صحيفة المثقف

أبناءُ البغايا الطيبون

انمار رحمة اللهذات مرة بعثتني أمي حين كنت صبياً، لجلب بعض الأمور من صاحب البقالة على بعد شارعين من منزلنا. تلك اللحظة حين خرجت من باب منزلنا إلى الشارع، كانت هي المرة الأولى التي أرى فيها (حياة) وزوجها. ورجلاً آخر معهما أراه يتردد على الحي بين الحين والحين، جاء بهما إلى منزل جيراننا الذين احترقوا بداخله قبل مدة. مازلت أذكر مشهد احتراقه في ذلك الصباح، حين كانت أمي تجهز فطوري  قبل ذهابي إلى المدرسة. أذكر أصواتهم وصراخهم وهم محبوسون في داخل المنزل بعد أن حاصرتهم النيران ولم يفلحوا بالنجاة.. بعد حادثة الاحتراق أُقفل المنزل مدة، ثم جاء الرجل ذاته الذي أحضر حياة وزوجها. فأعاد ترميمه وصبغه، وصار يجيء بين مدة ومدة مع أشخاص يدخلون إلى المنزل يلقون نظرة ثم يغادرون. عرفت من أمي لاحقاً أنهم زبائن غرباء. لكن الزوار الجدد لم يغادروا بالطبع، فقد عادوا للمنزل ومعهم سيارة تحمل الأثاث والأغراض وكما بدا أنهم سيسكنون فيه أخيراً. حين عدت حاملاً الأغراض التي أوصتني بها أمي، أخبرتها أن الرجل الذي يجيء للمنزل برفقة أشخاص كل مرة قد حضر اليوم برفقة امرأة ورجل غريبين فردت عليّ:

- صاحب المنزل.. أخبرناه أننا لا طاقة لنا على جار جديد قد يكون سيئاً، لكنه سيتجاهل كلام أهل الحي بلا شك.

- ألم تكن العائلة التي احترقت هي صاحبة المنزل؟!

- لا.. كانوا مستأجرين

- هل كانوا سيئين؟ لم أر منهم سوءا؟

- كيف ترى وهم ينامون النهار ويعملون في الليل؟!

- ماذا يعملون؟!

لكزتني أمي وأمرتني بإنهاء بعض الأمور، لكن جملتها حلقت ثم حطت في رأسي كطائر عنيد. ثم بعد سنوات حين تقدم بي العمر عرفت من خلال أحاديث الناس عن الماضي، أن احتراق منزل جيراننا المريبين كان بسبب عركة، تطورت حتى اشعل أحدهم زجاجات خمر. وقد كانت الجلسة التي تقيمها العائلة واحدة من جلساتها الحمراء التي ينتهي وقتها عند الصباح. إذن لم يكن هذا المنزل إلا ماخوراً ليلياً يرتاده زبائن مختلفون غرباء، ولم يستطع أحد التعرض لهم من أهل الحي، بسبب هيمنتهم وعلاقاتهم الوطيدة مع مرتادي ماخورهم. كل هذه الأمور لم أميزها في صباي بالطبع وفهمتها لاحقاً، لكنني ميزت بشكل لا أنكره أبنهم الصبي بعمري. كان صديقي وكان طيباً. مازلت أذكر شكله على الرغم من قصر العلاقة بيني وبينه. افتقدته كثيراً وتألمت بسبب وفاته التي حدثت قبل احتراق المنزل بوقت قصير. حين سقط من أعلى شرفة في منزلهم على رأسه ومات صريعاً بعد نزيف في المخ. ولم يغضبني سوى تصرف عائلته التي لم تكترث لأمره كثيراً، حيث تركوه في ثلاجة الموتى ولم يستلموه، حتى دُفن في مقبرة المدينة التي تشرف عليها الدولة، والتي عادة ما يُدفن فيها الموتى الذين لا يتكفلون أهاليهم بأعباء دفنهم، أو مجهولو الهوية من الأطفال الذين يتم رميهم في الشوارع، فيتم العثور عليهم وقد نهشت أعضاءهم الحيوانات تارة، أو فتك بهم البرد والجوع.. على أية حال.. بعد إلحاح كبير على أبي أخذني ذات يوم للمقبرة وزرت قبر صديقي. كان يوماً حزيناً وأنا أرى ما تبقى منه، لم يكن سوى لوحة مكتوباً عليها اسمه، ومساحة من الأرض مرصوفة بالحجر.. ثم مرت الأيام ولم يقبل شخص أن يسكن في المنزل لسببين بقيا حتى هذه اللحظة. فكما بدا المنزل وكأنه ملعون نتيجة الحوادث التي فتكت بساكنيه، وهذا الشيء قذف الريبة والخوف في أن يسكن فيه أحدٌ خشية أن تصيبه لعنة مشابهة، أو تظهر له أشباح الموتى ضحايا تلك الحوادث الغريبة. آخر من سكن في المنزل هي (حياة) وزوجها وأبناؤها. خصوصاً بعد عروض الإيجار ذات الأسعار الرخيصة التي طرحها المالك ذو القميص الأبيض، وربطة العنق السوداء التي لا تفارقه. بعد انتقال حياة التي كانت معروفة في الحي بصوتها العالي، وصلافتها في التعامل مع الجيران، حتى خشي الجميع التعامل معها، والحديث والتواصل بل حتى النظر في عينيها. ولم ينته الأمر عند هذا فقد بدأت تفرّخ حياة الأبناء الواحد تلو الآخر. لا تصبر سنة حتى تلد لنا صبياً أو بنتاً، إضافة إلى دزينة من الأبناء والبنات الذين جاءوا معها قبل أن يحلوا في الحي. العجيب أن أبناء حياة يكبرون بسرعة غريبة، على الرغم من سوء التغذية والرعاية. والأمر الأعجب من هذا الشائعات التي انتشرت في الحي، والتي تقول أن زوجها كان ومازال عقيماً!!. وأن هؤلاء أبناء غير شرعيين كوّمتهم الأم بطناً وراء بطن. أبناء لا يشبه بعضهم بعضاً. ويحمل كل واحد منهم من العبث والوقاحة ما يعجز اللسان عن وصفه، ولم يسلم منهم أحد من الجيران. كانوا يثلمون أرصفة الشارع للحصول على أحجار كافية لطقس عراكهم اليومي. وبسبب هذا كم من مصباح في أعمدة الشارع قد كُسر، وكم من نافذة منزل تهشمت بسبب حجر ألقاه طفل منهم. إضافة إلى تلك العادة التي أغضبت الجيران، حين يتبارى الإخوة في أيهم أسرع بالخربشة على جدران وأبواب المنازل، تاركين آثار خطوط مدورة ومتعرجة وحلزونية. وحين ينتبه أصحاب الدور إلى أصوات عراكهم وخربشاتهم، يخرجون لهم ليفروا هاربين، ولا يسمعون عند هروبهم سوى لعنات أصحاب المنازل، فيضحكون وقد أطلقوا لسيقانهم العنان في الهرولة، صوب أمهم التي لا يجرؤ أحد على الشكوى أمامها من أفعال أبنائها المشاكسين. زحفت أفعى الريبة نحو الحي والتفت على أهله. فمازلت أذكر الحديث الذي جرى بين أمي وأبي ليلتها، حين كنّا مجتمعين على العشاء وقد سمع أبي أصواتاً عالية في الشارع. خرج ليلقي نظرة من ثقب الباب، ثم عاد متأففاً ليخبر أمي:

- كالعادة!

هزّت أمي يدها وقالت:

- يا إلهي..! يبدو أن هذا المنزل لا تجيء من عنده سوى المشاكل!!.

- لا أدري.. أرجو أن لا يؤثر هذا علينا بالتحديد، خذي حذرك من تواجد أبنك قريباً منهم. لا نريد مشاكل تحدث يكفي ما لاقيناه من متاعب قديمة مع أولئك. أي مشكلة تحدث ما بينهم وبين الجيران لا نتدخل فيها. حياة دخلت الآن في شجار حاد مع أحدهم بسبب أبنائها.

"خذي حذرك من تواجد أبنك قريباً منهم" هذه العبارة التي رماها أبي كصنارة في بحيرة أفكاري، اصطادت فضول التعرف أكثر على هذه العائلة. فبدأت أقترب منهم شيئاً فشيئاً. في البدء كنت أقف بعيداً أطالع طقوس أبناء حياة اليومية في أذية الجيران وإزعاجهم. ثم لفت انتباهي أن واحداً من أبنائها كان منعزلاً. لم يكن يحمل في كفه حجراً أو عصا أو زجاجة مكسورة. بل كان يراقب إخوانه بهدوء. اقتربت منه وفتحت معه الخيط عن شوال الأحاديث. وشاءت الأقدار أن نكون أصدقاء. لقد عوضني ابن حياة الطيب الهادئ عن فقداني لصديقي المتوفى الذي كان يعيش في منزلهم ذاته. ذلك الذي سقط من أعلى السطح وقد كانت حجة عائلته أنه كان يلعب. وكنت أكثر الناس علماً أن مثل هذه الهواية ليست من اهتمامه ولا يفكر بها حتى فهو صبي بعيد كل البعد عن المخاطرة والتهور. على أية حال فقد كان وجود ابن حياة الطيب في حياتي شيئاً جميلاً وباعثاً على الاطمئنان. لكن الأمور السيئة تحدث دائماً بلا توقع. فذات مرة حين كنت جالساً معه على الرصيف، خرجت أمه حياة ونظرت لي نظرات كلها شزر. ثم نادت على ابنها وما إن اقترب منها حتى صفعته على وجهه صارخة :

- ابن الكلب.. لا تكن ساذجاً.. كن مثل إخوتك صلفاً وقوياً حتى يهابك الناس.. من هذا الصبي ذو الوجه البليد الذي تجالسه منذ مدة؟!

ثم أكملت عليه ضرباً وهو يسير أمامها كخروف أسير. ثم شكوت لأمي تصرف حياة مع ولدها الطيب الوحيد من بين كل إخوته الأشرار، وأهانتها لي ووصف وجهي بالبليد، فردت عليّ بعد أن تفجر الغيظ المخزون في قلبها من هؤلاء الجيران الجدد:

- ماذا ترتجي من أم انجبت أبناءها من الحرام؟ بالطبع لن ترحمهم

لم تشغل عبارة أمي بالي كثيراً، إلا أنني حين كبرت وكانت صورة هذا الصديق تزور ذاكرتي بين الحين والحين، خالفت أمي في قصدها بأن حياة لم تكن تحترمه لأنه ابن حرام كأبنائها الآخرين، ولكن لأنه كان طيباً زيادة عن اللزوم. فلو كان صديقي الطيب شرساً ووقحاً كالآخرين لكان موقف أمه منه مختلفاً بالطبع. ثم زادت الأمور سوءاً. كانت أمه ترصدني بعينين تقدحان شرراً في كل مرة تصادفني فيها. خصوصاً بعد العركة الكبيرة التي حدثت مابين أمه وأمي ذات نهار. والسبب كان في تسلله والهروب برفقتي إلى مكان بعيد عن منزلينا، لتبادل الأحاديث والتسالي واللعب الهادئ. وهذا ما سبب لي أيضاً الحزن والشعور بالذنب، فقد صبَّ أبي وأمي اللوم على رأسي، واعتبرا أنني كنت السبب في فضيحة عراك لا داعي له. وذات يوم حين كنت أطالع منزل صديقي شوقاً إلى الإمساك بخيط خبرٍ منه. وحين كان أبناء حياة الآخرون يصولون ويجولون لعباً وعبثاً في الشارع، خرجت الأم برفقة صديقي الطيب أبنها. كانت المرة الأولى التي أراه فيها بعد أيام من حبسه. لقد كان وجهه شاحباً وحزيناً، ونظراته نحوي كانت أشبه بعصافير تطير ثم تتساقط بسبب غاز سام. كان الوقت عصراً وقررت في حينها أن أنتظر مجيئهم. لأنني توقعت أن سبب خروجهما كان لزيارة الطبيب مثلاً. فعلامات المرض على وجهه كانت بادية بوضوح شديد. لكن الأم - حياة- عادت بعد وقت الغروب حين خيّم الظلام ولم يكن صديقي معها!. عادت إلى منزلها وهي تحمل أكياساً ربما بعض الخضروات والحاجيات، لكن هذا لم يكن مصدر اهتمامي، فعدم رجوع صديقي معها أثار في قلبي القلق الممزوج بالحزن وخيبة الظن. لعلها ارسلته إلى أقارب لها؟!. لكن حياة لا قريب زارها منذ أن حطت في حيّنا وحتى هذه اللحظة!. أين ذهب صديقي؟. هذا السؤال أجاب عنه والدي ذات ليلة حين كنا مجتمعين كالعادة. فقد أشار إلى أن بعض صيادي السمك في منطقة تقع على مسار النهر، عثروا على جثة صبي طافية. وبعد تحقيقات الشرطة تعرفوا على أهله. لقد كان صديقي الطيب ابن حياة. ثم دُون في المحضر أن الأمر مجرد حادث سقوط صبي في النهر، ولأنه لا يجيد السباحة مات غريقاً. ولم يزعجني سوى قرار عائلته بعدم استلامه حيث أخبرنا أبي، لهذا تقرر دفنه في مقبرة مجهولي الهوية ذاتها التي دُفن فيها صديقي الذي مات قبله. تلك المقبرة المليئة بشواهد قبور كُتب عليها عبارة "مجهول"، والقسم الآخر ممن لم تستلم عوائلهم جثثهم فدُفنوا هناك مثل صديقيّ الطيبيْن.. لم أنس وجهيهما حتى هذه اللحظة، وأزورهما حتى بعد أن كبرت وصرت شيخاً. لكنهما ظلّلا صبيين نائمين في نظري على حالهما تحت لحاف التراب، وأخذا معهما إلى القبر أسراراً وذكريات حزينة..

بعد وفاة صديقي الطيب (ابن حياة) بعدة أيام، أحترق المنزل مرة أخرى، وتفحَّمَ كلُّ من فيه بسبب "تماس كهربائي".

***

أنمار رحمة الله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم