تكوين وتدوين النحو، ومعاجم اللغة، وتسلّطِ الفصحى والنحو، وشحّةِ المراجعات النقدية للتراث المعجمي والنحوي للعربية، وعدمِ الانفتاح على المكاسب العلمية الحديثة في اللغة، ورؤية الآفاق المضيئة للألسنيات ومناهجها وأدواتها ومعطياتها الفائقة الأهمية، المتفاعلة بعمق مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع اليوم.

اعترف بعجزي عن إتقان النحو، ‏مع أني درسته عدةَ سنوات، فمضافًا إلى دراستي للنحو في مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، درّستُ في الحوزة هذه الكتب: قطر الندى وبلّ الصدى، وشرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، وشيئًا من شرح ابن الناظم لألفية ابن مالك، الذي تتلمذتُ فيه على يد العلامة اللغوي المرحوم رؤوف جمال الدين في الحوزة. سرق من عمري تَعَلّمُ الصرف والنحو والإعراب والبلاغة عدة سنوات، تَعَلَّمته على يد شيوخ متمرّسين في تدريسه، ثم دَرَّستُه لمجموعة من التلامذة في مرحلة مبكرة من حياتي، لكني أخفقتُ في إتْقَانِه بدقة، والتخلصِ نهائيًا من أية أخطاء نحوية في الحديث والكتابة، ومازلت حتى اليوم أعود لمحرّر ٍكي يدقّقَ ما لا أتنبه إليه من أخطاء. وطالما تورطتُ في جدال، غالبًا ما يكون عقيمًا، لأن مَنْ يحرّر نصوصي يرفضُ بشدة استعمالي الجديد للكلمات، الذي لم يتداوله البدوي قبلَ تدوين المعاجم، وكأن اللغةَ وُلدت على لسان العربي الأول مكتملةً مقفلةً، أو مصابةً بعقم أبدي، وكأن توليدَ الاستعمال الجديد للكلمة خطيئة.

‏   كَبَّلت الفصاحةُ والإعرابُ العربيةَ وعطّلتها عن تجديد أساليبها البيانية قرونًا طويلة، إلى أن فرضَ العصرُ الحديث على المتحدّثين والكتّاب التناغمَ مع إيقاعِ التطور الحضاري، والانفتاحَ على التراكمِ المعرفي الواسع في مختلف العلوم البشرية، والإفادةَ من المكاسبِ المهمة في علوم اللغة واللسانيات، وما تتطلبه كلُّ لغةٍ تريد لنفسها مواكبةَ الحياة، وتلبيةَ احتياجات الناطق بها للحضورِ في زمانه وعصره، من الاغتناءِ بنتائج هذه العلوم ومكاسبها وأدواتها ومناهجها.

تمرّدت اللهجاتُ العربية على "الفصاحة" و"الإعراب"، وابتعدت بالتدريج عن العربية الفصيحة، ولم تأسرها قواعدُ النحو، بعد أن اتخذت لنفسِها مساراتٍ تستجيب لاختلاف المجتمعات، وتنوّعِ ثقافاتها، وظروفِ معاشها المتعدّدة، فصار كلُّ بلدٍ يتحدّث لهجَته الخاصة، وما فرضته متطلباتُ التواصل داخل عالَمه الخاص والعالَم من حوله.

اللهجةُ احتلت موقعَ اللغة الأم، قواعدُ اللهجة وأساليبُها البيانية ونظامُها التركيبي والصرفي والصوتي والدلالي لا تتطابق كليًا وأنظمة العربية الفصحى. وتيرةُ تطور اللهجة متسارعةٌ، حتى أن مدينةً مثل بغداد تتبدّل لهجتُها في قرن واحد بشكل كبير، لهجتُها في النصف الأول من القرن العشرين تختلفُ عن لهجتها في نهاية نصفه الثاني. اللهجةُ محكومةٌ بتحولات الأجيال، والتغيير الاجتماعي، ومختلف الأحوال السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية.كأن اللهجةَ تولدُ بولادة كل جيل ولادةً جديدة. إلا أن العربية الفصحى تظلُّ هي القاسم الحضاري المشترَك الذي يجب أن يحميه كلُّ الناطقين بهذه اللغة. ممانعة حرس الفصحى ورفضهم لتحديثها تفقدها وظيفتَها الحضارية العظمي بالتدريج.كلما أمتد الزمنُ بها ولبثت عصيةً على أية محاولة لتيسير نحوها وأساليب التحدث بها وكتابتها، يبتعدُ أكثرُ الناطقين بالعربية منها ويشتد عجزهم عن التحدث والكتابة بها.

يقول توشيهيكو إيزوتسو: "كلُّ واحدة من كلماتنا تمثّل منظورًا خاصًا نرى فيه العالَم. وما يسمّى مفهومًا ليس سوى بلورة لمثل هذا المنظور الذّاتي". وخصّص محمد عابد الجابري الفصلَ الرابع من كتابه "تكوين العقل العربي" لدراسة رؤية الأعرابي للعالَم، وكيف كان: "الأعرابي صانع العالم العربي"، يقول الجابري: "لقد جمعت اللغة العربية من البدو العرب الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدًا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانًا بل فضاءً فارغًا هادئًا، كل شيء فيه صورة حسية، بصرية أو سمعية. هذا العالَم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو مادامت اللغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين... أن يظل الذهن العربي مشدودًا، إلى اليوم، إلى ذلك العالم الحسي اللاتاريخي الذي شيده عصر التدوين، اعتمادًا على أدنى درجات الحضارة التاريخية عبر التاريخ، حضارة البدو الرحل التي اتخذت كأصل ففرضت على العقل العربي طريقة معينة في الحكم على الأشياء، قوامها: الحكم على الجديد بما يراه القديم"[2].

لبثت مجامعُ اللغة العربية تضيّعُ جهودَها في محاولاتٍ عقيمة، عندما انشغلت عشرات السنين بالعملِ على بعث ألفاظ متخشّبة مندثرة، بذريعة فصاحتها باستعمال البدوي لها قبل عصرِ التدوين، على الرغم من أن تلك الألفاظَ "الفصيحة" عكست رؤيةَ البدوي الضيقةَ للعالَم، وكانت مرآةً لمفاهيمه المحدودة، وأمّيته الثقافية، وأن العملَ على إحيائها وتوظيفها مجدّدًا كان مصيرُه الفشل، لأنه ينتهي إلى إرغامِ تفكير الناطق بالعربية على الارتهان لرؤية البدوي للعالَم، وتبنّي قيمه، والاحتفاءِ بمفاهيمه المحنّطة، وهي رؤيةٌ وقيم ومفاهيم يراد لها أن تأسرَ مصيرَ العربي اليوم، وتتنكّر لها اللهجاتُ العربيةُ المتداوَلة في الحياة اليومية على تعدّدها وتباعدها المتواصل بين مشرق الناطقين بها ومغربهم.كأن مجامعَ اللغة العربية تريد أن تشطب على كلِّ التطور الحضاري ومكاسبِ العصور الحديثة بالارتهانِ لرؤية العالَم القديم والانخراِط في مشاغله.

في مرحلةٍ لاحقة من نشأة النحو تشكلت قواعدُ اللغة العربية في ضوء قوالب المنطق الأرسطي، مثلما وقع غيرُها من علوم اللغة في هذه القوالب، وتحوّل هذا المنطقُ إلى بنيةٍ للتفكير في علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، وغيرها من علوم الدين.كلُّ هذه العلوم أضحت يتحكّم بها المنطقُ الأرسطي، تفكّر في إطار قواعده، وتستدلّ بأساليب محاججاته، وتبرهن بطرائق استدلاله، وتتحدّث في سياق معجمه ومصطلحاته. انتهت علومُ الدين واللغة إلى أن تقع في مدارات مسدودة يبدأ التفكيرُ فيها من حيث انتهى وينتهي من حيث بدأ، وباتت مكبّلةً تعجز عن الإفلاتِ من هذه الحدود الصارمة، والبحثِ عن أفق بديل لمنطق التفكير وآفاقه. رسّخ هذا المنطقُ بنيةً للتفكير متجذّرةً يصعب جدًا التحّررُ منها، وكأننا نرى طفلًا ظلّ يتغذّى بالغذاء نفسِه الذي تلقاه في مرحلة الرضاعة، لم يغادره في فتوته ومراهقته وشبابه حتى شيخوخته، على الرغم من أن متطلباتِ الغذاء لكلِّ مرحلة من العمر تحتاج إلى عناصر أساسية لبناء الجسد ونموّه وتطوره.

أدعو لتيسير قواعد العربية وليس للاستغناء عنها، تيسيرها بالشكل الذي يجعل تلقي أبناء اللغة لها من أمهاتهم وآبائهم وعوائلهم وبيئاتهم عفويًا تلقائيًا،كما يتلقون كلمات ومعجم النطق بها. وأدعو لتحديث معجمها ليتسع لاستيعاب ما يستجدّ من مصطلحات وتسميات مكاسب العلوم والمعارف والتكنولوجيا.

هذا ليس رأيي فقط،كي يقال إنه نشاز، هذا رأيٌ اشتهر عن جماعة من علماء اللغة والنحو المعاصرين، ممن كانوا يفكرون بذلك، وكتبوا فيه. هناك مجموعةُ علماء عملوا على تيسير النطق بالعربية غير أن دعوتَهم أُجهضت مبكرًا، لسطوة الفصاحة والنحو وتسلّطهما الشديد، مثلما أُجهضت كلُّ دعوات الإصلاح في بلادنا. أصحابُ هذا الموقف هم جماعةُ الميسرين الذين دعوا لتيسير النطق باللغة وقواعدها من أبرز علماء اللغة والنحو، فمثلًا خصّص عضوُ مجمع اللغة العربية ابراهيم أنيس فصلًا بعنوان: "قصة الإعراب" في كتابه: "من أسرار اللغة"، كشف فيه كيفيةِ نشأة الإعراب، وكيف صار نظامًا صارمًا للسان العربي، واتخذ قيمةً عليا استأثر بها النحاةُ فصنعت لهم مكانةً استثنائة، ترسّخت من خلالها سلطتُهم المعرفية على العربية. يروي أنيس هذه القصةَ بقوله: "ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزيرة العربية، ثم حيكت. تم نسجها حياكة محكمة في أواخر القرن الأول الهجري، أو أوائل الثاني على يد قوم من صنّاع الكلام، نشأوا وعاشوا معظم حياتهم في البيئة العراقية. ثم لم يكد ينتهي القرن الثاني الهجري حتى أصبح الإعرابُ حصنًا منيعًا، امتنع حتى على الكتّاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشق اقتحامه إلا على قوم سُمُّوا فيما بعد بالنحاة... ومع أن الإعراب ليس في حقيقته إلا ناحية متواضعة من نواحي اللغة، فقد ملك على الناس شعورهم، وعدوه مظهر ثقافتهم ومهارتهم الكلامية، يتنافسون في إتْقَانه، ويخضعون أقوال الأدباء لميزانه، فليس الفصيح في نظرهم إلا من راعى قواعده، وأخذ نفسه باتباع أصوله ونظامه... وصارت قواعده في آخر الأمر معقدة شديدة التعقيد، وقد تفنى الأعمار دون الإحاطة بها، أو السيطرة عليها سيطرة تامة. وصرنا الآن ننفر منها لما اشتملت عليه من تعسف وتكلف، بغّضَ إلى الكثيرين دراسة اللغة العربية في العصر الحديث"[3].

البعضُ يعتاش على سلطة الفصاحة والنحو، والدعوةُ للتجديد تناهضها دائمًا شبكاتُ مصالح متجذّرة متشعّبة معقّدة، وطالما خرجت من فضاءِ النقاش العلمي إلى ضجيجِ الجدل البزنطي.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

..................

[1] الطنطاوى، علي، فكر ومباحث، ص 13، 1988، مكتبة المنارة، مكة المكرمة.

[2] الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، ص 78، ط13، 2017، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

[3] أنيس، ابراهيم، من أسرار العربية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 4، 1972، ص 198 – 199.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم