صحيفة المثقف

على خط النهاية: الفتنة

صالح الرزوقأرسل لي صديق هاجر إلى العالم الجديد (يعني بلاد العم كولومبوس. أفضل هذا الاسم على بلد العم سام) مجموعة من الكتب لم يعرف كيف يتخلص منها. وسرعان ما رتبتها على رفوف مكتبتي. ولكن وجدت بينها مخطوطة. كتاب منسوخ. قلت لنفسي: هذه ثروة هبطت  من السماء. المخطوطات الأصلية لا تقدر بثمن. ولها مزادات خاصة. الورق بهذه الحالة  مثل المعادن الثمينة.

وبدواعي الفضول فتحتها لألقي نظرة على المحتويات. كانت أول صفحة تحمل خاتم المكتبة الوقفية وتاريخ الإدخال. وكانت الأرقام غير واضحة بسبب بقعة زيت أو قطرة عرق. من يعلم. لا أستطيع التفريق بين أثر عوادي الزمن. ثم بدأت الحكاية بالشكل التالي:

- أ-

وفي الليل جاء ابن يعيش، وهو ابن أخت غير معروف لطيفور بن عيسى بن شروسان الملقب باسم أبي يزيد البسطامي. ولدى وصوله إلى أول جادة عريضة التقى بشبح واحد من العسس، فاقترب ثم ألقى التحية وسأله: هل تعرف أين يسكن أبو يزيد البسطامي؟..

لم يكن أبو يزيد بحاجة لتعريف، فهو زعيم أخوية قديمة. وإذا خرج إلى الطريق لا بد إلا وأن يسير وراءه شاب معمم يرفع بيده راية خضراء تخفق في الريح، إنها علامة تدل على الأخوية.

ألقى عليه الحارس نظرة متفحصة، ثم رد بصوت متمهل ومتقطع ومن غير تفاصيل: اتبعني......

لم تكن أصوات أو أشكال الليل يومذاك مرتفعة. وحين وصل كلاهما إلى ميدان كبير، بشكل ساحة مؤتمرات، رأى ابن يعيش أعمدة قصيرة تحمل عددا من الفوانيس، معظمها حديد بارد، لم يكن فيها نور، وفيما بينها أشباح البصاصين بأرديتهم التي ترفرف مع نسمات الهواء المنعش. وحين انعطف دليله الصامت يسارا باتجاه شارع طويل وضيق، يشبه السرداب، لم يملك ابن يعيش إلا أن يميل بالاتجاه نفسه. وأحس كأن الرجل يقوده إلى مصيبة. وسمع خطوات آدمية وراءهما. وعلم أن البصاصين في إثرهما الآن. كان الوضع مريبا كما تناهى لمسمعه. هنا لا يسير رجل وحده في الطرقات. دائما وراءه من يقص أثره. فتساءل بسره: ترى هل البلدة تقترب من انقسام آخر بين البصاصين ورجال العسس؟. ولكن حتى قبل أن ينتهي من هذه الفكرة سمع صوت دليله يقول محذرا: انتبه. أمامنا صخور وحفر كثيرة.

2014 صالح الرزوق

في زاوية الطريق لاحظ وجود عسس آخرين مدججين بالأسلحة حتى شحمات آذانهم. ألقى الدليل عليهم السلام. وردت الجماعة باحترام. وكانت أيديهم على قبضات سيوفهم. وبعد ذلك شرع الرجل بحديث هامس، وسأل ابن يعيش عن دابته. أين هي ولماذا يرتجل هذا الدرب الخطير في الليل. ثم استفسر عن سيفه. لماذا لا يحمله تحت ردائه، فالمكان محفوف بالمخاطر.

رد ابن يعيش: إن الإنسان ضعيف أمام العناية الإلهية ولو أنه مسلح. ثم إنه بحماية سلطان العارفين أبي يزيد. هز الدليل رأسه بتفهم. وانتقل لحديث مطول عن قانون جديد يمنع وضع الأجراس في أعناق الدواب كي لا تهرب الملائكة من البلدة. وكانت هذه الإجراءات غريبة على مسامع ابن يعيش فاستفسر بقوله: وهل تكره الملائكة الأجراس؟.

فقال الرجل بصوت غاضب: لست من وضع التعليمات. إذا رأيت الشيخ اسأله..

فقال ابن يعيش بسره: غالبا هي إحدى فتاوى البسطامي. مع أنه حسب علمه كان بعيدا عن شؤون الدنيا، ولا يهتم إلا بالروحانيات وضرورات العبادة، كمشكلة طواف الكسيح حول الكعبة. ثم انتبه أن أصوات خطوات البصاصين قد خمدت. لا شك أنهم تفرقوا أو عادوا إلى ثكناتهم.

ولكن لم ينتظر طويلا ليجد التفسير المناسب. بعد عدة فراسخ سمع مرافقه يقول: ها قد وصلنا إلى حرف الهاء.

كان يعلم أنها علامة على حدود مملكة البصاصين، حيث ترتفع نسبة المجازفة، إنهم يخافون بشكل خاص من  الجيم والهاء. الأولى لأنها من خصائص الجن، والأخرى لأنها إشارة من الجندية. وشاهد أمامه العلامة بصورة ثور في قارعة الطريق. وبقرونه التي تعلو رأسه يبدو كأنه هاء مربوطة. وحين اقتربا منه لاحظا جسمه المروع يضغط على القوائم المطوية تحته. ورأسه موسد على  التراب وصفحة لسانه تتدلى من بين فكيه، للتأكيد أن السر الإلهي يقف للعيون بالمرصاد.

قال ابن يعيش لرفيقه: أعتقد أن هذا هو مصدر الوباء الفتاك الذي ردع البصاصين.

تلفت الدليل حوله بحذر، ثم هز رأسه بصمت. هو الوباء إذا. ومنذ الآن سيشاهد ضحاياه من البصاصين المستهترين وغيرهم من عامة الناس. كانت جثامين من فتك بهم الوباء ملقاة على الأرض. وكان يشار إليهم باسم: زمرة من لم يقتله السيف. وطوال بقية المشوار غرق ابن يعيش في تكهنات حول مصير هذه الفترة الحالكة، ولمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف. ولكن عندما وصل الى ساحة أخرى يتصدرها خان كبير، وقفت أمامه عشرات الخيول المسرجة، سمع صوت مرافقه يقول بتهكم: هنا من تبحث عنه. رافقتك السلامة.

- ب -

الورقة التالية نصفها أبيض. حسنا. رمادي بفعل دوران عجلة الزمن وتراكم الغبار. ثم تبدأ بعنوان (طبقات موالي الصوفية) لسيدنا يتيم. بالضبط مثل طبعات الإسراء والمعراج الحديثة، نصفها الأول لابن عباس ثم تنتقل لابن حجر. ولكن لم أعرف من هو الكاتب السابق. وبالبحث عن الثاني وجدت ترجمة له في تاريخ دمشق لابن عساكر. ومن حسن الحظ أنه تابع من حيث انتهى سلفه. وكالتالي:

وقف ابن يعيش وحده وسط الساحة الغامضة والمعتمة. وشاهد عند الخان حارسا ضخما يشبه مصارعا رومانيا. مر بالقرب منه بصمت، ثم عبر البوابة، وفي الباحة الداخلية للخان لم يعرف ما هذا؟.. أهو مكان مخصص للاستراحة أم أنه بيمارستان؟..

وكانت أمامه عدة دهاليز صفراء وصنوف من النوافذ المنخفضة والمغلقة. ورأى نساء تحملن أطفالا صغارا لهم عيون كاذبة. عيون خفافيش الليل. وكانوا جميعا يبكون ويدقون بأصابع أيديهم على صدور تلك النساء، ربما لأن الضروع يابسة. وفي زاوية أخرى شاهد جماعة مرد الوجوه يستمعون لرجل يتلو أبياتا من شعر بذيء منها:

وعذراء ترغو حين يضربها الفحل

كذا البكر تنزو حين يفتضها البعل

وخمن أنه إنما يصف الخمر أو ما شابه. ثم سمع رجلا آخر يخطب بأناس كثيرين حجبوا وجهه كما تحجب الغيوم السماء ثم يتساءل:

أنطأ الجنة يا هذا؟.

وقد رد أحدهم على الفور بقوله:

والذي نفسي بيده دحما دحما، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا.

ولم ينصت لباقي القول لأنه فر منهم إلى الزاوية المقابلة، حيث جلس شاب يأكل الثريد. حياه وقال له: أين أرى أبا يزيد يا أخي؟.

فأومأ له برأسه. تبع  الإشارة حتى أصبح في رواق هادئ ينير جدرانه فانوس صغير لسانه الملتهب يرتجف كل لحظة ويرسم على الأرض خيالا جسيما. كان يتوقع في أية لحظة أن يلمح الشاب حامل الراية الخضراء الذي يرافق البسطامي كأنه ظله. في وقت سابق سأل الشيخ عن معنى الراية. فقال له بصوت أجش وعميق: إنها نفس الراية التي سوف نحملها يوم القيامة بعد أن تخرج النفس من رداء البدن.

في هذا الرواق لاحظ أن بعض الأيقونات معلقة على الجدران. فتساءل فيما إذا كان أخطأ بتفسير إشارة الرجل صاحب الثريد. إن هذه الدار تبدو للمسيح عليه السلام. ثم بعد أن قطع مسافة أخرى قابل رجلا يتعذب على السفود، فعلم أن هذا رواق الحلاج. ولم يترك الفرصة تضيع منه فاغتنمها وناجاه قائلا: أين أرى سيدي البسطامي؟.

لم يرد المصلوب. وأنى له أن يرد. كانت روحه تغادره بشكل خيط من دخان. ولكن جاء من فراغ الرواق صوت خافت يقول بنبرة ملائكية: اجلس على الكنبة قليلا وسآخذك إليه فيما بعد..

ولأنه لم يجد كنبة امتثل بالجلوس على الأرض. وانتبه أن إلى جانبه شابا في ربيع العمر يقعد القرفصاء. كانت ملامحه تتغير كلما ترنحت شعلة الفانوس الخبيث. كان الشاب تحت تأثير تجليات تعبر عن مخاض نفسي. لكنه أخذ نظرة من ابن يعيش، نظرة مركزة، ثم قال: التأني يا أخي. لن تصل قبل أن يأتي زمانك على صهوة حصان أبيض، وتنجلي الرؤيا. لم يستطع ابن يعيش أن يخمن أي رؤيا يقصد. كان الشيخ البسطامي يحب أن يتصور أستار الكعبة، وحفلة احتراق إبليس، ثم حصار بنات الملائكة للشيطان. لا يوجد أحد يتحكم بالشياطين مثل العذراء الطاهرة. ثم أضاف الشاب وهو في مكانه على الأرض: اصبر يا أخي.. اصبر..

وانتفض قليلا. لا شك أنه في طور التحضير للرؤيا. ينتظر صوت سنابك الحصان، وهي تطرق الأرض من بعيد، ولكن هيهات. ربما لن يحصل ذلك أبدا. في تلك اللحظات عبرت أشباح آدمية الرواق. لم تكن الكتلة البشرية التي مرت تلبس نعالها لذلك شاهد الشقوق الدامية في الأقدام وقد تركت بصمات حمراء ووردية تحت شعار الحلاج على السفود. لقد جاؤوا بلا ريب من درب الإيمان المحفوف بالصعاب والمحن. وكان نسناس صغير يمشي خلف الجماعة بهدوء وتهذيب. ولاحظ كيف ينسحب ذيله من ورائه على أرض الدهليز، كأنه يجر فضل ردائه. ثم استيقظ الشاب من محاولته لبلوغ الرؤيا، وبدأ يجادل نفسه قائلا: ولماذا يجب أن أتيمم صعيدا طيبا. وفي وادي الجنة عسل وأنهار من زعفران؟.

وعلم ابن يعيش أن الرجل يستشير ملائكته. ثم رأى حبات من العرق وهي تنحدر من جبينه. وحين عمد ابن يعيش إلى النهوض بعد أن نفد صبره تمسك الشاب بردن ثوبه وقال له: أستحلفك بالعزيز الجبار أن تصبر. البلوغ وشيك..

وردد الكلمة الأخيرة عدة مرات. كان يهمس بها كأنه يقترب من حدود زمنه. أو أن الصورة التي في الذهن على وشك أن تنبلج. فهو يستعد لحمل العصا وخياطة الرقعة في ثيابه وتعليق الركوة حتى تتدلى من رقبته مثل جرس في عنق دابة تسعى. ورغما عن أنفه ودون تقدير للعواقب امتثل لتوسلاته. ثم بعد فترة قارب أن يغفو لو لا أن كيروسين الفانوس انتهى وخيم ظلام دامس. وهنا اتسعت رقعة الشك في قلب ابن يعيش فتساءل: هل مولاي هنا حقا؟.

وينتهي هذا الجزء من السيرة بعبارة (تم بعونه تعالى). ولكن السؤال يبقى من غير إجابة: ما حظ ابن يعيش في لقاء خاله والالتحاق به؟..

- ج -

لم تشف المخطوطة غليلي. كانت المعايب كثيرة. خذ مثلا البسطامي. نحن نعلم أنه مات سنة 261 هـ، ولكن لم تشتهر سمعة الحلاج إلا بعد 290 هــ. فمن أين أتى الرواق المسى باسمه؟؟. القفز من فوق ثلاثة عقود يحتاج لمعجزة. ولأجد تفسيرا يقبله البشر لم يكن أمامي غير دار الكتب. ارتديت معطفي، ولم أضع ربطة العنق، فهي آخر شيء يمكن أن أعتاد عليه. لا أحبها. أتصورها حبل مشنقة. كانت الصالة خامدة. باستثناء تيار هواء يأتي من مروحة تئن وهي تدور دورات لامتناهية وعبثية. ثم وجدت مخطوطة بعنوان (تأليف الأليف في حياة وممات ابن يعيش). وهي مجموعة أوراق. ليست أصلية بل صورة فوتوكوبي. محفوظة في إضبارة من ورق البولي إيتلين أو السيلوفان السميك، ولناسخ اسمه نوفرة. وكنت أعلم أنه من القرن الثاني عشر، يهذب المدونات الجاهزة، بمعنى أنه يرتب الأحداث حسب التسلسل أو حسب الموضوع. ويمكن أن تقول هو يبوب ما لديه. حملت رزمة الأوراق وانتقيت طاولة نائية. وبدأت أقلب فيها.

بعد (بسم الله الرحمن الرحيم - رب يسر)، بدأ المؤلف مع رحلة ابن يعيش وما فيها من رموز. واعتبر أنها معراج المشتاق من مقام أدنى لمقام أعلى. ثم اضطرب خطه وهو يصف الرواق وابن منصور (اسم الشاب)، ثم انتقل إلى جماعة من السابلة تعدو بسرعة وفي مقدمتهم رجل قصير القامة يستجير بصوت مرتفع قائلا: الغوث.. الغوث..

وهنا (حسب كلام نوفرة) نهض ابن يعيش ليرى ماذا يجري، وتبع هذه القافلة الصغيرة، ثم انتبه أنه عاد إلى الباحة الخارجية، نفس النقطة التي دخل منها. وكانت هناك مناوشات بين فريقين. وشاهد بعض السيوف التي تقطر بالدم. ثم التقى برهط يفرزون الأموات. لم يستطع أن يعرف ما هو المعيار. ولكن لاحظ أن لجميع الجثث نسخة واحدة من القسمات. فهي إما على شاكلة يهوذا الإسخريوطي أو لها فوق وجوهها عيون تشبه أوراق زهرة باسمة. وقف في وسط العتمة والبرد محتارا حتى مرت فرقة من الغوغاء فقرر أن يتبعهم. وكانوا جميعا بلا أسلحة وتغلب عليهم صفة الحياد. وبينما كان يسير بينهم سمع أن جيوش ابن أبيه، خاقان الربع الخالي وصلت إلى ضفة النهر. ولأنه لم يطلع على سير الأحداث لم يفهم أهمية هذا النبأ. ولكن لفت انتباهه أن رائحة كراث قوية ومنفرة تأتي منهم. وردد أحدهم وهو رجل له جدائل شعر بيض عبارات بالفارسية أو الرومية، فظن أنه شعوبي. ورد عليه الآخرون بعبارات فيها أسماء مدن مشهورة منها سجستان وخراسان وسوى ذلك...

 ولدى وصولهم إلى فناء آخر تحيط به سلسلة من الأشجار التي تأتي منها روائح غبار الطلع انتبهوا لوجوده بينهم. فتمهلوا قليلا وشرعوا يتبادلون النظرات. واعتقد أنهم يسألون: مع من هو، ومن كفيله..

(ثم تجد في المخطوطة سطورا غير واضحة، وبينها أخطاء نسخية تسيء إلى المعنى، وتقدر بحوالي سبعة سطور. بعد ذلك يأخذ السرد اتجاها مغايرا).

- د -

على مشارف ميدان الليسية شاهد حادث مرور مروع. عربة جياد مقلوبة جراء الاصطدام بهودج. وقد جاءت عربات الإسعاف التي تحمل بيارق مخططة لنقل المصابين. قال له رفيقه: هذا هو شأن المدينة منذ شهور بعد قرار ابن أبيه بالانفصال. ولم يتابع. ترك لفطنة ابن يعيش أن يتكهن بالباقي. لم يفت الحادث في عضد الرجلين، وتابعا حتى ميدان الديمومية، وكانا طوال الطريق يغذان المسير إلى النهر. في أول نقطة من الميدان توجد شجرة نخيل، وفي بعض أنحائه رجال اندثرت معالم وجوههم، وصارت أشبه بدنانير ممسوحة لا نقوش عليها. وعكف بعضهم على تكفين أمواتهم، وفي نفس الوقت لم يكف آخرون، لهم أحجام غريبة، عن إنشاد الترانيم والصلوات. لم يفهم ابن يعيش سرهم.. ترى ما هذه اللغة، ومع من يتواصلون. ولكن لم تسنح الفرصة للاستفسار. لقد كانوا يكفنون الموتى بسرعة ثم يدحرجونهم على الأرض بطريقة براميل الزيت أو براميل ثلج الصين. وتوجب عليه هنا أن يتفادى النظر المباشر في عيونهم. لقد سمع بالنصيحة حتى قبل أن يدخل من مشارف المدينة. هنا كل شيء مباح ما عدا تلاقي الأنظار. فهي إشارة للبصاصين فقط. وفي نهاية الميدان لاحظ وجود نار وقدور فارغة مع ثلاثة أو أربعة خيول بسروجها. وفي أعقاب ذلك بمقدار ربع فرسخ امتد درب رفيع وغامض. ويلفه الدخان الذي يأتي من بساتين تحترق. قال له الشيخ بغرض التوضيح: هذا هو درب الغائب. ومنه يبدأ درب العارفين.

ومن حسن حظه استطاع أن يتلمس وجود بقايا سور قديم، سور أصفر، لا تعرف ماذا وراءه.. القفار أم العمران. أرض شجر الصوف أم وادي السلام. كانت هنا شتى الاحتمالات واردة، لذلك استند على السور قليلا، والتقط أنفاسه. وشرع يفكر. متى يصل إلى أبي يزيد.. يفضل قبل طلوع النهار، لأن هذه المتاهة من الطرقات والمفاجآت قد تكشف أسراره، لو أشرقت الشمس، وربما تكتب عليه الضياع....

- هـ-

في درب الحيات خرج على ابن يعيش ورفيقه قاطع طريق وأخبرهما بلهجة ودية ورقيقة: أن الثغرة التي تقود للنهر مسدودة. ثم التفت إلى الشيخ وقال: ألا تلاحظ كيف المراكب تشتعل الآن على الضفة هناك. ألا تشم رائحة الدخان.

وقبل أن يتأكد ابن يعيش مما يحصل سمع صهيل جياد أصيلة تقترب. كانت بالعدد ثلاثة. وركابها مدججون بالسلاح.. خناجر قصيرة مع جعب سهام، وقد مروا من أمامهم دون تحية.

سأل الشيخ: ومن هؤلاء..

فقال قاطع الطريق: إثنان من حرس الحدود الداخلية والباقي ساعي البريد.

كان الجند قد رفعوا الحواجز بين الأحياء والمناطق. وأصبح التنقل يحتاج أحيانا لإذن مرور كأنك تعبر بين الأمصار. ثم عاد قاطع الطريق لسابق حديثه ونصحنا بعدم الاقتراب. بسبب الاشتباكات والاحتفال بجلوس السلطان على العرش.

وبالفعل كانت أبراج القصر تتلألأ بانكسار ألسنة اللهب، ورأى ابن يعيش الحراس واقفين وشاكي السلاح. وكانت الألعاب النارية تشق طريقها حتى عنان الفضاء. وسمع قاطع الطريق يضيف بصوت حنون: عما قليل سوف يعبر مشاة ابن أبيه إلى دار الحكومة.

واستكمل ابن يعيش المعنى في ذهنه: سيستفيدون من ظروف الاحتفال والظلام المخيم، وربما يلقون القبض على بايزيد. وهكذا لا يبقى أمامهم غير الحصن الأخير.

ثم هبت من الضفة المعاكسة نسمة هواء حارة، وسمع الشيخ يودع قاطع الطريق ويدعو له بالتوفيق. ماذا يدعو قاطع الطريق للتعاطف مع المنشقين. ربما هو الاتفاق ضد القانون. كان الظلم الفادح وجباية المكوس بلا عدالة وراء أول شرارة للفتنة.

وبعد أن اختفى اللص بين سحب الدخان الذي لف الأرجاء، قرر ابن يعيش أن لا يواصل هذا الإسراء الليلي. لقد كانت توجد بعد كل خطوة مصيبة، وفي كل منعرج تترصده المكائد. وعزم أن يختار مكانا مناسبا ليكتب لأبي يزيد رسالة مفصلة. ثم ينتظر أوبة ساعي البريد وحرس الحدود ويسلمها لهم باليد. وعلى الفور ودع بدوره الشيخ، ثم نشر القرطاس، وشرع يبحث في جيوبه عن يراع مسنون....

***

صالح الرزوق

......................

* الفصل الأول من قصة طويلة بهذا العنوان. صدرت بمجموعة عام 2011. واستولى  المسلحون على النسخ عند  أبواب حلب. ولاحقا وصلتني من المطبعة 23 نسخة فقط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم