صحيفة المثقف

رجل لايعرف الحب!

يسري عبد الغنيكما يستدلون على حب المتنبي لخولة شقيقة سيف الدولة الحمداني بمحاولة اغتيال المتنبي الفاشلة في حلب، قبل هروبه إلى مصر أيام الدولة الإخشيدية، على أيام كافور الإخشيدي، الذي خاف من أبي الطيب، ولم يحقق له طموحاته، حيث أنه كان قد وعده بإمارة مقاطعة الفيوم المصرية، حيث قال له من حوله: لو فعلت ذلك لأخذ المتنبي حكم مصر منك !! .

لقد قصد المتنبي مصر تلبية لدعوة تلقاها من كافور الإخشيدي، هذا الجندى الذي توفى سيده محمد بن طغج صاحب مصر، وخلف ولدًا صغيرًا فانفرد كافور بخدمته، ثم استبد بالأمور، وكان ذا دهاء ومكر .

وعد كافور المتنبي المواعيد الخلابة وماطل وأطال المماطلة، فشعر أبو الطيب بخداعه فعزم على الفرار، ولكن كافورًا كان قد ضيق عليه الخناق، أي حدد إقامته، خوفًا من لسانه، فهرب في عام 305 هـ، وقد هجاه هجاءً مرًا صب فيه كل حقده، وقصد بعدئذ العراق ثم أرجان حيث كان ابن العميد الوزير الأديب المثقف وزعيم مدرسة الكتابة البديعية، كان ابن العميد وزيرًا لركن الدولة البويهي، ثم قصد شيراز ليمدح عضد الدولة السلطان البويهي، ثم غادره عائدًا لبلاده .

وفي الطريق مر بأرجان، ثم حل في واسط، وهم أن يبارحها إلى بغداد، ولكن أصدقاءه حذروه من مخاطر الطريق، ولكن كبرياءه أبت عليه أن يهتم لذلك، فشد الرحال مع ابنه وخدمه، وفي الطريق خرج له فاتك الأسدي وكان المتنبي قد هجا أخته، فدارت بينهما معركة انتهت بمقتل الشاعر الطموح المتنبي عام 354 هـ، بعد حياة صاخبة حافلة بالتطلع والخيبة المرة الخاسرة، إلا أن حسه العروبي وتقديسه للشجاعة والبطولة، قيم تستحق أن نقف عليها .

أعود فأقول لك: لقد ماتت (خولة) بعد رحلة المتنبي الفاشلة إلى مصر، وعودته إلى العراق وانقطاع أسبابه مع سيف الدولة الحمداني، عندما نفس عليه مكانته منافسوه من الشعراء والأدباء، وكان منهم النحوي الشهير / ابن خالويه، بالإضافة إلى بعض حاشية سيف الدولة، فدسوا له عنده، حتى أسخطوه عليه .

والحق يقال: إن المتنبي أحب سيف الدولة حبًا شديدًا، وكان معجبًا به إعجابًا لا حدود له، ونظر إليه نظرة المخلص، نظرة القادر على توحيد العرب من المشرق إلى المغرب، وكان هذا هو حلم المتنبي الذي ما بعده حلم، فالوحدة العربية عنده تعني مواجهة أعداء الأمة حيث أن الفتى العربي أصبح يعيش بين الأجانب غريب الوجه واليد واللسان، أحب فيه الشجاعة والبطولة، والبطولة أحبها المتنبي وعشقها، فهي مفتاح شخصيته إن صح ذلك .

إن الدارس لشعر المتنبي من أجل أن يحاول معرفة أخلاقياته، أو معرفة رأي المتنبي في المرأة والحب، واللذة الحسية، سوف يطرح على نفسه سؤالين مهمين:

ـ هل كان المتنبي يحب امرأة معينة ؟ .

ـ وهل كان غزله تجربة إنسانية صادقة ؟ .

يجيب على ذلك أستاذنا المرحوم / عبد الحكيم بلبع، في مجموعة محاضراته القيمة عن (تاريخ الأدب العباسي)، والتي ألقاها على طلبة كلية دار العلوم / جامعة القاهرة، في العام الجامعي: 1973 ـ 1974، حيث يقول: ولقد يتغزل المتنبي أحيانًا، ولكن غزله لا يعدو أن يكون أبياتًا يصدر بها قصائده، جريًا على التقليد الذي جرى عليه الشعراء من ابتداء قصائدهم بالغزل، أما حياة المتنبي نفسه، وتاريخه الشعري، فلم يقدم لنا سندًا كبيرًا على تعلقه بامرأة معينة .

ولئن كان بعض البحاثة قد حاول أن يثبت علاقة عاطفية بين المتنبي وخولة شقيقة سيف الدولة الحمداني، ويفسر بهذه العلاقة فرط المودة، والحب بين المتنبي، وسيف الدولة، فإن هذه المحاولة لم ترتق إلى درجة اليقين العلمي الذي يجعلنا نعد شعر الغزل عند المتنبي شعرًا يرتكن على تجربة حب حقيقية .

على كل حال فإن هذا الجهد الذى بذل للبحث عن غرام المتنبي يدلنا على أنه كان شاعرًا بلا عشق .. !!

ويدلنا كذلك على أن أشعاره الغزلية كانت أشعارًا تقليدية، أو وصفًا لبعض لحظات الهوى الطارئة في تجارب، عابرة، خاطفة، لم تدخل قلب الشاعر .

وذلك مثل قوله:

وكان أطيب من سيفي مضاجعة

أشباه رونقة الغيد الأماليد

وشعر الغزل عند أبي الطيب قليل، لا تحس فيه دلالات حقيقية صادقة عن العشق الحار، أو الهوى الجارف .

وقد أحس عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين بهذه الحقيقة، وهو أستاذ وناقد وأديب، يدرك جيدًا أحاسيس الشعراء، ويدخل في عواطفهم، ويحلل مشاعرهم .

كانت أذنه مثل (الجهاز الإلكتروني) الذي يلتقط، ويحلل، ويدقق، ويمحص، وهو إحدى عجائب الزمان الذي قليلاً ما يجود بها الزمان .

والدكتور / طه حسين لم يكن ناقدًا مدرسيًا، أو بنياويًا، أو تفكيكيًا أو شكلانيًا أو حداثيًا، يبحث داخل الألفاظ والمعاني، ويحصي الكلمات و الأفعال ولا مانع من حروف الجر أيضًا، ولكنه كان فنانًا رائعًا بمعنى الكلمة، يتسلل داخل عواطف الشعراء، وأحاسيسهم، وفي نفس الوقت كان يملك كل أدوات الناقد الحقيقي من المعرفة والثقافة والعلم، أضف إلى ذلك الدراية الواعية بالتاريخ، واللغة، والأدب، والعلوم الإنسانية، والفنون الجميلة .

أقول لكم: طه حسين وجيله كان آخر من قيل فيهم: أنه يلم من كل علم بطرف، وهذا هو تعريف الأديب المبدع البارع عند القدماء، والمثقف المتمكن عند المحدثين وليس أتباع الحداثة .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم