صحيفة المثقف

سمو واستقامة

يسري عبد الغنيكانت حياة رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) نموذجاً فذاً في التاريخ الإنساني، لم تعرف الدنيا ـ وبشهادة الأعداء قبل الأصدقاء ـ مثلاً فريداً في سمو الخلق، واستقامة السلوك، واستواء الطبيعة، وحسن المعاملة كما عرفت من سيرة نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، تلك السيرة التي فاضت بالأخبار الكثيرة، ورواها من خالطه وتعامل معه، وسجلتها بوضوح وأمانة كتب السير على ألسنتهم إعجاباً بما رأوا، وما لمسوه جلياً من نبل الأخلاق، وطيب المعشر، وكرم المعاملة، ولا غرو في ذلك، فالله سبحانه قد أثنى عليه في القرآن الكريم بقوله : {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم : 4] .

كما وصفه بالرحمة ولين الجانب والتواضع، والبعد عن الجفوة والغلظة والخشونة، يقول تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} [آل عمران : 159] .

الطهر والنقاء:

إن القارئ الدارس، والباحث المتفحص لحياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما يجد ملامح هذه العظمة التي لم تعرف البشرية لها مثيلاً، والتي كانت سمة واضحة تبدو ظاهرة في كل تصرفاته وأقواله وأفعاله، حينما نرى ذلك نتساءل : من أين اكتسب (صلوات الله وسلامه عليه) هذه الشمائل المضيئة؟، هل جاءته من البيئة المحيطة به؟، أم جاءته من المجتمع الذي نشأ فيه وترعرع؟، وهل ورثها وتلقاها من والديه ومن أهله وذويه؟ .

حينما يحاول المرء أن يجد جواباً شافياً عن هذه التساؤلات يجد أن الجو العام الذي نشأ وشب فيهه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يمثل مجتمعاً أو محيطاً بعيداً كل البعد عما اتصف به الرسول الكريم من مثل وأخلاق والتزام، ولنقرأ معاً ما تناقلته كتب السيرة النبوية وقاله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه (ابن عم محمد ) للنجاشي ملك الحبشة يصف ماكان عليه المجتمع في بلاد العرب قبل دعوته (صلى الله عليه وسلم) من ظلم وضياع للحقوق، وفساد للأخلاق، وانعدام للقيم والمثل، واستغلال من القوي للضعيف، وما جاء به نبي الرحمة (صلوات الله وسلامه عليه) من احترام للإنسان، واحترام للأخر، ورد لكرامة البشر الضائعة، وحماية الضعفاء من عسف الأقوياء، ودعوى للحب والسلام والطهر والعفاف والنقاء والتسامح، وإصلاح للعقائد، واحترام لعقل الإنسان .

يقول جعفر بن أبي طالب للنجاشي : "أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى إله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء المانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ... "

ويواصل جعفر كلامه، فيقول عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) : " ... وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاءه من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك (الحبشة وهي بلاد مسيحية)، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك " .

وبالطبع فقد رحب النجاشي بالمسلمين المهاجرين من مكة إلى الحبشة، وأحسن إليهم، كما أنه رفض أن يسلمهم لوفد قريش الذي جاء يطلبهم باعتبارهم خارجين على قانون العرب الوثني في تلك الآونة، ونحب أن نشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اختار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين الأوائل لمعرفته أن النجاشي مؤمن بدين سماوي وهو المسيحية السمحاء، والمسلم لا يكون مسلماً حقاً إلا عندما يؤمن بجميع الرسالات السماوية وبجميع أنبياء الله ورسله، وبأن جميع الأديان من رحم واحد، كما كان الرسول محمد (صلوات الله وسلامه عليه) يعرف أن النجاشي كمسيحي رجل صالح لا يظلم عنده أحد .

الرحمة المهداة:

نعود لنقول : لقد صور جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) في كلامه للنجاشي حال المجتمع العربي قبل دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الإسلام، ووضع في مقابل ذلك ما جاء به الرسول (عليه الصلاة والسلام) من إصلاح للعقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملات، وبخاصة حماية الضعفاء من ظلم الأقوياء المتجبرين .

فهل يعتقد أحد أن بيئة كهذه، أو محيط اجتماعي سماته هذه يكون له تأثير إيجابي في حياة رسول الله محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام)؟، إذن فليس للبيئة أو المحيط أثر يذكر في هذا السمو النبيل في الأخلاق التي تحلى بها .

وإذا عرفنا أن أباه مات وهو جنين في بطن أمه، وأن أمه ماتت وهو في سن السادسة، أدركنا أن ليس لهما أدنى توجيه في حياته، وعليه يعود السؤال مرة أخرى: من أين جاء ذلك لنبي الرحمة والهدى؟ .

الإجابة ببساطة شديدة تأتي في آية من القرآن الكريم، جامعة لكل معاني الرحمة لبني البشر أجمعين، هي قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء : 107] .

إذن فهي رسالته (صلى الله عليه وسلم)، وعليه تكون تلك هي الإجابة .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم