صحيفة المثقف

دراسة في عوالم شعر علي الأمارة

حيدر عبدالرضارسم المعالم القصدية في مبنى قصيدة المشهد القصير

الفصل الثاني ـ المبحث (2)

توطئة:

تستلزم متباينات دراسة عوالم شعر الشاعر علي الأمارة، وفي أعماله الشعرية الأولى (أماكن فارغة / الركض وراء شيء واقف / حواء تعد أضلاع آدم / هواجس أصحاب الحسين) تلك الأداة الموضوعية التي سوف نتعمدها في الكشف عن فحوى إستبصاراتنا المبحثية المتفرعة، وهي تتناول أهم فعالية مقولات شعرية قصائد تجربة الشاعر في المشهد القصير الشعري، موضحين بذلك حجم العلاقة الرسمية في مقاصد وإمكانية بنيات النصوص القصيرة شعريا، ومستحدثاتها الاستثنائية في خطاب النص الشعري كليا .

ـ العلاقة الدوالية في تمثلات الخطاب القصدي .

أن حساسية الرؤية الشعرية في مبنى قصيدة مجموعة (أماكن فارغة) تتبدى لنا في مجالات الأداة العلامية والتفارقية الفنية النادرة، بخاصة وأن جميع موجهات وعينات موضوعات النص في هذه التجربة، جاءتنا مقصورة على معاينة المستوى المفارق في حسية الضربة الدلالية في القصيدة:

ما أوحشَ هذهِ الأماكن

إنها فارغةٌ

ألاّ

مِن كلّ شيء !. / ص3 مقدمة: أماكن فارغة

تقودنا هذه العتبة المقدماتية من زمن مجموعة (أماكن فارغة) نحو ذلك الضرب من ضروب طبيعة المكاشفة بزمن محمولات سياقات القصيدة الموظفة في نسق تجربة هذه المجموعة، وعند قراءتنا إلى مسار قصيدة (جهات) نعاين نوعية مقصودات أفعال الدوال وعلاماتها الانتقائية في حلقة وواصلة ممكنات الجهات المدلولية:

مدينتي طويلة

لهذا فأنا ممتدٌ مثل نهر

مدينتي عريضة

لهذا فأنا أُلامسُ حدودَ الصحراء

مدينتي عميقة

لهذا زرعتُ قدميَّ في الأرض . / ص5 قصيدة: جهات

ترتبط الملاءمة الدلالية في تعاملات الشاعر إزاء موضوعة قصيدته المقترنة في حدود القرائن ووظيفة جملة المحتمل الوصفي (مدينتي طويلة) وهذا الإمكان التوصيفي بدوره، أخذ يعتمد شكلا إقتيضائيا من علاقة التقابل والتشاكل في سياق التنافذ الرسمي من أحوال الأنا الشاعرة (لهذا فأنا ممتد مثل نهر) ووطبيعة هذا الافتراض هو ثنائية بحد ذاته، وحدود معنى جهة التقابل الواقعة ما بين (أنا الفاعل = الآخر المفترض) اقترانا بملامح الذروة القولية في مطروح الخطاب الأقفالي في النص (آه .. أني أنجذب من جميع الجهات) وبهذا التوافق المدلولي، تترسخ لدينا قيمة العلاقات الدوالية عبر حركتها المتصلة في مجالات خصوبة (المعالم القصدية) وعندما نتعامل مع علاقة مجالات ومقصودات نقطة التقاء المعنى، لربما توافينا حصيلة حالات الصوغ والصياغة الشعرية، كعلاقة تفارقية في الشكل الإجرائي، ولكنها تنسيقا واختيارا تبقى الاخصب  في مؤهلات لعبة الشاعر الدلالية في محاور النص، كما الحال انموذجا في قصيدة (مفارقات):

إيهٍ يا شطَّ العرب

عندما تجفّ أنتَ من الشعرِ

أجفّ أنا مِن الماء . / ص6

فالخصوصية التفارقية ها هنا، مبعثها معادل الملاءمة في موجه المقصود الاستبدالي، وصولا منها إلى معطى اللغة المتحولة في نواة الصورة الإثارية المتصلة في وظيفة الأداء الشعري .

ـ محمول الناتج التشكيلي في صياغة الأنموذج .

بإمكاننا التمييز بين إمكانية الوعي الشعري، وحالات تدرج ما ينطوي عليه حال الأنموذج الشعري، وهذان المحوران هما ما بدت عليه علاقات المقاصد النوعية في دلالات الحساسية الشعرية في قصيدة (الصعود إلى قمة النهر):

من عشرةِ أعوامٍ أغرقُ فيكَ

وأبحثُ عن شاطِئكَ الثالثِ

أغرقُ فيكَ بعيداً عنك

قريباً منك . / ص27

تمتزج الحساسية المقصدية في مقابلات مقاطع النص عبر الإيهام / الحلم، لغرض إستكمال معروضية العلاقة التوصيلية بين الطرفين (أنا الفاعل ـ تبادل وظيفة الكفاءة / وجوب الفعل) وامتدادا نحو تداخل العلاقة القصدية، التي يكمن محورها في حركية الإثارة المشهدية في النص (أبحث عن شاطئك الثالث) كما وتعتمد البرقية في دال (الثالث) تواصلا مع ذلك المعنى المسكوت عنه في مكونات حضور عناصر (أنا الشاعر / فضاء / مضمر) في الواقع أن هذه القصيدة هي مهداة إلى الكبير (محمود البريكان) وقد أراد الشاعر الأمارة من وراءها، وصف مدى درجات سمو الشاعر البريكان في حضوره الشعري المتين، ولكن الأمارة في نصه هذا حقق أعلى مستوى من وظيفة (معالم القصدية) خصوصا في جملة النص (أغرقك فيك بعيدا عنك .. قريبا منك) الشاعر هنا يختزل زمن الوصول أو اللاوصول أو الحلم أو اللاحلم ضمن آلية خاصة من عمق الإيحاء، فهو يحدد تارة لحظة غرقه بالإبتعاد عن غاية الوصول، وتارة أخرى قريبا في قصدية العلاقة الحسية والحلمية في معنى الوصول إلى أعماق ذلك المضمر من المعنى المسكوت عنه في عوالم أسرار البريكان المهيبة:

مَن يملكُ أن يُخفي نهراً

حتّى أخفيكْ ..! ؟

عشرةُ أعوامٍ لا تكفي

فالغورُ عميق . / ص28

مشهدية الاستنطاق هنا تملك أقصى حالات الإفصاح عن ذلك المضمر في أعماق الآخر، ورغم تأكيد الشاعر بروح الاحتمال من الغور(عشرة أعوام لا تكفي .. فالغور عميق) إذ أن طموحات الشاعر لا تتوقف حتى أوان وصوله إلى الأعماق، فما زال هناك عوارض ومفارق لا يمكن البلوغ منها إلى أسرار المضمر (وطين القاع تشبث بالأسرار .. وتطلب مني أن ...) وتتجلى قابلية المحذوف في بنية فضاء الفراغ في الملفوظ الأخير من النص، استقداما لشهادة الصوت المحال عليه معرفة مقصدية أعماق الآخر، حتى وأن تمكن الصوت في تحصيل الوصول، لكن تبقى ملاءمة الاقتران ما بين الطرفين حالة غير مجدية أحيانا، وخصوصا أمام جملة (من يملك أن ينزع سرا من طين .) وبهذا المجال من حساسية الاستحالة، يواصل الشاعر معاودة التقاط خطابه الملازم لجملة اللازمة: (عشرةُ أعوامٍ لا تكفي .. فحبالُ الموت .. أقصرُ من أنْ توصلَ للقمّةِ هذا الصوت . / ص28) ويصور الشاعر الأنموذج المحتذى به في موصوفه القصدي إلى أبعد مدى من دلالات أدائية التصوير الشعري، وبحساسية قل نظيرها في زمن (شعراء الخواء؟!) أقول أن شعرية الكبير علي الأمارة، لربما لا يجاريها في إجرائية تصويرها وتوصيفها إلا القلائل من شعراء النخبة، لذا فهو قابلية خاصة في مجالات تصوير وبوح واستنطاق جوهر علاقات الدوال . فالشاعر من خلال قصيدة (شهيد) يعاود إلينا تعزيز صورة المفارقة الفنية الإبداعية، اقترانا بمعالم القصدية المغايرة في مبنى المشهد الشعري القصير:

حين أخذتُ الشهدَ

لأوصلهُ إلى أهلهِ

مررْنا ببيتنا

فشكرَ أهلي الشهيدَ

الذي أوصلني إليهم ! . / ص30: أماكن فارغة

أن الصياغة بإمكانية المماثلة التفارقية، من شأنها خلق لغة غير متوقعة في معالم قصدية المحمول، ولكننا عندما نتبع مسار الوظيفة التصويرية والمستفهمة في معطى المصاغ لفظويا، نكتشف بأن حساسية المخيلة أخذت تنتج جدلية من المغايرة المكينة وفي شرطها الشعري الموفق . كما أن المعاينة والتمييز لي (رؤية الذات / رؤية الموضوعة تصلنا إلى نقطة مضمرة وخاصة من دلالة الضربة الشعرية المخصوصة في النص، امتدادا رحبا نحو الفهم المركب في سياق المعنى .

ـ تكاثر المعنى في مختزل قصيدة المشهد القصير .

وبفضل تعقب ماهية المختزل في إحالة بنيات قصيدة المشهد القصير، نعاين المزيد من وقائع العلامات القصدية البارزة، خصوصا وأنها تحتل لذاتها في مساحة المعنى، ذلك التكاثر في تحولات الأحوال وصياغة الأغراض في مسالك حاذقة من التكنيك والعلاقة المضاعفة في فضاء الأنموذج الشعري:

هنا

في هذا المكانِ الفارغِ

وُلِدتُ

و في مكانٍ أكثرَ فراغاً

وُلدَ أبي

نحنُ أبناء الأماكن

الفارغة . / ص21: أماكن فارغة

تأخذ قصيدة المشهد القصير، شكلا مرتبطا في وضعية الأواصر الدوالية، ولكنها في الآن نفسه مشيدة على أسس خاصة من وظيفة مغايرة الدلالة وأفق توقعية المدلول النصي . إذ أن جملة (هنا .. في هذا المكان الفارغ) توجب على دوالها إشارات محورية في أحياز دلالات (الصورة = معطيات المكان = وظيفة القصد) لذا بدت الأوضاع في النص، أكثر تعلقا بحيثيات عناصر ومرجع: (ولادة / زمن / ميراث / تيه) وينحو هذا المعنى في حساب الذات الشعرية، أكثر اكتمالا عندما تتضح من خلاله الصورة الكلية في داخل النص وخارج النص (ولد أبي .. نحن أبناء الأماكن الفارغة) وهكذا تواليك متعلقات القصد المضمر أكثر تمهيدا إلى ملحقات اللاحق من النص:

لباسُنا التراب

وكلامُنا صدى

ليسَ لنا حدود ..

كلّ شيءٍ هنا

يمتُّ للحقيقةِ بصلةٍ

السرابُ

الوهمُ

آه

ما أقسى هذهِ الأماكن

أنها مملوءةٌ فراغاً . / أماكن فارغة

أن الدوال المرتهنة في سيرتي (الأماكن / الفراغ) تلوحان بنا نحو الالتحام والأستجابة السلبية بمدى الخسران في جولات أجسادنا الهائمة في فراغ تخوم الوطن المظلم وأفياء حدود الآمال المؤجلة والسرابية من القادم الزمني، وهذا الأمر بدوره هو ما جعل دلالات المشهد الشعري القصير لدى الشاعر الأمارة، كمقدمة وحدوية متهكمة في فضاءات الدال الجمعي واستجابة الذات الشاعرة الكظيمة لكافة أمكنتها العمرية والمكانية والزمنية والحلمية والشعرية الأكثر توغلا في معادلة معالم قصدية القناعة المخالفة والمعارضة والمستخفة بأنظمة الواقع والحال المستتر بواجهات العلامات والرموز، وهذا ما جعل أبنية قصيدة المشهد القصير لدى الشاعر أكثر تكاثرا بالمعنى واختزالا في مساحة القول الشعري .

تعليق القراءة:

أقول حاولنا في سياق مبحثنا هذا، توضيح أهم سمات المعالم القصدية في قصيدة المشهد القصير لدى أعمال الشاعر الكبير علي الأمارة، وكان قصدنا من وراءها إبراز دلالات الأنموذج الشعري في مجموعة (أماكن فارغة) ومجموعة (الركض وراء شيء واقف) ولعل ما قدمناه في سياق مبحثنا هذا ما هو إلا خطوة مبحثية متممة لدراسات كتابنا عن عوالم هذا الشاعر، حيث أننا لا نمتلك في خطواتنا المبحثية السابقة واللاحقة سوى انطباعية واحتمالية رؤيتنا ومادة الأنموذج من أعمال الشاعر، بعيدا عن أصوات المناهج والمصادر الأكاديمية ومقرراتها الجامعية المتناقلة، ومن الله التوفيق .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم