صحيفة المثقف

الأشياء التي كانوا يحملونها

علي القاسميبقلم الكاتب الأمريكي : تيم أوبراين

ترجمة: علي القاسمي


 

كان الملازم الأوَّل جيمي كروس يحمل رسائل من فتاةٍ اسمها مارثا، وهي طالبة في السنة الثالثة بكلية سباستيان ماونت في مدينة نيوجرسي. ولم تكُن هذه الرسائل غراميّة، ولكنّ الملازم كروس كان يراوده أمل، ولهذا فقد احتفظ بها مطويّة في غلاف بلاستيكيّ في قعر جرابه التي يحمله على ظهره. وفي آخر المساء، وبعد السير طوال النهار، كان يحفر خندقه، ويغسل يدَيه في مقصف المعسكر، ويفتح الرسائل، ويمسكها بأطراف أنامله، ويمضي آخر ساعة من ساعات النهار في التخيُّل. كان يتخيَّل القيام برحلات غراميّة معها في الهواء الطلق على سفوح الجبال المغطاة بالثلوج في منطقة نيوهامشاير. وكان يمسُّ بشفتيه أحياناً ثنيات ظروف الرسائل، لأنّه يعرف أنّها كانت قد لامست ذلك الموضع بلسانها. وأكثر من ذلك، كان يريد من مارثا أن تحبّه كما أحبّها، ولكنَّ الرسائل في معظمها مجرد دردشة ومراوغة في موضوع الحب. كانت عذراء، ويكاد يجزم بذلك. وكانت تدرس الأدب الإنجليزيّ في الكُلِّيَّة، ولهذا فقد كتبت بأسلوب أخّاذ عن أساتذتها، وزميلاتها في القسم الداخليّ، والامتحانات الفصليّة، وعن احترامها العميق للشاعر تشوسر ومحبّتها العظيمة للروائيّة فرجينيا وولف. وكانت غالباً ما تستشهد بأبياتٍ شعريّة، ولم تتطرَّق إلى الحرب بتاتاً، ما عدا قولها: اعتنِ بنفسك، يا جيمي. وكان وزن الرسائل عشرة أونسات. وكانت مذيَّلة بعبارة " مع المحبّة، مارثا"، ولكنَّ الملازم كروس فهم " مع المحبة" على أنّها مجرد عبارة توضع عادةً في ختام الرسائل، ولا تعني ما كان يتخيّل أحياناً أنّها تعني. وعند الغسق، كان يعيد الرسائل بعناية إلى جرابه، وينهض ببطء، وهو شارد البال نوعاً ما، ويتحرّك بين جنوده متفقِّداً، ثمَّ عندما يهبط الظلام يعود إلى خندقه، ويراقب الليل، ويتساءل عمّا إذا كانًت مارثا عذراء.

وكانت الأشياء التي يحملونها تحتّمها الضرورة. ومن بين الضرورات، أو ما يقرب من الضرورات، فتّاحات العلب ب 38، وسكاكين الجيب، وأقراص الحرارة، والساعات اليدويّة، وقطع الشكولاتة، وبطاقات التعريف، ودهان إبعاد الناموس، والعلك، والسجاير، وأقراص الملح، ولفّات الضمادات، والقدّاحات، وعلب الكبريت، وعلب فيها إبر وخيوط للخياطة، وأذون دفع المرتبات العسكريّة، ودفاتر التموين، وقنينتان أو ثلاث من قناني الماء البلاستيكيّة. ويتراوح مجمل وزن هذه الأشياء بين خمسة عشر وعشرين رطلاً، حسب عادة الواحد منهم أو قدرة جسمه على الاستهلاك. فهنري دوبن، الذي كان رجلاً ضخماً، يحمل مؤونةً إضافيّة، إذ كان مغرماً بتناول الخوخ المعبَّأ بعُلب مليئةٍ بالعسل مع الكعك. وكان ديف جنسون، الذي يهتم بالبيئة الصحيّة، يحمل معه فرشاة أسنان ومعجون أسنان، وعدّة قوالب صغيرة من الصابون بحجم صابون الفنادق، كان قد سرقها من فندق في مدينة سدني بأستراليا. وكان تيد لافندر، العصبيّ المزاج، يحمل معه حبوباً مهدِّئة، إلى أن أصابته طلقةٌ في رأسه خارج قرية ( ثان كهي) في منتصف شهر أبريل/نيسان. وكانوا جميعاً يرتدون، بالضرورة، خوذات فولاذيّة تزن كلُّ واحدة منها خمسة أرطال، بما في ذلك بطانتها الداخليّة وشبكة التمويه الخارجيّة. وكانوا يرتدون الستر والسراويل المعتادة، وقليل منهم من كان يرتدي الملابس الداخليّة. وكانوا ينتعلون أحذية خاصّة تزن 1,2 رطلاً. وكان ديف جنسون يحمل ثلاثة أزواج من الجوارب، وعلبة من مسحوق الدكتور شول، لحماية القدَمين من التشقُّق. وكان تيد لافندر يحمل معه، حتّى يوم مقتله، ستة أونسات أو سبعاً من المخدِّرات، التي كانت بمثابة ضرورة بالنسبة إليه. وكان ميتشيل ساندرز يحمل معه عدداً من أكياس العازل. وكان نورمان بوكار يحمل دفتر مذكرات، ويحمل رات كيلي كُتُباً فكاهيّة. أما كيوا، وهو مسيحيّ معمدانيّ متديِّن، فقد كان يحمل نسخةً مصوَّرة من الإنجيل أهداها له والده، الذي يعلّم الإنجيل في كنيسة بمدينة أوكلوهوما. وللوقاية من النحس وسوء الطالع، كان كيوا يحمل في نفسه ارتياب جدَّته في الرجل الأبيض ويحمل بلطة الصيد التي ورثها عن جدّه. للضرورة أحكام. ولمّا كانت الأرض مليئة بالألغام والفخاخ المتفجِّرة، فقد كان من المحتَّم على كلِّ رجل أن يرتدي سترة واقية تزن 7، 6 أرطال، ولكنّها تبدو أثقل في الأيام الحارة. ولأنَّكَ يمكن أن تموت بسرعةٍ خاطفة، فقد كان على كلِّ رجلٍ أن يحمل معه ضمادة كبيرة واحدة على الأقل، يضعها عادةً في شريط الخوذة ليتناولها بسهولة. وبسبب برودة الليل ورطوبة الرياح، فإنَّ كلَّ واحد منهم كان يحمل معطفاً مطريّاً بلاستيكيّاً أخضر يمكن أن يستعمله كمعطف للمطر أو ملاءة يفرشها على الأرض أو خيمة مؤقَّتة. وكان ذلك المعطف وبطانته يزن رطلين، ولكنَّ كلَّ أونس فيه يستحق الحمل، ففي شهر أبريل/ نيسان مثلاً، عندما قُتل تيد لافندر، استعملوا معطفه البلاستيكيّ لتكفينه، وحملوه عبر حقول الأُرز، ثم رفعوه إلى الهليكوبتر التي أخذته بعيداً.

كانوا يسمّون تلك الأشياء التي يحملونها بـ "الحدبة". وعندما يحمل أحدهم شيئاً فإنّما كان يضعه على "حدبته". وعندما كان الملازم جيمي كروس يحمل حبّه لمارثا وهو يتسلَّق التلال ويخوض المستنقعات، فإنّه كان يضعه على "حدبته". وكانت "الحدبة" تعني في مفهومهم العبء الذي يرزح تحته الفرد.

كان كلُّ واحد منهم يحمل في "حدبته" صوراً فوتوغرافيّة. فكان الملازم كروس يحمل في محفظته صورتَين لمارثا، كانت أُولاهما قد التُقطِت بآلة كوداك سريعة الإخراج ووقّعت عليها بعبارة "مع المحبة"، على الرغم من أنّه كان يعرف أنَّ العبارة لا تعني ذلك بالضبط. وكانت تبدو في الصورة الأولى وهي تقف مستندة إلى جدار حجري. وكانت عيناها بُنِّيتَين ومحايدتَين، وشفتاها منفرجتَين قليلاً، وهي تحدّق مباشرةً في آلة التصوير. وفي الليل، كان الملازم كروس يتساءل أحياناً عن الشخص الذي التقط الصورة لها، لأنّه كان يعلم أنَّ لها أصدقاء، ولأنّه أحبَّها كثيراً، ولأنّه كان بإمكانه أن يرى ظلَّ الشخص الذي التقط الصورة مائلاً على الجدار الحجريّ. وكانت الصورة الثانية قد اقتُطِعت من الكتاب السنويّ لعام 1968 لكُلِّيّة سباستيان ماونت. وكانت لقطة طبيعيّة لها وهي تلعب كرة السلّة للبنات، وتبدو فيها وهي تثني ركبتَيها وتمدُّ ذراعيها لاستقبال الكرة، وبدت راحتا يديها بوضوح، ولسانها متوتر، ووجها يعبّر عن التصميم والمنافسة. ولم يبدُ عليها عرق ظاهر. وكانت تلبس بذلة رياضة قصيرة بيضاء. وبدا له أنَّ ساقيها كانتا، من المؤكَّد تقريباً، ساقي عذراء، جافَّتَين وبلا شعر، والركبة اليسرى منحنية وعليها يستند وزن كاملِ جسمها الذي يزيد بقليل على المائة رطل. وتذكّر الملازم كروس أنّه لمس تلك الركبة اليسرى. كانت صالة السينما آنذاك مظلمة، وكان عنوان الشريط (بوني وكلايد)، وكانت مارثا ترتدي فستاناً صوفيّاً، وخلال المشهد الأخير لمس ركبتها، وعندها استدارت نحوه، ونظرتْ إليه نظرة حزينة رزينة جعلته يسحب يده، ولكنَّه سيظل يتذكَّر دوما لمسة الفستان الصوفيّ والركبة التي تحته، وصوت الطلق الناريّ الذي قتل بوني وكلايد، يا للظلم ! وتذكّر أنَّه قبّلها ذلك المساء مودِّعاً عند باب القسم الداخليّ. وفكَّر أنَّه كان عليه أن يفعل شيئاً جريئاً هناك. كان يجب عليه أن يحملها ويصعد بها السلّم إلى غرفتها، ويوثقها إلى سريرها، ويواصل لمس تلك الركبة طوال الليل. كان عليه أن يُقدِم على تلك المخاطرة؛ وكان كلّما نظر إلى الصورة، فكَّر في أشياء جديدة كان ينبغي عليه أن يفعلها في حينها.

ما كان يحمله الجنود تفرضه رتبة الفرد من جهة، وتخصُّصه الميدانيّ من جهةٍ أُخرى. ولمّا كان جيمي كروس ملازماً أوّل وقائد فصيلة، فإنّه كان يحمل معه بوصلة، وخريطة، وكتاب فكِّ الشفرة، ومنظاراً مكبِّراً، ومسدساً من عيار 45 يبلغ وزنه وهو محشو بالكامل 2,9 رطلَين، ومصباحاً يدوياً، وكان يتحمَّل المسؤوليّة عن حياة رجاله.

وكان ميشيل ساندرز، بوصفه مسؤولَ الاتّصال، يحمل جهازَ إرسال واستقبال من نوع ب ر س ـ 25، يبلغ وزنه مع بطاريّته ستة وعشرين رطلاً.

وكان رات كيلي، لكونه مساعداً صحيّا، يحمل حقيبةً من الخيش مملوءة بالمورفين والأمصال وأقراص الملاريا واللفّافات والكُتُب الهزليّة وجميع الأشياء التي ينبغي للمساعد الصحيّ حملها، بما في ذلك "م م" لاستعماله في حالة الإصابات الخطيرة، ويصل الوزن الإجمالي إلى ما يقرب من عشرين رطلاً.

ولمّا كان هنري دوبنز رجلاً ضخماً فإنّه أصبح مدفعيّاً، ولهذا فإنّه كان يحمل رشاشاً من نوع م ـ 60، ووزنه وهو غير محشوٍّ ثلاثة وعشرين رطلاً، ولكنّه كان محشوّاً دائماً تقريباً. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ دوبنز كان يحمل ما بين عشرة وخمسة عشر رطلاً من العَتاد المعبَّأ في أحزمةٍ مشدودةٍ على صدره وكتفَيه.

وكان معظم الأفراد الباقين يحملون البندقيّة الهجوميّة المعتادة م ـ 16. وتزن تلك البندقيّة 7،5 أرطال، وهي غير محشوَّة، و8،2 أرطال وهي محشوَّة بكامل خزّانها الذي يتّسع لعشرين خرطوشاً. وكان الجنود يحملون كذلك ـ طِبقاً لعوامل عديدة مثل طوبغرافيّة الأرض ونفسيّة الفرد ـ ما بين اثني عشر وعشرين خرطوشاً في جراب الطلقات، ما يضيف 8،4 أرطال أخرى على الأقل، أو أربعة عشر رطلاً على الأكثر. كما أنَّهم كانوا يحملون أدوات الصيانة ـ عندما تكون متوفِّرة ـ مثل القضبان والفرشاة الفولاذيّة وقناني زيت التنظيف ل.س.أ. ووزن هذه الأدوات حوالي الرطل. وكان بعض الجنود يحمل قاذفة القنابل م ـ79، ووزنها وهي فارغة 5،9 أرطال، وهي سلاح خفيف بصورة مقبولة باستثناء عتادها من القنابل فهي ثقيلة، إذ تزن القنبلة الواحدة عشرة أونسات. وحمولة كلِّ قاذفة خمس وعشرين قنبلة. ولكن تيد لافندر، الذي كان مرعوباً، كان يحمل معه أربعا وثلاثين قنبلة عندما أُصيب بطلقٍ ناريٍّ وقُتل خارج قرية ثان كهي، وسقط تحت عبءٍ استثنائيٍّ، أكثر من عشرين رطلاً من العتاد، إضافة إلى السترة الواقية والخوذة وحصّته من المؤونة والماء وورق المرحاض والمهدِّئات وبقيّة الأشياء الأُخرى، إضافةً إلى الخوف الذي لا وزن له. كانت حمولة قاتلة. لم ترافق موته أيّة اختلاجات أو ترنحات. فكيوا، الذي رأى ما حصل، قال إنّه كما لو كان يشاهد صخرة كبيرة تهوي، أو كيساً كبيراً من الرمل أو شيئاً من هذا القبيل ـ مجرَّد دويّ أعقبه السقوط ـ وليس كما في الأفلام السينمائيّة حيث يبقى القتيل يترنّح ويقوم بحركات لولبيّة خياليّة كالبخار فوق إبريق الشاي. لا ليس مثل ذلك، قال كيوا، فالمسكين سقط حالاً. دويُّ طلقةٍ وسقوط.، ولا شيءَ آخر. وكان نهاراً مشرقاً في منتصف شهر أبريل/نيسان. وشعَرَ الملازم كروس بالألم. وألقى اللوم على نفسه. وانتزعوا مؤونة لافندر وعتاده، وجميع الأشياء الثقيلة، وقال ران كيلي إنَّ من الواضح أنَّ الرجل ميت، واستخدم ميشيل ساندرز جهاز إرساله ليبلّغ عن مقتل أحد الجنود ويطلب هيلكوبتراً لنقله. ثم لفّوا لافندر بمعطفه المطريّ البلاستيكيّ، وحملوه إلى بقعة أرض يابسة، وأقاموا الحراسة حوله، ثم جلسوا يدخِّنون مخدِّرات الرجل الميّت حتّى وصلت الهيلكوبتر. وانطوى الملازم كروس على نفسه. وتخيَّل وجه مارثا الناعم الطريّ، وفكّر أنَّه يحبّها أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، أكثر من رجاله. ولأنَّه يحبُّها كثيراً ولا يستطيع أن يتوقَّف عن التفكير فيها، فقد مات تيد لافندر الآن. وعندما وصلت الزوبعة الترابيّة، حملوا لافندر إلى متن الهيلكوبتر. وبعد ذلك أحرقوا قرية ثان كهي. وساروا حتّى حلول الظلام، ثم حفروا خنادقهم، وفي تلك الليلة ظلَّ كيوا يشرح كيف كان القتيل هناك، وكيف تمَّ الأمر بسرعة، وكيف سقط المسكين مثل كتلة إسمنتيّة. قال دويٌّ وسقوط، مثل الإسمنت.

وكانوا يحملون، بالإضافة إلى الأسلحة الثلاثة المعتادة ـ الـ م-60 والـ م-16 والـ م-79 ـ ، ما وُجد، أو ما يبدو لهم مناسباً، كأداةٍ للقتل أو للبقاء على قيد الحياة. كانوا يحملون عُلَب الأغذية المحفوظة. وفي أوقاتٍ مختلفة، وفي أوضاع مختلفة، كانوا يحملون م-14 وس ا ر-15، وبنادق سويديّة من نوع ك، وبنادق زيتيّة، ورشاشات أ ك-47 كانوا قد غنموها و(تشي كومز) وآر بي جي، وبنادق سيمونوف، ورشاشات عوزي من السوق السوداء، ومسدّسات سميث وداسون من عيار 38، ومدافع (لاو) من عيار 66مم، وبنادق رماية، وكاتمات صوت، وسكاكين، وحراب بنادق، ومتفجِّرات بلاستيكيّة من نوع س –4. وكان لي سترونك يحمل مقلاعاً، ويدعوه بآخر ما يلجأ إليه من الأسلحة. وكان ميشيل ساندرز يحمل قبضة فولاذيّة. وكان كيوا يحمل بلطة جدِّه المُزيَّنة بالريش.  وكان كلُّ ثالث أو رابع رجل يحمل لُغماً مضادّاً للأفراد من نوع كليمور ـ يزِن مع جهاز إطلاقه 3,5 أرطال. وجميعهم كانوا يحملون قنابل انشطاريّة ـ وزن كلِّ واحدة منها أربعة عشر أونساً. وجميعهم كانوا يحملون قنابل دخان ملوَّن من نوع م-18، واحدة على الأقل لكلِّ فرد ـ وزنها أربعة وعشرين أونساً. وكان بعضهم يحمل قنابل مسيلة للدموع، وبعضهم يحمل قنابل فسفوريّة. كانوا يحملون جميع ما يستطيعون حمله، وكان بعضهم يحمل خوفاً خفيّاً من القوّة الرهيبة للأشياء التي كانوا يحملونها.

وفي الأسبوع الأوَّل من شهر نيسان/ أبريل، وقبل أن يُقتَل لافندر، كان الملازم جيمي كروس قد تلقَّى من مارثا تعويذة لجلب الحظِّ على شكل حصاة بسيطة، تزن أونساً على الأكثر. وهي ناعمة الملمس، ولونها أبيض حليبيّ وفيها نقط برتقاليّة وقرمزيّة اللون، وشكلها بيضويّ، مثل بيضة مصغَّرة. وكتبت مارثا في الرسالة المُرفقة قائلةً إنّها وجدت تلك الحصاة على شاطئ جرسي، تماماً في الموضع الذي تلامس فيه المياهُ الأرضَ خلال المدِّ، حيث تصل جميع الأشياء إلى الشاطئ في وقتٍ واحد لكنّها منفصلة أيضاً. وكتبتْ تقول إنّ حالة وصول الأشياء مجتمعة ولكنّها متفرقة هي التي أوحت إليها بالتقاط الحصاة وحملها في الجيب الملاصق لصدرها عدّة أيام، كانت تبدو فيها بلا وزن، ثم أرسلتْها بالبريد الجويّ إليه بمثابةِ رمزٍ لمشاعرها الحقيقيّة نحوه. وقد وجد الملازم كروس في ذلك شيئاً رومانسيّاً. ولكنّه ظلَّ يتساءل عن ماهيّة مشاعرها الحقيقيّة بالضبط، وما الذي كانت تعنيه بالمتفرِّقة ولكن المجتمعة. وظلَّ يتساءل كيف أنّ الأمواج دخلت في الموضوع في ذلك المساء على شاطئ جرسي عندما رأتْ مارثا الحصاة وانحنتْ لالتقاطها. وتخيّلها حافية القدمَين. كانت مارثا شاعرة، ولها رهافة حسِّ الشعراء، ولا بُدَّ أنَّ قدمَيها كانتا مسمَّرتَين وحافيتَين، وأظافرها بدون أصباغ، ونظراتها باردة وقاتمة مثل المحيط في شهر آذار/ مارس، وراح يفكِّر، على الرغم من الألم الذي يسبِّبه له ذلك التفكير، في الشخص الذي كان يرافقها ذلك المساء. وتخيَّلَ ظلَّين يتحركان على طول شريط الرمل حيث تكون الأشياء مجتمعة ولكنّها متفرقة كذلك. وكان يعرف أنَّها مجرّد غيرة عمياء، ولكنَّه لا يستطيع لها دفعاً. لقد كان يحبّها حبّاً جمّا. وخلال السير، في الأيام الأولى الحارّة من شهر نيسان/ أبريل، كان يحمل الحصاة في فمه، ويديرها بلسانه، فيحس بأملاح البحر ورطوبته. ويهيم فكِرُهُ. وكان يصعب عليه تركيز انتباهه على الحرب. وفي مناسبات كان يصيح برجاله طالباً منهم أن ينتشروا خارج الصف، وأن يفتحوا عيونهم، ولكنّه سرعان ما ينزلق إلى أحلام اليقظة، فيتخيّل نفسه يمشي حافي القدمَين على شاطئ جرسي، مع مارثا، وهو لا يحمل شيئاً بتاتاً. ويشعر بنفسه وهو يرتفع، فالشمس والأمواج والنسائم العليلة كلّها حبٌّ وخفّة.

ما كانوا يحملونه تقرِّره طبيعة المُهمّة.

فعندما كانت المُهمّة تقودهم إلى الجبال، كانوا يحملون معهم ناموسيات البعوض، وعلب الكبريت، والخيش، وكمّيات إضافيّة من العصير.

وإذا كانت المُهمّة تبدو محفوفة بالمخاطر بشكلٍ خاصٍّ، أو أنّها تشتمل على المرور بمكانٍ يعرفون عنه أنَّه سيئ، فإنَّهم يحملون معهم كلَّ شيء يستطيعون حمله. وفي حقولٍ معيَّنةٍ مليئةٍ بالألغام، حيث الأرض مغطاة بأحراشٍ كثيفة، فإنَّهم يتناوبون على حمل جهاز كشف الألغام الذي يبلغ وزنه ثمانية وعشرين رطلاً. وكان هذا الجهاز بسمّاعتَيه ومجسَّته الكبيرة يشكِّل عبئاً ثقيلاً على أسفل الظهر والكتفَين، ولكنَّهم كانوا يحملونه على أيِّ حال، لتأمين سلامتهم من جهة، ولِوَهْمِ تأمين سلامتهم من جهة أخرى. وعندما كانوا ينصبون كميناً، أو أثناء المهمّات الليليّة، كانوا يحملون معهم معدّات صغيرة غريبة. وكان كيوا يأخذ  معه دائماً إنجيله وخفَّين ناعمَين لا يُحدِثان صوتاً. وكان ديف جنسون يحمل معه فيتامينات مقوِّية للبصر غنيّة بمادة الكاروتين. وكان لي سترونك يحمل معه مقلاعه مُدَّعياً أنَّه بمثابة تعويذة تقيهم من أيّة مشكلة. وكان رات كيلي يحمل البراندي والسجائر. وكان تيد لافندر، وحتّى اليوم الذي قُتِل فيه، يحمل جهاز الإنارة الليليّة، الذي يزن 6،3 أرطال بما في ذلك حمّالته المصنوعة من الألمنيوم. وكان هنري دوبنز يحمل لباس صديقته الداخليّ ملفوفاً على رقبته كمهدِّئ له. وكانوا كلّهم يحملون أشباحاً معهم. وعندما يحلُّ الظلام، يتحرَّكون خارج الطابور، عبر المروج ومزارع الرز، ويذهبون إلى مكامنهم حيث يضطجعون هنالك ساكنين ويمضون الليل كلَّه في الترقب.

وكانت بعض المُهمّات أكثر تعقيداً وتتطلَّب معدّات خاصّة. ففي منتصف نيسان/ أبريل، كانت مهمَّتهم البحث عن الأنفاق المبنيّة في منطقة " ثان كهي "  جنوبي " شولاي " وتدميرها. ولكي يفجّروا تلك الأنفاق، كان عليهم أن يحملوا كُتلاً من المتفجِّرات عالية المفعول تزن الواحدة منها رطلاً، فيحمل كلُّ واحد منهم أربع كتل، بحيث يكون المجموع الكلِّيّ ثماني وستين كتلة.  ويحملون الأسلاك، وأجهزة التفجير، والنابضات التي تعمل بالبطاريات. وكان ديف جنسون يضع سدادات على أذنيه. وقبل أن يفجّروا الأنفاق، كانت الأوامر العُليا غالباً ما تصدر بتفتيش تلك الأنفاق. وكانوا يعدّون تلك الأوامر في عداد الأخبار السيِّئة، ولكنّهم كانوا، بشكلٍ عامٍّ، يهزّون أكتافهم وينفِّذونها. ولما كان هنري دوبنز رجلاً ضخماً، فإنه كان يُعفى من مهمّة تفتيش الأنفاق. أما الآخرون فإنّهم يلجؤون إلى القرعة. ولأنَّ الفصيلة كانت تتألَّف من سبعة عشر جنديّاً، فإن مَن يسحب الرقم 17، كان عليه أن يتخلّص من مؤونته وعتاده، ويزحف في النفق بإدخال رأسه أوَّلاً وهو يحمل مصباحاً يديويّاً ومسدس الملازم كروس من عيار 45. ويتحلَّق بقية الرجال حول مدخل النفق للحماية. وكانوا يجلسون أو يركعون متنصِّتين إلى الأرض تحتهم، وظهورهم إلى مدخل النفق، وهم يتخيّلون عناكب وأشباحاً، أو أيِّ شيءٍ آخر يمكن أن يوجد داخل النفق. ويبدو لك النفق ضيّقاً ويمسي المصباح الذي تحمله ثقيلاً بصورة لا تُصدَّق، والرؤية في النفق ضيّقة، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وأنتَ تحبو على مؤخَّرتك ومرفقيك، وتجتاحك الهواجس ـ فتجد نفسكَ قلِقاً بسبب أشياء غريبة ـ هل سينطفئ مصباحك؟ وهل تحمل الجرذان داءَ الكلَب؟ وإذا صرختَ فإلى أيّ مدى يصل صوتكَ؟ وهل يسمعكَ رفاقكَ؟ وهل لديهم الشجاعة لجرّك إلى الخارج؟ والانتظار خارج النفق أسوأ أحياناً من دخول النفق ذاته، وذلك لاعتبارات معيّنة، مع إنّها ليست عديدة. فالخيال يقتل.

وفي 16 نيسان/ أبريل، عندما سحب لي سترونك الرقم 17، ضحك وتمتم بشيء ثم نزل إلى النفق بسرعة. وكان ذلك الصباح حارّاً والهواء ساكناً تماماً. وقال كيوا: هذا لا يبشِّر بخير. ونظر إلى فتحة النفق. ثم تحوَّلت نظراته إلى قرية (ثان كهي) عبر حقل أُرز جاف. لا شيءَ يتحرّك. لا السحب ولا الطيور ولا الناس. وبينما كان الجنود ينتظرون، كانوا يدخنون ويشربون عصير (الكول أيد)، دون أن يتكلَّموا كثيراً، وهم يشعرون بالأسى من أجل لي سترونك، ولكنّهم أيضا يشعرون بالحظّ الذي حملته القرعة لهم. قال ميشيل ساندرز: تربح شيئاً وتخسر شيئاً آخر، وأحياناً تقبل بزخَّة مطر. وكان الجنود مُتعَبين ولم يضحك أحد منهم لهذه النكتة.

وكان هنري دوبنز يأكل قطعة شوكولاته استوائيّة. وتناول تيد لافندر قرصاً مسكِّناً وذهب بعيداً ليتبوّل.

وبعد خمس دقائق تحرَّك الملازم كروس إلى النفق، وانحنى، وحدَّق في الظلام. وفكَّر في المتاعب ـ ربَّما انهيار. ثمَّ فجأةً، وبِلا إرادة منه، أخذ يفكر في مارثا. ضغوط وشقوق، انهيار سريع، وسيدفن كلاهما تحت ذلك الثقل. حبٌّ عنيف جامح.  وحاول، وهو راكع يتأمَّل النفق، أن يركّز ذهنه على لي سترونك والحرب وجميع المخاطر، ولكنَّ حبَّه كان كاسحاً، وشعر بأنَّه مشلول، وكان يريد أن ينام داخل رئتيها ويتنفَّس دمها ويذوب فيها. كان يريدها أن تكون عذراء وليست عذراء، في الوقت نفسه. كان يريد أن يعرفها جيّداً، يعرف أسرارها الحميمة ـ ولماذا الشِّعر؟ ولماذا هي حزينة جدّاً؟ ولماذا تلك القتامة في عينَيها؟ ولماذا هي وحيدة؟ قد لا تشعر بالوحدة، ولكنّها تكون وحدها وهي تركب دراجتها في الحيِّ الجامعيّ أو جالسة وحيدة في مطعم الكُلِّيّة. وحتّى عندما ترقص، فهي ترقص بمفردها، وتلك الوحدة هي التي ملأته بالحبّ. وتذكَّر أنَّه أخبرها بذلك ذات مساء. وكيف هزَّتْ رأسها وأشاحتْ ببصرها بعيداً عنه، وكيف، بعد ذلك عندما قبّلها تلقَّتْ قُبلته دون الردِّ عليها بمثلها، وكانت عيناها مفتوحتَين متّسعتَين، وما كانتا خائفتَين، وليستا مثل عيون العذارى، وإنّما عينان محايدتان بلا مشاعر.

وحدّق الملازم كروس في النفق. ولكنَّه لم يكُن هناك. كان مدفوناً مع مارثا تحت رمل أبيض على شاطئ جرسي. وكانا متلاصقَين، وكانت الحصاة التي في فمه هي لسانها. وابتسم. وبصورةٍ غامضة، أخذ يدرك أنَّ النهار كان هادئاً، وحقول الأُرز واجمة، ومع ذلك، فإنّه لم يستطِع أن يجعل نفسه قلِقاً بشأن القضايا الأمنيّة. كان كيانه وراء ذلك. كان فتىً في الحرب، وفي الحبّ. كان عمره مجرّد اثنتين وعشرين سنة. ولا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر بهذا الصدد.

وبعد لحظاتٍ، خرج لي سترونك زاحفاً من النفق، مكشِّراً، مُتَّسخاً، ولكنّه حيّ. فهزَّ الملازم كروس رأسه وأغمض عينَيه في حين أخذ الآخرون يطبطبون على ظهر سترونك ويروون النكات عن القيام من بين الأموات.

وقال رات كيلي، الديدان، الخروج من القبر، جثة ملعونة تعود إلى الحياة.

وضحك الرجال، وشعروا بارتياح كبير.

وقال ميتشيل ساندرز، إنّها مدينة أشباح.

وأطلق لي سترونك صوتاً مُضحِكا مقلِّداً الأشباح، نوعاً من الأنين، ومع ذلك فقد كان أنيناً مرِحاً. وفي تلك اللحظة بالضبط، عندما أطلق سترونك صوت ذلك الأنين الفرِح، حينما قال أهوووو، في تلك اللحظة بالضبط أُصيب تيد لافندر برصاصة في رأسه وهو عائد من مركز الحراسة. وسقط أرضاً وفمه مفتوح. وقد تهشَّمت أسنانه. وظهرت كدمة زرقاء تحت عينه اليسرى، واختفتْ عظمةُ الخدِّ. وقال رات كيلي، اللعنة، الرجل ميّت. وظلَّ يكرِّر قوله، الرجل ميّت، وبدا المعنى عميقاً ـ الرجل ميّت، أعني حقيقةً ميّت.

ما كانوا يحملونه من أشياء تفرضه الخرافة إلى حدٍٍّ ما. فالملازم كروس كان يحمل حصاته التي تجلب له الحظَّ. وكان ديف جنسون يحمل قدمَ أرنب. وكان نورمان باوكر، الذي هو في العادة إنسان لطيف، يحمل إبهاماً أهداه إليه ميتشيل ساندرز. وكان ذلك الإبهام بُنِّي اللون داكناً وله ملمس مطاطيّ، ويزن أربعة أونسات على الأكثر. وكان هذا الإبهام قد قُطِعَ من جسد أحد أفراد الفايكونغ، وهو غلام في  السنة الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. وقد وجدوه في قعر أخدود من أخاديد الري، وقد احترق جسده بصورة بشعة والذباب ملء فمه وعينَيه. وكان الغلام يرتدي سروالاً أسود قصيراً ونعلَين. وفي الوقت الذي قُتل فيه كان يحمل جراباً من الرز، وبندقية وثلاثة خراطيش من الذخيرة.

وقال ميتشيل ساندرز، هل تريد رأيي؟ إنّ هناك بالتأكيد مسألةً أخلاقيّة.

ووضع يده على رسغ الغلام الميت. وظلَّ ساكنا هنيهة، كما لو كان يعدّ نبضه، ثم ربت على بطنه، بطريقة ودّيّة تقريباً، واستعمل بلطة كيوا  ليبتر الإبهام.

وسأل هنري دوبنز عن ماهيّة المسألة الأخلاقيّة.

المسألة الأخلاقيّة؟

أنتَ تعرف. الأخلاق.

ولفَّ ساندرز الإبهام بورق المرحاض وسلَّمه إلى نورمان باوكر. لم يسِل دم عند البتر. وبابتسامةٍ على فمه، رفسَ رأس الصبيّ، وشاهد الذباب وهو يتطاير مذعوراً، وقال، هذا يشبه المسلسل التلفزيوني القديم ـ بالادان. خُذ بندقيّته، سنرحل.

وظلَّ هنري دوبنز مطرقا يفكر في الموضوع.

وأخيراً قال، حسناً، لا أرى أيّة مسألة أخلاقيّة.

هذا هو الصحيح.

ابتعدْ عني.

كانوا يحملون معهم قرطاسيّة وأقلام رصاص وأقلام حبر، ودبابيس، ومشاعل، ولفّات من الأسلاك، وشفرات حلاقة، وتبغ للمضغ، وأعواد البخور، وتماثيل صغيرة لبوذا، وشموع، وأقلام تشحيم، والعَلَم الأمريكيّ، وقلّامات الأظافر، ونشرات، وقبّعات مغطّاة بأغصان الأشجار، ومنشورات، وأشياء أُخرى كثيرة. وعندما تصل هيلوكبتر الإمدادات، مرَّتَين في الأسبوع، يحملون منها أطعمة ساخنة محفوظة في علب خضراء، وحقائب واسعة من الجنفاص مملوءة بالبيرة المثلجة وقناني الصودا. وكانوا يحملون حاويات بلاستيكيّة مملوءة بالماء، تتّسع كلُّ واحدةٍ منها لجالونَين. وكان ميتشيل ساندرز يتحمّل أعباء أخرى في الطبخ في مناسبات خاصّة. وكان هنري دوبنز يحمل مُبيد الحشرات، وكان ديف جنسون يحمل أكياسَ رملٍ فارغة يمكن ملؤها في الليل لمزيد من الحماية. وكان لي سترونك يحمل دهاناً لتلويح البشرة. وكانت هناك بعض الأشياء التي يتعاونون على حملها. فقد كانوا يتناوبون على حمل جهاز تشويش المكالمات السريّة منعاً للمتنصِّتين من فهمها، وكان هذا الجهاز من نوع ب ر س –77، ويزن مع بطاريته ثلاثين رطلاً. وكانوا يشتركون كذلك في حمل عبء الذكرى. وكانوا يحملون ما لم يعُد الآخرون يستطيعون حمله. وغالباً ما كان يحمل بعضهم بعضاً، الجرحى أو الضعفاء. وكانوا يحملون الجراثيم المُعدية. وكانوا يحملون لعبة الشطرنج، وكرات السلَّة، ومعاجم فيتناميّة ـ إنجليزيّة، وشارات الرُّتب العسكريّة، ونجمات برونزيّة، وأنواط الشجاعة، وبطاقات بلاستيكيّة طُبعت عليها قواعد السلوك. وكانوا يحملون أمراضاً متعدِّدة من بينها الملاريا والزحار. وكانوا يحملون القمل، والأمراض الجلديّة، والطفيليّات، وأَشنات حقول الأُرز، وأنواعاً أخرى من التعفُّنات والفطريّات. وكانوا يحملون الأرضَ نفسها ـ فيتنام، المكان، التربة ـ ترابٌ ناعم برتقاليُّ اللون يغطّي أحذيتهم وملابسهم ووجوههم. وكانوا يحملون السماء، الجو برمَّته، برطوبته، وبرياحه الموسميّة،  وبنتن الفطريّات وتعفُّنها، جميعها. كانوا يحملون الثقل والرصانة. كانوا يسيرون كالبغال. في النهار، كانوا يواجهون طلقات القنّاصة، وفي الليل كانت تصليهم الرشاشات، ولكن لم تكُن ثمّة معركة. كانت هناك مجرّد مسيرة لا نهاية لها، من قرية إلى قرية، بلا هدف، لا شيء يكسبونه أو يخسرونه. كانوا يسيرون من أجل السير فحسب. كانوا يسيرون بتلكُّؤ، كالبكم، يواجهون الحرارة من دون تفكير، وهم من دم ولحم، مجرّد جنود ما عليهم إلا تحمُّل المشقّات وأداء المهمّات الموكولة إليهم بتسلُّق التلال وهبوطها إلى حقول الأُرز، وعبر الأنهار، ثمَّ الصعود والهبوط مرّةً أُخرى، وهم يحملون أثقالهم على ظهورهم، خطوةً تلو أُخرى، ولكن دون إرادةٍ ولا اختيار، لأنَّ العمل يتمُّ بصورةٍ تلقائيّة، فالمهمة جسديّة، والحرب كلُّها مسألة وضعيّة الجسد وحمل الأثقال، فوضع الحمل على الظهر هو كلُّ شيء، نوع من تمضية الفراغ، وتعتيم الرغبة والذهن والأمل والحسِّ الإنسانيّ. فحساباتُهم بيولوجيّة محضة. ولم يكُن لديهم حسٌّ استراتيجيٌّ أو وظيفيّ. كانوا يفتِّشون القُرى دون أن يعرفوا ما الذي يجب أن يبحثوا عنه، ولا يأبهون لأيِّ شيء، فكانوا يتعثَّرون بجرّات الأُرز، ويفتِّشون الأطفال والشيوخ بحثاً عن السلاح. ويفجِّرون الأنفاق، وأحياناً يُشعلون الحرائق، وأحياناً لا يشعلونها، ثم يصطفّون في طابور ويستأنفون سيرهم نحو القرية التالية، ثم نحو قرىً أُخرى حيث يفعلون الشيء نفسه. كانوا يحملون أرواحهم على راحات أيديهم. وكانت الضغوط عليهم عظيمة، ففي عزِّ الظهيرة وشدّة الحرارة كانوا يخلعون خوذهم وستراتهم الواقية، ويمشون عراة، وهذا شيء خطير ولكنّه يساعد على التقليل من الإجهاد. وكانوا غالباً ما يرمون ببعض الأشياء على طول خطّ سيرهم، لمجرَّد التخفيف من عبئهم، فكانوا يرمون مؤونتهم، ويفجّرون قنابلهم اليدويّة، لا يهمّ، لأنّه عند حلول الليل ستصل طائرة الإمدادات حاملةً الكثير من تلك الأشياء، ثمَّ بعد يوم أو يومين تأتي وهي تحمل كميّات أكبر منها، وبطيخاً طازجاً، وصناديق من الذخيرة، ونظّاراتٍ شمسيّة، وكنزات صوفيّة ـ فقد كانت الموارد والإمكانات هائلة جدّاً ـ وألعاب ناريّة لعيد الاستقلال الأمريكيّ في الرابع من تموز/ يوليو، والبيض الملوَّن لعيد الفصح. إنّه المخزون الحربيّ الأمريكيّ العظيم ـ ثمرات العِلم، ومداخن المصانع، ومعامل حفظ الأغذية وتعليبها، وترسانة هارتفورد، وغابات منيسوتا، ومستودعات الآلات والمكائن، وحقول الذرة والقمح الشاسعة ـ وكانوا يحملون ما يُشبه قطارات النقل، كانوا يحملونها على ظهورهم وأكتافهم ـ وبين جميع خفايا فيتنام، وخباياها، ومجاهلها، كانت هناك حقيقة مؤكَّدة واحدة على الأقلّ وهي أنّهم لا تنقصهم أبداً الأشياء التي يجب عليهم أن يحملوها.

وبعد أن حملت طائرة الهليكوبتر جثمان لافندر بعيداً، قاد الملازم جيمي كروس رجاله إلى قرية "ثان كهي"، فحرقوا كلَّ شيء فيها، وأطلقوا الرصاص على الدجاج والكلاب، ورموا الأَزبال في بئر القرية، وطلبوا لاسلكيّاً من المدفعيّة قصف القرية. ووقفوا يتفرَّجون على الأنقاض، ثمَّ ساروا عدّة ساعات في حرِّ الظهيرة اللاهب، ثمَّ في الغسق، في حين ظلَّ كيوا يشرح لهم كيف مات لافندر، ووجد الملازم كروس نفسه يرتعش.

حاول ألا يبكي، وراح يحفر بآلة شدّ الأسلاك، التي تزن خمسة أرطال، حفرة في الأرض.

وشعرَ بالخجل. وكرهَ نفسه. وكان يحبُّ مارثا أكثر مما يحبُّ رجاله، ونتيجةً لذلك أمسى لافندر في عداد الأموات الآن. وهذا شيءٌ سيحمله معه مثل حصاة في معدته بقيةَ أيام الحرب.

كلُّ ما يستطيع أن يفعله هو الاستمرار في الحفر. كان يستخدم آلة شدّ الأسلاك كما لو كانت فأساً، يقطع بها الأرض، ويشعر بالحبِّ والكره معاً. وبعد ذلك، عندما عمّ الظلام، جلس في قعر خندقه وانخرط في البكاء. واستمر على تلك الحال طويلاً. كان حزيناً لموت تيد لافندر بعض الشيء، ولكنَّ بكاءَه كان في معظمه من أجل مارثا، ومن أجل نفسه، لأنّها كانت تنتمي إلى عالَمٍ آخر، عالمٍ لم يكُن واقعيّاً تماماً، ولأنّها كانت طالبة في السنة الثالثة في كلية ماونت سباستيان في نيوجرسي، شاعرة وعذراء وليست معنيّة بالحرب، ولأنّه أدركَ بأنّها لا تحبُّه ولن تحبَّه أبداً.

وهمس كيوا في الظلام: مثل الإسمنت. أقسم بالله ـ دويٌّ فسقوط. ولا كلمة.

وقال نومان باوكر، لقد سمعتُ ذلك.

ـ أتدري، مثل رجلٍ يبول ويغلق سحّابة سرواله. أُغلقَ قبل أن يغلِق.

ـ حسناً، طيّب، هذا يكفي.

ـ نعم، ولكن كان عليك أن تراه، فالرجل ـ

ـ لقد سمعتُ، يا رجل. الإسمنت. إذن لماذا لا تسكت؟

وهزَّ كيوا رأسه بحزن، ونظر عبرَ الخندق إلى المكان الذي كان فيه الملازم جيمي كراوس يحدّق في الظلام. وكان الهواء ثقيلاً ورطباً. وخيَّم على حقول الأُرز ضبابٌ كثيف دافئ، وكان هناك الهدوء الذي يسبق المطر.

وتأوه كيوا متحسِّراً بعد وهلة.

وقال، ثمّة شيءٌ واحد مؤكَّد. إنَّ الملازم يتألَّم بعمق، أعني أنَّه يبكي بحرقة ـ وكما هو ظاهر من حاله ـ فإنّه لا يتظاهر بذلك أو أيِّ شيء من هذا القبيل. إنّه يتألَّم من هذه المسؤوليّة الثقيلة. فالرجل مهتمٌّ حقّاً.

فقال نورمان باوكر، مؤكَّد.

قُلْ ما تريد. فالرجل مهتمٌّ حقّاً.

نحن جميعا لدينا مشاكل.

ليس لافندر.

فقال باوكر، لا، أظنّ لا. هل تتكرَّم عليّ بشيء؟

أسكتُ؟

إنَّك هنديٌّ نبيه. اصمتْ.

وهزّ كيوا كتفَيه، وخلع جزمته. كان يريد أن يقول شيئاً آخر ليخفِّف عن نفسه ويُقبِل على النوم، ولكنَّه، بدلاً من ذلك، فتح الإنجيل ووضعه تحت رأسه كوسادة.

وجعل الضبابُ الأشياءَ تبدو جوفاء وغير مترابطة. وحاول كيوا أن لا يفكِّر في تيد لافندر، ولكنَّه راح يفكِّر في السرعة التي تمَّ فيها الأمر، فقد سقط ميّتاً، بلا ضجّة، وكان من الصعب الشعور بأيِّ شيء ما عدا المفاجأة. كان الأمر يبدو مخالفاً للدِّين. وكان يتمنّى أن يشعر بحزن عظيم، أو حتّى بالغضب، ولكن يبدو أنّه خال من أيِّ انفعال وأنَّه لا يستطيع أن ينفعل. وكان الشعور الغالب عليه هو السعادة لكونه ما زال حيّا. واستحسن رائحة الإنجيل تحت خدّه، رائحة الجِلد والحبر والورق والصمغ، وأيِّ مواد كيميائيّة أُخرى. واستحسنَ سماع أصوات الليل. وحتّى جسده، كان يحسُّ إحساساً طيّباً، العضلات المتصلِّبة، والإحساس المنغِّص بجسده. إحساسٌ طافٍ. استحسن أنَّه لم يكُن ميّتاً. وأُعجِب كيوا، وهو ممدد في خندقه، بقدرة الملازم جيمي كروس على الحُزن. كان يريد أن يشارك الرجل مصابه وآلامه. كان يريد أن يهتمَّ كما يهتمَّ جيمي كروس. ومع ذلك، فعندما أغمض عينَيه، كان كلُّ ما يستطيع أن يفكر به هو دويٌّ وسقوط، وكان كلُّ ما يستطيع أن يشعر به هو السعادة بخلع جزمته وتكاثُف الضباب حوله. وبالتربة النديّة وبرائحة الإنجيل وبالرائحة المُريحة التي يجلبها الليل.

وبعد لحظة جلس نورمان باوكر في الظلام.

وقال، اللعنة، هل تريد أن تتكلّم؟ تكلّمْ. أخبرني بكلِّ شيء.

انسَ الموضوع.

لا، يا رجل، تكلّمْ، استمر. هناك شيءٌ واحد أكرهه: هنديٌّ صامت.

في معظم الأحيان كانوا يتصرَّفون برباطةِ جأش، بنوعٍ من الكرامة. ومع ذلك، فمن حين لآخر، تأتي أوقاتُ هلع، عندما كانوا يصرخون، أو عندما كانوا يريدون أن يصرخوا ولا يتأتّى لهم ذلك، عندما كانت أعصابهم ترتجف ويئنّون ويغطّون رؤوسهم ويتوسّلون بيسوع المسيح، ويتخبّطون على الأرض، ويطلقون نيران أسلحتهم بصورةٍ عمياء، وينكمشون على أنفسهم مذعورين، وينتحبون ويدعون الله أن يوقِف القصف، ويخرجون عن أطوارهم، وينذرون نذوراً لا يستطيعون الوفاء بها، لا لله ولا لأُمّهاتهم ولا لآبائهم ولا لأنفسهم، طمعاً في البقاء على قيد الحياة. وقد حصل ذلك بأشكالٍ مختلفةٍ لهم جميعاً. وعندما يتوقَّف القصف بعد ذلك، تطرف عيونهم ويختلسون النظر إلى خارج الخندق، ويلمسون أجسامهم، ويشعرون بالخجل، ثمَّ سرعان ما يُخفون خجلهم. ويُجبرون أنفسَهم على الوقوف. وكما لو كانوا في شريط مصوَّر بالحركة البطيئة، يقفون واحداً واحداً، ويعود العالَم إلى منطقه القديم ـ صمتٌ مطبق، ثمّ الريح، ثم ضوء الشمس، ثم الأصوات. إنّه عبءُ البقاء على قيد الحياة. وبعدَ ذلك يقومون بتجميع أنفسهم بارتباك، أوّلاً كلّ واحدٍ بمفرده، ثمَّ في مجموعات، ويصيرون جنوداً مرَّةً أُخرى. ويمسحون ما تسرَّب من عيونهم، ويدقِّقون لضبط الإصابات، وينفضون الغبار عنهم، ويشعلون سجائرهم، ويحاولون أن يبتسموا، ويصفّون حناجرهم، ويبصقون، ويشرعون بتنظيف أسلحتهم. وبعدَ وهلةٍ يهز أحدهم رأسه ويقول، بلا كذب، كنتُ على وشك أن أتبوَّل في سروالي، ويضحك آخر، وهذا يعني أن الأمر كان سيئاً، نعم، ولكن من الواضح أنَّ الرجل لم يتبوَّل في سرواله، وعلى أيِّ حال، لا يوجد مَن يفعل ذلك ثمَّ يتحدَّث عنه. وربّما يبقون صامتين لحظات قليلة، ويشعلون سيجارة مايروانا ويراقبون انتقالها من رجل إلى آخر، وهم يأخذون نَفَساً عميقاً منها، ويُخفون ذلَّتهم. وقد يقول أحدهم، شيءٌ مخيف. ولكن يكشِّر أحدهم عن أسنانه، ويرفع حاجبيه ويقول، كان روجر-دوجر على وشك أن يثقب فيّ ثقباً.

وكانت هناك عدّةُ لحظاتِ توقُّف مثل تلك اللحظة. وكان بعضهم يتصرَّف بنوع من الاستسلام الحزين، وبعضهم الآخر يتصرَّف بنوعٍ من الشهامة والانضباط العسكريّ، أو بروحِ الدعابة، أو بحماسٍ ظاهريّ. كانوا يخافون من الموت، ولكنَّهم أشدُّ خوفاً من إظهار الخوف.

كانوا يجدون ما يروون من النكات.

كانوا يستخدمون مفرداتٍ قويّةً لإخفاء ضعفهم الرهيب. فكانوا يستعملون مفردات مثل الطلاء، النهاية، الاشتعال، أُغلِقَ وهو يغلِق. ولم تكُن في تلك المفردات قسوة, ولكنّهم كانوا يستعملونها كما لو كانوا على خشبة المسرح. كانوا ممثِّلين وقد صوَّرتهم الحرب تصويراً مُجسَّم الأبعاد. وعندما كان أحدهم يموت، لم يكُن الموت على حقيقته، لأنّه بصورة خفيّة يبدو مسرحيّاً، ولأنَّ كلَّ واحدٍ منهم قد حفظ دوره عن ظهر قلب تقريباً، فقد كانت الملهاة تختلط بالمأساة، وكانوا ينعتون الموت بأسماء أُخرى كما لو كانوا يحاولون تدمير حقيقة الموت نفسه. كانوا يرفسون الجثث. ويبترون الأصابع. ويتكلّمون برطانة ذات شخير. ويسردون قصصاً عن مخزون تيد لافندر من المخدِّرات، وكيف أنَّ المسكين لم يشعر بشيء، وكيف كان هادئاً بشكلٍ لا يصدَّق.

قال ميشيل ساندرز: ثمّة مسألة أخلاقيّة. فقد كانوا، وهم ينتظرون وصول الهليكوبتر التي تقلُّ جثمان تيد لافندر، يدخِّنون مخدِّرات الرجل الميِّت. وقال ساندرز إنّ القضية الأخلاقيّة واضحة تماماً، وغمز بعينه. ابتعدْ عن المخدرات. فإنَّها ستدمِّر حياتكَ في كلِّ مرَّةٍ تتناولها، ولا مزاح في ذلك.

وقال هنري دوبنز، تلك حكمة رائعة.

إنّه ناسف الدماغ، هل تريد الحصول عليه؟ لنتحدَّث عن المخفيّ ــ لم يبقَ منه شيء، سوى الدم والدماغ.

وحملوا أنفسهم على الضحك.

وقالوا، هذا هو المقصود، وكرَّروا ذلك مرةً تلو أُخرى، كما لو كان التكرار يساعد على رباطة الجأش وتوازن النفس، توازن بين الجنون وما يقرب من الجنون، ومعرفة الشيء دون الاقتراب منه.

هذا هو المقصود، كانت تعني ابقَ هادئاً، ودع الأمور تأخذ مجراها، لأنَّك، يا رجل، لا تستطيع تغيير ما لا يمكن تغييره. هذا هو المقصود، وهذا هو المقصود بصورةٍ مطلقةٍ إيجابيّةٍ تماماً.

كانوا أشداء.

كانوا يحملون كلَّ العبء العاطفيّ الذي يشعر به رجال مُقبِلون على الموت. حزنٌ، ورعبٌ، وحبٌّ، وشوقٌ ــ وهي أحاسيس ليست ملموسة، وعلى الرغم من أنّها ليست ملموسة، فإنّها تتمتع بمركز ثقل مُعيّن خاص بها، لها وزن ملموس. كانوا يحملون ذكريات مخجلة. كانوا يحملون سرّاً مشتركاً عن الجبن الذي يصعب التحكُّم فيه، تلك الغريزة التي تدفعهم إلى الفرار، أو التجمُّد، أو الاختفاء، ومن ناحية معيّنة يعدّ ذلك العبء أثقل ما كانوا يحملون، لأنّه لا يمكنهم أن ينزلوه ويتخلَّصوا منه، فهذا يتطلَّب توازنا نفسيّاً كاملاً واستقراراً أكيداً. كانوا يحملون سمعتهم معهم. كانوا يحملون معهم أشدَّ أنواع الخوف التي تنتاب المقاتل، وهو الخوف من احمرار الوجه خجلاً. لقد قُتل رجال ومات آخرون لأنّهم كانوا يشعرون بالحرج والخجل من الفرار من الموت. وهذا الشعور هو الذي أتى بهم إلى الحرب في المقام الأوّل، وليست لديهم آمال واسعة، لا أحلام بالمجد ولا بالشرف، مجرّد تفادي احمرار الوجه من العار. ماتوا لئلا يموتوا من الحرج. فزحفوا في الأنفاق واقتحموا النيران عندما اقتضى الأمر، وفي كلِّ صباح، وعلى الرغم من المجهول، أجبروا سيقانهم على السير. وتحمّلوا ذلك. واستمروا في حمل أثقالهم. ولم يستسلموا للبديل الوحيد، وهو إغماض أعينهم والسقوط أرضا. الأمر بسيط جداً حقّاً. ترنّحْ في مشيتك وارتمِِ أرضاً واجعلْ عضلاتك جامدة ولا تتكلَّم ولا تتحرَّك حتّى يرفعكَ رفاقكَ وينقلونكَ إلى الهليكوبتر التي ستزمجر وتخفض مُقدَّمها وتحملكَ بعيداً إلى العالم. مجرَّد مسألة سقوط. ومع ذلك لم يسقط أحد قط. ليس بفضل الشجاعة، بالضبط، فالموضوع ليس مسألة إقدام وبسالة. وإنّما كانوا خائفين جدّاً من أن يوصموا بالجُبن.

وبصورةٍ عامّة، فإنّهم كانوا يحملون تلك الأشياء في أعماقهم، ويحافظون على أقنعة من الرزانةِ ورباطةِ الجأش. وكانوا يسخرون من دعاوى المرض ويتحدَّثون بمرارة عن أولئك الجنود الذين سُرِّحوا من الخدمة بعد أن أطلقوا النار بأنفسهم على أصابع أرجلهم أو أيديهم، ويشبهونهم بالقطط والشكولاتة. كان كلامهم عن أولئك الجنود حادّاً جارحاً ساخراً ولكنّه ينمّ على الحسد أو الرهبة، ومع ذلك تبقى الصورة نفسها في مؤخّرة أعينهم.

كانوا يتصوَّرون فوهة البندقية على اللحم، ويتصوَّرون الألم المريع الناتج من الطلقة، ثمَّ الإخلاء إلى اليابان، ثمَّ مستشفى ذا أَسِرّة دافئة وممرِّضات من فتيات الكيشا الجميلات.

وكانوا يحلمون بطيور الحرّيّة.

وفي الليل، وهم في مراكز الحراسة يحدِّقون في الظلام، كانوا يتخيّلون أنفسهم في طائرات نفّاثة عملاقة. ويشعرون باللهفة إلى الإقلاع. ويصرخون، الرحيل. وبعد ذلك تتصاعد سرعة الطائرة، ويبدو لهم منها جناحاها ومحرِّكها، وتتجوَّل فيها مضيفات باسمات ـ ولكنّها في الحقيقة أكثر من طائرة، إنّها طير حقيقيّ، طير ناعم فضيّ كبير له ريش ومخالب ويُطلِق صيحات عالية. كانوا يحلّقون؛ خاصّةً بعد أن أنزلوا أحمالهم، ولم يعُد هناك ما يحملون. وكانوا يضحكون ويتماسكون جيّداً، ويشعرون بالريح الباردة والارتفاع وانتفاخ القدمَين، ويقولون في أنفسهم، انتهى كلُّ شيء فأنا ذاهب ـ كانوا عراة، وكانوا خفيفي الوزن وأحراراً ـ خفيف، لامع، سريع، طاف، خفيف كالضوء، ويطنُّ غاز الهليوم في المخِّ، وفقاعات نزقة في الرئتَين بينما كانوا يحلِّقون فوق الغيوم، وفوق الحرب، وما وراء الواجب، ووراء الجاذبيّة، وبعيداً عن كبح الشهوات، وبعيداً عن جميع الاشتباكات العالميّة ـ ويصرخون، آسف، يا أولاد القحبة، لكنّي انتهيتُ من الحرب، تخلَّصتُ منها، وأنا في رحلة أثيريّة، لقد رحلتُ ـ وكان هذا شعور مريح بالتخلُّص من الأعباء، وأنا أمتطي موجات الضوء، على أجنحة طير الحرّيّة الفضيّ الكبير فوق الجبال والمحيطات، فوق أمريكا، فوق المزارع والمدن العظيمة النائمة، والمقابر، والطرق السيّارة، وأقواس مطاعم ماكدونالد الذهبيّة. وكان ذلك التحليق نوعاً من الهروب، نوعاً من السقوط، السقوط إلى الأعلى فالأعلى، والدوران بعيداً عن حافة الأرض، ما وراء الشمس وعبر الفراغ الصامت الشاسع حيث لا توجد أعباء ولا أحمال وحيث يبلغ وزنُ كلِّ شيء لا شيء تماماً. ويصرخون، لقد ذهبتُ. آسف ولكنّني ذهبتُ. وهكذا، في الليل لا يحلمون تماماً، ولكنّهم يهبون أنفسهم للخفّة والضوء، ويُحمَلون بعيداً.

وفي الصباح، بعد أن مات تيد لافندر، جثمَ الملازم جيمي كروس في قعر خندقه وأحرق رسائل مارثا، ثم أحرق صورتَيها. وكان المطر يهطل بغزارة ما جعل عملية الإحراق صعبة، ولكنّه استعمل أقراص الحرارة ليوقد ناراً صغيرة كان يحميها من الريح بجسده، وهو يحمل الصورتَين بأطراف أنامله فوق اللهب الأزرق.

وأدرك أنّ ما فعله هو مجرّد إشارة. وفكَّر في نفسه أنّه غبيّ. عاطفيّ أيضاً، ولكن، على الأغلب، مجرّد غبيّ.

لقد مات لافندر. وأنتَ لا تستطيع أن تحرق الشعور بالذنب. أضف إلى ذلك، أنَّ الرسائل كانت في رأسه. وحتّى الآن, وبدون الصورتَين، يستطيع الملازم كروس أن يرى مارثا وهي تلعب كُرة السلَّة بسروالها الرياضيّ القصير وقميصها الأصفر. كان يستطيع أن يراها وهي تتحرَّك في المطر.

وعندما خمدتِ النار، رفع الملازم كروس جرابه ووضعه على ظهره وأكل فطوره من علبة.

وقرَّر أنّه لا يوجد لغز كبير.

ففي هذه الرسائل لم تذكر مارثا الحرب مطلقاً، ما عدا قولها، "اعتنِ بنفسك، يا جيمي." لم تكُن لها علاقة بالحرب، ووقّعتِ الرسائل بعبارة " مع المحبة"، وجميع السطور الجميلة والأساليب الرائعة ليست ذات أهمِّيَّة.

وكان الصباح رطباً ومشوشاً. وبدا كلُّ شيء جزءاً من كلِّ شيء آخر ومتداخلاً معه، الضباب ومارثا والمطر المتزايد.

هي الحرب بعد كلِّ هذا وذاك.

وتناول الملازم كروس خرائطه وعلى شفتَيه نصف ابتسامة، وهزّ رأسه بشدّة، كما لو كان يصفّيه، ثم انحنى على خرائطه وأخذ يخطط لمسيرة ذلك اليوم. وبعد عشر دقائق، أو ربما عشرين دقيقة، سيطلب من جنوده أن ينهضوا ويحملوا معدّاتهم ويسيروا في اتّجاه الغرب، الذي بدا على الخرائط أخضرَ وساراً. وسيفعلون ما كانوا يفعلونه دائماً. ولعلَّ المطر سيضيف شيئاً إلى هذا اليوم، فيما عدا ذلك فهو يوم آخر ينضاف إلى الأيام الأخرى.

كان واقعيّاً في تفكيره. كان هناك شيءٌ حادٌّ جديد في أحشائه.

وقال في نفسه، لا خيال بعد اليوم.

ومن الآن فصاعداً، كلّما طرأت مارثا على فكره، عدّها فتاةً تنتمي إلى عالمٍ آخر. سيلغي أحلام اليقظة. فهنا ليس كلية ماونت سباستيانن، إنّه عالَمٌ آخر، حيث لا توجد قصائد جميلة ولا امتحانات فصليّة، هنا مكان يموت فيه الرجال بسبب الإهمال والغباء. وكان كيوا على حقٍّ. دويٌّ وتسقط ميّتاً، وليس ميّتاً جزئيّاً أبداً.

ومن خلال المطر، رأى الملازم كروس عيني مارثا البنيَّتَين تحدّقان فيه لوهلة قصيرة.

وفهم.

وفكَّر أنَّ الأمر حزين جدّاً. الأشياء التي يحملها الرجال في أعماقهم. الأشياء التي فعلها الرجال أو شعروا أنَّ عليهم أن يفعلوها.

وكان على وشك أن يهزَّ رأسه لها مُحيّياً، ولكنّه لم يفعل.

 

وبدلا من ذلك، عاد إلى خرائطه. فقد صمَّم الآن على القيام بواجباته بصرامة ودون تقصير. وهذا لا ينفع تيد لافندر، يعرف ذلك، ولكن من هذه اللحظة فصاعداً، سيلتزم بواجباته كضابط. وسيتخلَّص من حصاة جلب الحظِّ.  ربّما سيبلعها، أو يستعمل مقلاع لي سترونك ليقذف بها بعيداً، أو يرمي بها على قارعة الطريق. وسيطبّق أثناء السير الأوامر الميدانيّة بحذافيرها. سيكون حذِراً بشأن اتّخاذ الاحتياطات الأمنيّة، وسيمنع المصارعة أو الملاكمة بين جنوده، ليجعلهم يواصلون سيرهم بالسرعة المناسبة، وفي فتراتٍ مناسبة. وسيصرّ على تنظيف الأسلحة وصيانتها. وسيصادر ما تبقّى من مخدرات لافندر. وسيجمع الرجال، ربّما في آخر النهار، ويتحدَّث إليهم بصراحة. سيقبل بإلقاء اللوم عليه في ما حدث لتيد لافندر. وسيقف موقف الرجال في هذا الموضوع. سينظر إليهم في عيونهم برأسٍ مرفوع، وسيوجّه إليهم الأوامر العسكريّة بصوتٍ هادئٍ محايدٍ، بصوتِ ضابط، بحيث لا يترك مجالاً لأيّ جدال أو مناقشة. سيقومون بواجبهم معاً،  ويواصلون العمل بطريقة لائقة نظاميّة.

ولن يحتمل التهاون. وسيُظهر لهم  الصرامة وينأى بنفسه عنهم.

سيكون من بين الرجال مَن يتشكّى، طبعاً، أو من يفعل أكثر من التشكّي، لأنّ أيامهم ستبدو أطول وأحمالهم ستصبح أثقل، ولكنّ الملازم كروس ذكّر نفسه بأنَّ واجبه ليس كسب حبّ جنوده وإنّما قيادتهم. وسيستغني عن الحبّ، فلم يعُد الحبّ الآن أحد العوامل في الموضوع. وإذا نازع أحدهم في الأوامر أو تشكّى، فأنّه ( الملازم كروس) سيضع إصبعه على شفتَي ذلك الجندي ويعدّل له من وضعيّة كتفَيه، لتُصبِح وقفته صحيحة عند تلقّي الأوامر. وقد يهزّ رأسه باقتضاب. وقد لا يفعل ذلك. وربّما يهز كتفَيه ويقول: واصلوا السير، وحينئذ سيحملون معدّاتهم وينتظمون في طابور ويتحرّكون نحو القرى الأخرى في منطقة "ثان كهي".

***

 

.........................

تيم أوبراين - Tim O’Brien / بقلم: د. علي القاسمي

(إذا كانت الحرب الفيتناميّة قد خلَّفت في أمريكا شعوراً مستحقّاً بالذنب والعار وكثيراً من الآلام النفسيّة، فإنّ بعض الأمريكيّين يشيرون بفخر إلى إنجازَين هامَّين: أوّلهما، الحركة المناهضة للحرب الفيتناميّة التي انخرط فيها عشرات الملايين من المواطنين وقدامى المحاربين، وثانيهما، الحركة الأدبيّة التي رافقتها وأعقبتها وأفرزت أدباً رائعاً أنتجه قدامى المحاربين في فيتنام وصوَّروا فيه مآسي الحرب، وأهوالها، وسحقها للخصال الإنسانيّة في النفس البشريّة؛ وأدانوا المؤسسة السياسية والرأسمالية الأمريكية التي تشنُّ الحروب على الشعوب المستضعفة من أجل سرقة ثرواتها.

وقد كان للكاتب تيم أوبراين Tim O’Brien نصيب في الحركتَين المذكورتَين. فعندما كان طالباً في الكُلّيّة كان ناشطاً في الحركة المناهضة للحرب الفيتناميّة، وتولّى تحرير افتتاحيّات ضدها في جريدة الكُلّيّة. ولكنَّ ذلك لم ينفعه، فقد تمَّ تجنيده وشارك في الحرب التي يعتبرها شرّاً. وبعد عودته من فيتنام كرَّس جميع إنتاجه الأدبيّ للحرب الفيتناميّة، من أوّل كتابِ مذكراتٍ نشره إلى آخر مقالٍ له ظهر في إحدى المجلات الأمريكيّة. وعندما بدأ الغزو الأمريكيّ للعراق سنة 2003، شنَّ تيم أوبراين حملة مناوئة لها بكلِّ ما يملكه قلمه من ضراوة النضال وإخلاصٍ للإنسانيّة.

ولد تيم أوبراين في مدينة أوستن، عاصمة ولاية تكساس، عام 1946، ودرس العلوم السياسية في كلية ماكالستر. وعند تخرّجه فيها عام 1968، سلَّموه شهادة الإجازة مع إخطار بتجنيده، وأُرسِل إلى فيتنام عامي 1969و1970. وبعد عودته من الحرب، واصل دراساته العليا في جامعة هارفرد وتدرّب في صحيفة " واشنطن بوست". ثمَّ عمل مراسلاً صحفيّاً.

كانت مذكراته المعنونة بـ "إذا متُّ في ميدان الحرب، فضعني في صندوق وأعدني إلى وطني" ، 1973، من أوائل الكتابات الأدبيّة عن الحرب الفيتناميّة. وفي الفصل المعنون بـ  " الفرار"  من هذا الكتاب، يشرح لنا أوبراين أنّه كان يُدرِك أنَّ قتل الناس في الحرب أمرٌ لا أخلاقيّ يعرّض روحه للخطر، فيقرِّر أنَّ اختياره الأخلاقيّ الوحيد هو الفرار. ولكنّه يكتشف أنّه تعوزه الشجاعة ليفرّ. ويعترف أنّه وافق على الذهاب إلى فيتنام  لأنّه جبان. وهذا الاعتراف بالجبن الذي يَحُول دون الاختيار الأخلاقيّ (الفرار بدلاً من القتل)، يتكرّر في جميع كتابات أوبراين.

ثمَّ نشر روايته الأولى بعنوان "الأضواء الشماليّة" عام 1975، وهي تنصبّ على نتائج الحرب الفيتناميّة وعواقبها الوخيمة في المجتمع الأمريكيّ. وحازت روايته الثانية "البحث عن كاجياتو"، 1978، التي تحكي قصّة جندي أمريكيّ قرَّر أن يفرّ من الحرب، على جائزة الكتاب الوطنيّة. ثمَّ نشر روايته (العصر الذريّ) عام 1985.

ولعلَّ أشهر أعماله الأدبية قصّته القصيرة "الأشياء التي كانوا يحملونها"، 1987، التي نُشِرت فيما بعد مع قصص مماثلة في كتاب صدر عام 1990. وفيها نستمع إلى جنديٍّ يتكلّم عن الحرب الفيتناميّة وفي الوقت نفسه نطّلع على جوانب من حياته الشخصيّة. ويستخدم الكاتب بعض تقنيات السرد مثل التكرار: تكرار بعض الأحداث، وتكرار بعض العبارات ليقوّي أُلفة القارئ بها ويُنتِج الأثر المطلوب. كما يستخدم علامات الترقيم ( الفقرات، الجُمل، النقط، الفواصل، الخ.) بطريقة مختلفة عن المعتاد. وقد حصلت هذه القصة على جائزة أحسن الكُتُب الأجنبيّة في فرنسا.

وتفضح روايته "في بحيرة الغابات"، 1994، مذبحة ماي لاي التي اقترفها الجيش الأمريكيّ في قرية فيتناميّة عزلاء، وأصدر الرئيس الأمريكي نكسون عفواً عن الضابط المجرم المسؤول عن المذبحة.

ويتولّى تيم أوبراين حاليّاً تدريس موضوع الكتابة الإبداعيّة في جامعة جنوب غربي تكساس، وهو عضو في الأكاديميّة الأمريكيّة للآداب والعلوم التي نال جائزتها من قَبل.

وإذا كان كثير من النقاد الأمريكيون يرون أن أحسن قصة أمريكية في القرن العشرين هي " العودة إلى بابل" لسكوت فتزجيرالد، التي سبق أن ترجمتُها ونُشِرت هنا، فقناعتي الشخصية هي أن قصة " الأشياء التي يحملونها" لتيم أوبراين هي أروع القصص الأمريكية في القرن العشرين. فكلتا القصتَين نابعتان من خبرة مريرة للكاتب، وتتمتعان ببناء سردي فخم، وتزدانان بتقنيات قصصية حداثية راقية؛ إلا أن قصة أوبراين تدور حول قضية إنسانية في حين تتناول قصة فتزجيرالد مسألة شخصية.)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم