صحيفة المثقف

كلمات من دفتر الأحوال (26)

كاظم الموسويأخبار العراق كثيرة، تتصدر نشرات الأخبار والصحف والإذاعات والفضائيات ولا تسرّ الصديق ولا تفرح الرفيق. صحيح التخلص من الاستبداد والدكتاتورية أمر مفروغ منه، ولكن التفكير ببديله، هو الأمر الأهم، فما جاء به وبعده متواصل معه أو أسوأ منه. مهما كان الاحتلال لا يمكن أن يكون مرغوبا حتّى لمن أراده ورغب به أو تخادم معه أو لأسبابه. لقد تمّ كلّ شيء والشعب العراقي مغيب عما يحدث ويجري. تمّ فتح الأبواب على مصراعيها لقوات احتلال وغزو وهيمنة استعمارية، لا يهمها ما يحصل بقدر ما تريد هي لمصالحها وأهدافها ومشاريعها.

كنت زائراً دمشق في تشرين اول/ اكتوبر 2003 ومنها فكرت بزيارة الأهل والسفر إلى العراق بعد غياب طال أكثر من ثلاثة عقود زمنية. فذهبت مع نسيبي إلى منطقة السيدة زينب حيث كراجات الحافلات المتوجهة إلى العراق. قبل أن نصل إليها دعانا أصدقاء عراقيون يجلسون في مقهى مفتوحة على الشارع العام. جلسنا معهم وبدأت الأسئلة والآراء حول الوضع وطرق السفر.. فتم إقرار مقترح السفر عبر الطيران إلى القامشلي ومنها إلى الموصل أوّلا.  ومن ثمّ بغداد. قبل ترك المقهى بادر أحد الحضور، وقد عرفنا من تصرفه أنه ضابط سابق في الجيش وله علاقات واسعة بالاتّصال بصديق آخر عراقي يقيم هناك. وأخبره عن الفكرة فشجع عليها، وكتب لي رقم هاتفه وقال لي أنه سيستقبلك ويذهب معك إلى محطة السيارات المتوجهة إلى العراق وهو يعيش هناك ويعرف المدينة جيداً وله صداقات، ففرحت بالأمر للاطمئنان والتأكد من سلامة الطريق وراكبيه. وكانت الأخبار تفيد بضرورة الحذر من السرقات والخطف وغير ذلك إذا عرفوا عن المسافر الغريب. أخذونا إلى مكتب طيران صاحبه لقبه كلقبي وأعطانا سعراً خاصاً للتذكرة على أساس المعرفة والقرابة وبعد الترحيب ودعوة شرب قهوة عنده، دفعت الثمن وحملت التذكرة وعزمت على التهيؤ للسفر. صدفة قبل أن نعود إدراجنا كان مكتب طيران عند تجمع سيارات النقل المتجه إلى مركز العاصمة، فذهب نسيبي يسأله عن أوقات السفر إلى القامشلي والتكلفة فعرض عليه عرضاً أقل من صاحبنا/ أقربائنا بربع سعر التذكرة. ضحكنا وقلنا .. أهذه البداية؟

في اليوم المقرر حملت حقيبتي القديمة حسب التوصيات واتّجهت إلى المطار. في المطار إعلان عن رحلتين إلى القامشلي بوقت متقارب، بينهما نصف ساعة، وعرفت من رقم الرحلة أن تذكرتي محجوزة على الثانية، وما أن صعدنا وجلسنا دون أرقام وحشر كالسردين أو كسيارات النقل الداخلية، صعد شباب بأزياء عسكرية أو من موظفي الطيران وطلبوا منا النزول من الطائرة، ونزلنا لنجد حقائبنا على الأرض ووقفنا بالانتظار وصدر الأمر بأخذ كلّ مسافر حقيبته ويقترب الى جهتهم، فسحبت حقيبتي واتّجهت إليهم اخذوها مني وأشاروا لي بالتوجّه من جديد للصعود إلى الطائرة.

وصلنا القامشلي واتّصلت بالأخ العراقي المقيم هناك، فأخبرني بطريقة الوصول إليه، وبحثت عن سيارة تاكسي من المطار، لم أجد غير السيارات الصغيرة التي تستخدم للحمولة، سالت أحد سواقها فرحب بإيصالي. بتّ ليلتي مع أحاديث شجية عن أوضاع الوطن وعند الصباح أوصلني المضيف إلى محطة السيارات (كراج) المتجهة إلى العراق، الموصل أساساً. ووجدت سائقا يصيح; نفر واحد.. فاتجهت إليه وسألته عن إيصالي إلى العنوان في الموصل. فرحب وأخذ مني خمسة عشر ألف دينار عراقي وفي الطريق تبادلنا أحاديث منوعة لقضاء الوقت، فتبين أنَّ الراكبين الآخرين، شاب وشابة، طلبة دراسات عليا ومتزوجان من أسابيع، ومن المعارف، فاصرا على النزول عندهما ويقومان بتوصيلي بعدها.. اعتذرت منهما واستمريت إلى العنوان، وذكرا لي بأنّهما دفعا أُجرة السيارة وهو يتحرك بعيدا عنهما، ولم أنصت لهما أو انتبه للأمر، ولما وصلت استقبلت من الأقرباء عند العنوان ودفعوا له الأجرة أيضاً، كما عرفت فيما بعد، أي أنَّ السائق أخذ ثلاث مرات أُجرة إيصالي بكلّ صلافة وفقدان ضمير أو شكل من نظافة سلوك في التعامل. أذكر ذلك لتسجيل الفداحة في الطباع التي صنعها الحصار ودمر كلّ الأخلاق والمعاملات الإنسانية.

كتبت عند عودتي عدة مقالات. هذه منها، وهي تعبر عن الأوضاع التي آلت إليها البلاد. بعنوان: جريدة الشارع العراقي.

"للشارع العراقي جريدته المميزة، رغم عديد الجرائد ووسائل الإعلام الجديدة فيه. ولها تاريخها المشهود وفيها ما لها من جرأة وعليها من قوة وقدرات لم تبلغها مساحة أو هوامش الانفتاح الإعلامي في أية فترة من فترات التاريخ السياسي بالعراق. ففي العهد السابق حيث لا وسائل إعلام غير ما إرادته الدكتاتورية البغيضة ورسمته أو قننته في إطار منهجها الشمولي الأحادي الاتّجاه المنصب رئيسيا في خدمة النظام وسياسته الإرهابية القمعية المعروفة، كان رأي الشارع موجودا، حتّى ولو بصوت خافت، معبرا عن موقفه وتوجهاته العامة، همسا أو عبر مختلف الوسائل والأساليب، أبلغها ما كان بين السطور من الطرائف والنكات والحكايات الساخرة من أزلام النظام وأركانه، أو في الشعارات أو الجمل الوافية التي تكتب على الحيطان للعلن وللعامة وللرأي العام الذي يشعر بأنها لسان حاله أو إشارات عن ما يمور بخاطره أو في عميق أفكاره.

هذا الصوت أو الجريدة رغم اختلاف الصورة اليوم بالعراق نوعا ما عما كانت عليه، بعد أنْ صمتت صحف النظام السابق المحدودة العدد والمعروفة الجهد والصدد ونهبت ممتلكاتها وصدرت بدلاً عنها صحف كثيرة وبادلتها وسائل إعلام متنوعة ومختلفة وظهرت مسميات عديدة لأحزاب ومطبوعات وإصدارات بأسمائها، تظل لها سمتها الخاصة ولغتها العامة.

من بين كلّ ما يمكن تعريفه بجريدة الشارع أو الرصيف، أقدم قراءة مصورة من عنوان باسم جريدة الرصيف سجلتها يد بخط واضح على جدار بناية حكومية هدتها صواريخ توماهوك كروز أمريكية في وسط بغداد، انقلها كما كتبت واضع توضيحا لها بين قوسين للقارئ الكريم:

تحت عنوان إحصائيات ورد:

105 حزب معلب مستورد.

110 جريدة جذب (كذب)

100 منظمة فرهودية

200 حركة بلا بركة

300 جمعية حرامية

400 جبهة طينية

500 اتّحاد + اتّحاد عاطل

600 مقر سلب ونهب ديمقراطي

و 700 عليهم

وفي عمود آخر سجل ما يلي:

مطلوب رئيس جمهورية

أوّلاً: عادل

ثانياً: نزيه

ثالثاً: متواضع

رابعاً: فقير

خامساً: رؤوف عطوف

سادساً: مو حرامي (ليس حرامياً)

سابعاً: كريم جواد

ثامناً: شجاع ما يفلت (لا ينهزم، لا يهرب)

تاسعاً: لا يعلق صورة له على الجدران

وفي صفحة أو عمود آخر ما يلي: مجيئه كارثة، بقاؤه كارثة، رحيله كارثة.

هذه نماذج مسجلة ومثبتة أمام أعين الناس، وهي صفحة من صفحات جريدة الشارع العراقي التي تعبر عن مشاعر الرأي العام عموماً، ولعل ما وضع من تعليقات على شعارات ولافتات أحزاب وأشخاص دخلت العراق مع قوات المارينز أو لبست لباسها هي الأخرى صفحات أخرى من تلك الجريدة.

وفي كلّ الأحوال فأنَّ هذه الإحصائيات تقول ما لم تقله الصحف أو وسائل الإعلام الكثيرة التي تصدر أسبوعياً مؤقتاً كما تسجّل تحت عناوينها وبولغ في أرقامها وأعدادها كظاهرة صحية لم تألفها حالات الشارع العراقي ولم تتكيف معها قدرات القارئ الموجهة له أساساً، لهذا وصفها محرر جريدة الرصيف على أعمدة وجدران بناية وسط بغداد مقصوفة ولما تزل شاهدة على ما حلّ وما يجري بالعراق بهذا الشكل الكاريكاتيري معبرا عن مزاجه الخاص المرهون بالمزاج العام، والموصول بالقلق والحيرة والترقب من التحوّلات التي تواكب مسيرته وموروثه التحرري وتطلعاته نحو حرية حقيقية وديمقراطية تتناسب وتاريخه النضالي وصفحات وثباته وانتفاضاته المعلومة، لا تقفز عليها أو تدعي ما يخالف نهجها.

لقد تخلص الشعب العراقي من عهد سابق واختنقت دمعة فرحه بحدقات عيونه ليجد أمامه عهداً لم ينتظره أو يختره، بل وجد احتلالاً أسوا من الدكتاتورية وأشد وقعاً في حياته اليومية. حيث حول الاحتلال شوارعه ومدنه إلى مجمعات عسكرية مسورة ومحاطة بالأسلاك والحواجز ونقاط التفتيش والمداهمات واستفزاز الأباتشي ومصفحات وناقلات الجنود، إضافة إلى الإعلان عن مشاريع بيع ثرواته علناً وبالصوت العالي لكلّ من يشتري، واستشراء ما لم يكن بحسابات الشارع العراقي أنْ تعود إليه وهو يتطلع إلى أنْ يعيش كبقية العالم في بدايات قرن جديد وعهد آخر. ولم توفر السلطات التي نصبتها قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني، كما تذيعها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لحدّ اليوم في نشراتها الإخبارية، للمواطن العراقي بديلاً حقيقياً وتضع له آمالاً جديدة، بل وضعته في دوامة جديدة واستبدلت كابوس الإرهاب والتسلط السابق بالفلتان الأمني وسراب الوعود والهموم المتوالدة من سمات النماذج البديلة. فضلا عن وضعها أسساً تتناقض مع برامجها السياسية والفكرية التي تدعيها أو أعلنتها بجرائدها المدعومة ووسائلها المحسومة.

لم تجد جريدة الشارع العراقي أي شيء من ما يدعيه كلّ مرة جورج بوش أو توني بلير من مبررات شنّ الحرب على العراق أو الأهداف التي يريدانها للشعب العراقي. حتّى المنظمات الدولية لم تعط العراقيين من برامجها أو مواثيقها ما يمنحهم مزيدا من الثقة بها، على العكس قدمت المنظمات الدولية ازدواجية معايير تماهت بها مع مخططات السياسة الإستراتيجية المرسومة لمستقبل العراق والمنطقة بل خدمتها أكثر من وظائفها مما وضعها بصف قوات المارينز الأمريكان أو العراقيين التي أوصلت حالة الشارع العراقي إلى حافات الغضب والاحتجاج، والأمنيات إلى تصورات بعيدة المنال.

جريدة الشارع العراقي عبرت بلغة واضحة عن تغير المشاعر من الفرح من التخلص من الكابوس إلى الحزن على الدخول بكابوس آخر ونفق لم تر منه بصيص ضوء قريب، وهي صفحة أخرى من معاناة الإنسان بالعراق، وغياب دوره بالمنطقة والعالم.

قراءة ما تنقله الجريدة من تساؤلات عيون الناس المارة بالشارع، أو المشرأبة إلى مستقبل واقعي بلا احتلال أو قوات مارينز أو بلا سجون جديدة وحرس صهيوني تقدّم صورة عن واقع الحال العراقي اليوم بعد الاحتلال الذي شرّع قانوناً وتسميه قواته العراقية تحالفاً وتحريراً. جريدة الشارع العراقي تريد وطناً حرّاً ديمقراطياً يمتلك الإنسان فيه حقوقه وكرامته وثرواته ويعمل بأمن واطمئنان لمستقبله ويعيش بسلام في وطنه، وتظل هي الناطقة حقّا بصوته رغم كثرة الصحف والأحزاب المشغولة بدوافعها ومصالحها البعيدة عن جريدة الشعب والشارع العراقي".

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم