صحيفة المثقف

الدولة القومية وتحديات العولمة

حاتم حميد محسنفي السنوات الاخيرة أثارت ظاهرة العولمة نقاشا بأن "نظاما عالميا جديدا" بدأ يتشكل، وان الدول القومية والمواطنين والاقتصاديات والثقافات والأنظمة السياسية، بالاضافة لعوامل اخرى كلها تحت الضغط  امّا لـ"تتطور" او لتزول (Evans&Mooney,2007). بعض هذه المخاوف كان لها ما يبررها بينما اخرى ربما كانت مبالغ فيها. كذلك، ان سمة ونوعية وعناصر العولمة ذاتها تستمر مثارا للخلاف بين الاكاديميين من مختلف الحقول (Munck, 2006, prakast&Hart,1999, Drezner, 2008.) بعض هؤلاء كانوا يراقبون التغيرات السريعة والدراماتيكية في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واستنتجوا ان "كل من الساحة العالمية ودراسة السياسة العالمية خضعا للتحول". اذا كان هذا صحيحا، فان العمليات التحولية التي شهدناها في السنوات الاخيرة تشير الى ان ما لدينا من طرق وقدرات لملاحظة وتمييز سياسة العالم لم تعد مفيدة كوسائل لجعل النظام العالمي الجديد ذو معنى". هذه المخاوف تعطي دفعا للسؤال الجوهري عن دراسة سياسة العالم في المستقبل: "هل العولمة غيّرت السمة الاساسية لسياسات العالم؟".

مع ان حدود الوقت والمكان لا يسمحان هنا بدراسة تعريف شامل للعولمة او مناقشة كل العناصر المساهمة بوجودها او تأثيراتها المتعددة، لكن هذه الورقة تسعى بتواضع للاجابة على السؤال أعلاه. عبر التركيز على تحديات العولمة للدول القومية، والتجارة الاقتصادية، والاعتمادية المتبادلة، والبيئة،  سنتوصل الى ان السمة الاساسية لسياسات العالم مع انها لم تتغير بعد بفعل العولمة ، لكن التأثيرات المتزايدة للعولمة بالتأكيد تشكل تحديا لتلك السياسات وللحقول الاخرى في المستقبل القريب.

الدول القومية

تُفهم الدول القومية كوحدات أساسية لتحليل سياسات العالم منذ عدة سنين، وقد جرى تحدّيها مؤخرا بالادّعاء اننا لا ينبغي ان نتصور تلك الدول ككيانات منفصلة في الشؤون العالمية، وانما كدول تابعة لم تعد تتصرف بشكل مستقل. هناك تزايد في الحجج القائلة بان التركيز على الدولة القومية نفسها لم يعد مفيدا كطريقة لفهم السياسة على نطاق عالمي (Held,2004,Brennan,T2002). الكثير من الادب ركز مؤخرا على ما اعتُبر تآكلاً في سيادة الدول القومية، نتيجة للزيادة الكبيرة في الاعتمادية الدولية المتبادلة،  والهيئات الحاكمة المتعددة الجنسيات ، والهجرات الانسانية والبيئية التي ترافقت مع عدد من العوامل الاخرى، بما يقلل من استقلالية الدول القومية في الشؤون المحلية. ان سيادة (مقدرة الدولة القومية المنفردة لتتصرف باستقلالية في الشؤون المحلية والإعلان عن نفسها بشكل احادي في الشؤون الدولية) الدول القومية قد اضمحلت بفعل العولمة، حيث يقال، انه نتيجة لزيادة الاعتماد المتبادل بين الدول الفاعلة على المستوى العالمي فان هذه الاعتمادية المتبادلة تُضعف سيادة الدول القومية طالما ان قرارات السياسة الدولية والمحلية لم تعد تتقرر بدون موافقة وتعاون الدول الاخرى. الحاجة لأخذ بالاعتبار الدول الاخرى، والاتفاقات الدولية، وتأثير المؤسسات المتعددة الجنسية يمكنه ان يقيّد آراء السياسة المحلية للحكومات الوطنية والفرعية، وبهذا يقلل سيادة صانعي السياسة الذين كانوا ذات يوم يتمتعون بها كاملة.

بعض تلك الانتقادات للتركيز المستمر على "الدولة" كلاعب مستقل توظف أفعالها وتفاعلها مع الدول الاخرى في تحديد وصياغة السياسة العالمية،  دفع  طلاب السياسة العالمية الى اعتبار المنظمات المتعددة الجنسيات كلاعبين رئيسيين في العالم اليوم. بعض هذه المؤسسات والمنظمات تتضمن الامم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الاوربي والمحكمة الدولية ومختلف البرامج الاقتصادية المتنوعة التي تُدار عالميا. كل هذه المؤسسات والمنظمات لها المقدرة في التأثير على أفعال وسياسات الدول المنفردة وفي بعض الحالات، تمنع سياسات عامة محددة من ان تُشرع او تدار.

ومع تزايد عدد الاتفاقات التجارية والمعاهدات والمؤتمرات المتعددة الجنسية، كذلك ازدادت التكهنات بان الدولة القومية المنفردة قد فقدت الكثير من سلطاتها في التأثير على السياسات العالمية او التصرف باستقلالية ، بل انها في أمس الحاجة للإمتثال للشراكة الدولية. هذه الحجج تعزز التأييد لفكرة استبدال  الدولة القومية بالحوكمة المتعددة المستويات والمؤسسات الدولية. هذه الرؤى قادت البعض للاستنتاج ان الدولة القومية ستنقرض بالنهاية، لتحل محلها حوكمة عالمية او متعددة الجنسية (Keohane,2002). غير ان آخرين لم يقتنعوا بان الدولة القومية ستصبح بلا أهمية او مهملة. هم يذكّروننا انه لاتزال الدول القومية تشكل تحالفات واتفاقات ، وان هذه العلاقات نادرا ما فُرضت من الأعلى من جانب المنظمات او المؤسسات الدولية (Rupert,2000). هم يرون ان الدولة القومية لاتزال نسبيا سيادية في مقدرتها على خلق وتطبيق السياسات المحلية بينما تحسّن في نفس الوقت تأثيرها عالميا من خلال مختلف التبادلات والتحالفات. هم يرون ان الاتفاقات الدولية التي تصبح الدول طرفا موقّعا فيها هي اتفاقات جرى التفاوض حولها بعناية وهي تشكل منفعة خالصة لها. ونفس الشيء، المنظمات الدولية التي ارتبطت بها الدول طوعا والتي تستطيع فيها تلك الدول التأثير في الشؤون الدولية نُظر اليها عموما كمفيدة لمصالح الدول.

وبشكل عام، يبدو ان الدولة القومية المنفردة لاتزال كيانا مفيدا لتركيز طلاب السياسة العالمية. انها تستمر في كونها فاعلا مهيمنا على المرحلة العالمية بينما تحتفظ بسيادة نسبية ضمن حدودها السياسية. مع ذلك، اولئك الذين يدرسون ويراقبون سياسات العالم في القرن الواحد والعشرين سيكون من المستحسن ان يلاحظوا الاعتمادية المتبادلة المتزايدة للدول القومية مع دولة اخرى او مؤسسات دولية.

التجارة الاقتصادية والاعتمادية المتبادلة

وهناك تهديد آخر ذو صلة لفهم سياسات العالم وفق اطار سيادة الدول القومية المستقلة نسبيا هو التزايد المتسارع لظاهرة التجارة الاقتصادية والاعتمادية المتبادلة بين الدول عالميا. في العقدين الماضيين، ازدادت الاتفاقات التجارية الجديدة وتشكلت مختلف المؤسسات الاقتصادية دوليا بين عدد كبير من الدول القومية (Cameron&Zinn2006). هذه العلاقات الاقتصادية الجديدة كانت قد شهدت طرقا جديدة من زيادة الرفاه الاقتصادي وايضا في نفس الوقت انخفاض المرونة الاقتصادية لدى البلدان. عندما تتفق الدول للانضمام الى هذه المؤسسات الاقتصادية الجديدة، فهي تزيد من امكاناتها للاستفادة من الاسواق الجديدة وزيادة حجم التجارة ولكنها تجد نفسها ملزمة بقيود محددة ضمن هذه الاتفاقيات. غات(الاتفاقية العامة للرسوم والتجارة) و نافتا(اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) والسياسة النقدية للاتحاد الاوربي،  وحتى الاتفاقات الاخيرة ، كلها تحسّن بمختلف الطرق كمية وانواع التجارة بين الدول القومية وفي نفس الوقت تقيّد او تزيل اشياءً مثل التعرفات الكمركية والسياسات البيئية المحلية (Brysk2002,Reitan2006).

يشير قادة الدول والشركات مجتمعين الى "الضغط" او "الحاجة" للارتباط بالاتفاقات التجارية الدولية المتسعة والمعمقة لكي "يحافظوا على التنافسية" في الأسواق العالمية. غير ان الاتفاقيات التجارية والاقتصادية الجديدة يمكنها ان تسبب ضرراً بالوظائف ، والأمن الاقتصادي، والبيئي ضمن الدول الموقّعة على الاتفاقيات. بالنسبة للبعض،  يرون ان عدم مقدرة قادة الدول لحماية مصالحهم المحلية والاجتماعية، والاقتصادية والبيئية  بعد الدخول في الاتفاقات الاقتصادية الدولية هو اشارة الى ان هذه الاتفاقات تُضعف السيادة وتهدد الافراد والجماعات في الدولة القومية. وبالعكس، اولئك الذين يؤيدون التجارة ويقيّمون هذه الاتفاقات والمعاهدات يؤكدون بان الاسواق المحلية والاقتصادات تميل لتزدهر في ظل التعاملات التجارية مع الدول الاخرى بفعل زيادة الطلب على السلع والخدمات.

البيئة

اذا كانت العولمة تُفهم عادة لتشير الى الترابط الداخلي بين الدول القومية والاقليمية عالميا، وللتوسع في التجارة والاسواق في كل العالم، فهناك تعريف أوسع لها يرى ان وجود وتأثير العوامل البيئية هو نتيجة مباشرة او غير مباشرة لنمو الفعاليات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في العالم.العلماء والبيئيون والجماعات النشطة كانوا يحذرون سكان العالم من تأثيرات التجارة والعمليات الصناعية الواسعة النطاق . ويؤكدون ان نتائج هذه الفعاليات الضارة بيئيا ربما تهدد حتى استمرارية وجود الانسان والأحياء الاخرى على الكوكب في العقود اوالقرون القادمة.(Labonte,2003,Mazlish,2006)

ان ما هو اكثر اثارة للقلق هو الدليل المتزايد بان التحطيم البيئي والتلوث ليس مقتصرا على مناطق التصنيع الثقيل او العمليات التجارية الواسعة وحدها. العلماء وآخرون، باستمرار يلاحظون كيف ان تأثير إزالة الغابات والعوادم السامة وتلوث الماء والهواء بالاضافة الى نقل الأمراض من جانب الانسان والحيوان لا يتوقف عند الحدود السياسية للدولة القومية. ان إعتبارات التأثيرات البيئية للنشاطات المعولمة ترتبط بالسؤال حول ما اذا كانت العولمة غيّرت السمة الرئيسية لسياسات العالم. ان دراسة سياسات العالم تحتاج لدراسة المزيد من العوامل المعقدة والملتبسة وعناصر اكثر مما في السابق. كذلك البيئة المتغيرة وتأثيراتها على صحة الكوكب لها ايضا تأثير ليس فقط على الكيفية التي تطبق بها سياسات العالم في المستقبل وانما على الكيفية التي يجب ان تُدرس بها وتفهم(Meckling,2001). وفي ضوء التأثيرات الكارثية للاحتباس الحراري والتحطيم البيئي وخسارة الأحياء، كل ذلك قد يغير سياسات  العالم في المستقبل القريب.

 

حاتم حميد محسن

.......................

Globalisation and the Evolution of Nation-states, politics, essays www.ukessays.com

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم