صحيفة المثقف

لؤي حمزة عباس بين الصورة المنقولة وتوصيف الرواية

حيدر عبدالرضا(تصويرية الواقع السيري ومحاكاة الواصف الذاكراتي)

قراءة في رواية (مدينة الصور)

الكتابة الروائية في بعض تصانيف المقاربات والمؤشرات العلاماتية والاسلوبية والتنظيرية والتطبيقية النقدية، تنص على أن (فن الرواية) يتخذ له أحيانا طابعا خاصا من قابلية التكثيف مع غيرية المجتمع وصفاته ومكوناته، وهناك من يقول أيضا بأنها (ملحمة فردانية) وهنالك من يقول بأن الرواية عبارة عن ( توازيات صورية متعددة) وآخر من يشدد على أنها محض فضاءات ناقصة من (تيار الوعي) .

وأمام كل هذا الكلام والآراء والتنظيرات، نجد بحوزتنا عملا روائيا بعنوان (مدينة الصور) للقاص لؤي حمزة عباس، حيث سنختارها أنموذجا تنطبق عليه مقاربة مقولة (تسجيلية الذاكرة الساردة) كنتيجة راح يعيد أليها القاص كل ما حدث له في سلسلة أزمنته المكانية والمخيالية والنفسية.. ونحن على هذا الأمر أيضا سوف نتناول خطوات النص البنائية خطوةً خطوة (واقعة.. واقعة) و(صورة.. صورة) كما أن القارىء لها سوف يواجه تلك المهارات الخاصة في بناء الحبكة السردية الروائية في النص، وهي تتشكل على هيئة (أخبار / ذاكرة / اعترافات / أصوات / علاقات / سارد) بيد أن المادة التسجيلية في شكل الرواية، صارت تؤسس لذاتها الأدواتية، شكلا من أشكال الإيحاء الانعكاسي في بنية ذات حالات من التقابل والتناظر النصي والسردي في جسد الرواية،و كمركز ثيماتي يخرج أحداث وشخوص النص نحو فضاءات محورية هامة في موضوعة بناء السرد.. أن فعل وفاعلية قراءة زمن مخطط (مدينة الصور) لربما يحتاج منا الى متابعة مسهبة في أوليات وعلامات وخرائط مدينة لؤي، ومتابعة مهمة التعرف الجاد على صلة أرحامه العائلية والاجتماعية في الواقع حتى يكون لنا كل الفهم بالتالي، لمعرفة مسيرة الرواية.. ومن أجل توكيد فعل الرؤية والفهم الجمالي لرواية لؤي حمزة، سوف نكون أمناء جدا في استعراض بعض من فقرات وحداتها المشهدية المركزية من نص الرواية..

ـ نص الرواية:

(شيء ما يتغير شيء لا يكاد يرى لكنه يحس على الوجوه بملامحها الموهنة مثل أثر جرح قديم مندمل / ركبت من كراج المعقل متوجها الى العشار عبرطريق المحطة.. الطريق الذي أحبه لا لشيء ألا لكونه يمر بمحطة القطار بنوافذها المطلة على الشارع / من دون ان يحس ان أحد منهم أنه لم يعد كما كان منذ لحظة../ ان المسافة بين خارج المحطة وداخلها مسافة بين عمرين / سيظل مرأى المحطة يرن في رأسي.. ببطء وتمهل.. بأنتظار الزمن الذي أدخلها فيه فأرى القطار معبأ بالجثث وأعرف ان القطارات التي تمتد جسرا بين حياتين يمكن ان تخترق النفق المظلم بين الحياة والموت تتبعها أصداء صيحاتها الموجعة.. ص9)

أن هذه المسارية التوصيفية الاستهلالية في رسم ممكنات الأشياء والأمكنة من زمن دلالة الرواية الأولى، حاول من خلالها القاص، على أن تكون تسمية وعرض ما عليه طبيعة الأشياء بموجب شرائط نبضات (الواقعية / المتخيل / الذاكرة) ثم بالتالي عبر مراكز تشكلات الأحداث والأفعال والأمكنة، حيث راحت تنوعات جملة الأجواء الحركية في السرد، تؤدي إلى مظهر تلاحمي مع هوية علاقة السارد، ومع تضامينه التقدمية في النص.. غير أن علاقتهما وان كانت حلولية، فذلك بدوره لا يعني، سوى أنها تقودنا نحو محطة الانفتاح المشهدي الجاد في بداية النص السردي: (تكررت أمامي رؤية خالي.. أراه في كل مكان لا أتوقع رؤيته فيه يمشي وحيدا بدشداشة خفيفة بيضاء.. يجرجر قدميه بنعال جلد ممسوح ولأنني كنت سعيدا وحزينا في آن لعودته الى البصرة فقد كنت اقطع عليه أطراقته وأنا أرفع صوتي ليسمعني يتوقف يرمش أجفانه كأنني أخرجته من قاع الظلمة الى الضوء / لن يحدثني ألا بعد أن أسأله: شلونك خالي؟ يرد علي متسائلا هو الآخر: ها خالي ؟ ثم يسألني عن أمي وأبي / ما ستغربت له حقا أنه يسألني عن أحوالهما ولم يمر على رؤيته لهما سوى أيام قليلة.. ولولا أنني كنت واثقا من حضوره الى مجلس العزاء وجلوسه الى جانب أبي في السرادق الطويل يرشف الشاي ويستمع شارد الذهن الى عبد الباسط وهو ينغم آيات الحشر لقلت مسكين خالي أنه ينسى.. لكن خالي لم يكن ينسى.. ولأنه لم يكن ينسى لم أحدثه عن سعادتي بعودته وحزني / ليل نهار كان يدور.. كلما أغمضت عيني رأيته يقطع وحشة الليل كما يقطع وحشة النهار . اتصوره يخرج من بيته في محلة أم الدجاج فيأخذ أحد الطريقين.. أما ان ينحرف الى اليمين.. يقطع زقاقا تثقل هواءه وخمة الدجاج وتزحم دكاكينه أقفاص البلاستك المتربة / كل شيء في البصرة يبدأ عند الشط تلك حكمة المدن الساحلية.. كل شيء ينتهي عند.. لم تكن بين خالي وأنا أتصوره متمهلا يمشي على الكورنيش وصورته المحفوظة في ألبوم العائلة أية صلة.. الصور تكذب.. ذلك ما قلته لنفسي في اللحظة التي رفعت الصورة فيها من ألالبوم لألصقها في دفتر الصور بحرص وتوجس .) أن طبيعة الأحداث ومسار الشخوص ومحورية صوت السارد في رواية (مدينة الصور)، تتخذ من صوت الذاكرة مدارا تدفقيا خاصا، لغرض إنشاء عوالم نفسية خاصة بصناعة الشخصية الروائية المتكلمة في النص وهي تسرد وتروي وتسلط الأضواء على حقيقة سبر أغوار الداخلية الشخصية في الرواية، وما لها من مسير داخل حلقات نسيج السرد والفضاء الاسترجاعي خاصة وعامة .

ـ المؤولات التعرفية وقضوية الاظهار

من اللازم في نهاية كل جملة فقرات سردية ومشهدية من الرواية، الحديث قليلا حول ما عليه هذه المساحة الروائية من النص، حيث نقول بأن الرواية، ومن خلال ما عرضناه من مشاهد منها، تبدو لنا أحداثها كأنها مؤولات أخفائية مفعولة، على صعيد شكل تمثيلي خاص من فضاء مخاطبة الذات العارفة في مجالات مشهدية، حيث نعاين من خلالها صوت السارد والمسرود، وهو يتخذ لنفسه انتشارية مبطنة، من حالات أنتاج تعرفية صوت السارد، وهو يقوم بحث مدارات المحكي في مجالات تتعلق بشخصية حبكة ذلك (الخال) والخالات والأقارب وبعض من أفراد فضاء الأصدقاء والعائلة والأمكنة القديمة في مدينة البصرة، وحكاية المطرب عبد الحليم حافظ، ومزيدا طويلا من جملة تفاصيل الأدلة المرئية من صورية مرآة (الكاتب والمدينة) ومعنى هذا باختصار يدل على ان الأسنادية المحورية للشخوص في رواية (مدينة الصور) قوامها جملة مؤولات استشهادية قضوية، قابلة لمرور حركات خاطرية لربما تكون من خارج حدود الواقع النصي نفسه في الرواية، وذلك لأننا وجدنا ثمة شخوص في حكاية الرواية، لربما هي عبارة عن وجود فائض في النص أساسا.. وإلا ما أهمية كل ما قد ذكره القاص لؤي حمزة في حكاية (مدينة الصور) هل فعلا أن أدوات العمل الروائي في النص، مجرد موضوعة تتحدث عن أحوال المدينة والأصدقاء وسوق (أم الدجاج) وشخصية الخال، التي لا نعرف عنها سوى محض الطيف والخيال والتمويه سرا.. أن القارىء لحكاية وموضوعة

(مدينة الصور) لربما لا يعثر على شيئا دالا وضروريا ومفيدا، سوى جانبا من تصورات تلك الذات المتكلمة حول تطويعات اللازم من شكل مذكرات (الصورة المنقولة) وفضاء الإطلاقات المؤولة، عن حقائق حياتية من خزين، تبدو مخالفة للعنونة وتسمية دليل الرواية . كما أن عملية إدخال لؤي حمزة، لوظيفة الدليل الذاكراتي المباشر في النص، كمثال (الصور / المعقل / طباخ الفندق / أبو غازي / مستشفى الموانىء / عبد الحليم حافظ في سماء المعقل) لربما أن هذه المحاور لن تشكل علاقة انتقائية تساعد على نمو فكرة سياقية تقنية، من شأنها جعل وظائف تلك الأسماء والشخوص والأمكنة والتواريخ في الرواية، على أن تلعب دورا أنتاجيا حقيقيا في عضوية صناعة المؤول، وفكرة الأدلة التحيينية المناسبة في هوية تطور أحداث النص وشخوصه، بل أنها قد حلت بروح المقصود (الخارجي / العرض / الذاكرة) ودون إحداث، أدنى نتيجة متوخاة من فكرة (مدينة الصور) فأنا شخصيا عندما قرأت عنوان الرواية، كنت أتصور بأن لدى لؤي حمزة، ثمة لعبة تقنية عظيمة، في الإنتاج العلاماتي والسردي، حيث كنت أتصور بأن الرواية، مكون ألبومي ثابت الحضور والتأريخ والوثيقة، في حين تشغله دينامية خاصة من التكثيف الإيحائي والاظهارية الرمزية في زمن دليل المحكي الحاضر، حيث من جهة أخرى، تبقى عوالم وحالات الأشياء في النص عبارة عن مؤولات تحكمها حالات التفسير السيميائي الصوري القادم من قاع ذاكرة القاص ودلالات الصور التي يقوم بتحريكها القاص بشكل لا يمكن الإحاطة به بسهولة.. غير ان ما اطلعنا عليه في رواية القاص، كان معاكسا تماما، لما كنا نتصوره، إذ جاءت وظائف الأحداث والشخوص والامكنة في الرواية، تحكمها مصادر مباشرة فتوغرافية باردة..

ـ تعليق القراءة:

من خلال سقف أطروحة مقالنا هذا، الذي هو قراءة سريعة في رواية الدكتور القاص لؤي حمزة عباس، أود توضيح ثمة وجهة نظر خاصة، طالما ساورتني حول أعمال هذا الكاتب السردية بشكل عام.. أقول منذ زمن طويل ونحن نقرأ للقاص أعمال ومشاريع ضخمة ومتنوعة ومتفردة.. ولكن هناك حاجة بنا إلى ألقاء مساءلة سريعة حول عوالم القاص السردية .أقول أن كتابة النص السردي في عوالم هذا القاص، يبدو دائما عبارة عن متعلقات غير معروفة الدلالة والإفصاح المدلولي الكامل، فعلى سبيل المثال روايته (مدينة الصور) إذ وجدناها كمظهر سردي صوتي، تعبر عن محاورات شخوصية ومكانية وزمانية كبنية دلالية تبتعد بالأشياء، وكأنها (نص داخل نص) أو (خطاب داخل خطاب) ولهذا السبب وحده، وجدنا هذا العمل الروائي يشكل خلفية إنتاجية خاصة في مستوى بناء روائي ذات نتيجة محصورة ما بين (الزمن / السارد / الصيغة) وعلى هذا الأساس وحده وجدنا رواية (مدينة الصور) تشكل خاصية مناسبة في محمولات الذاكرة الذاتية المفصلة في مخيلة الدلالة القصوى من زمن الصورة المنقولة وزمن تصويرية الواقع السيري ومحاكاة بنية الواصف الذاكراتية .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم