صحيفة المثقف

السرد في عصر ما بعد التعاسة

يسري عبد الغنيإنه بتعدد المناهج النقدية المحللة للسرد (على فرض أن لدينا نقادًا أو مناهج نقدية)، تكون الإشكالية الكبرى التي يجب أن نتنبه إليها، وبمعنى آخر علينا التنبه إلى إشكالية المناهج النقدية في تعاملها مع جماليات السرد، والتغلب على هذه الإشكالية لا يكون إلا من خلال محاولة تحقيق نوع من التماسك والتداخل بين الخطاب السردي والخطاب النقدي .

وإذا كان الخطاب السردى مغامرة أدبية راقية تتبحر في جماليات السرد، فالخطاب النقدي الحقيقي ليس إلا مغامرة نقدية واعية تتبحر في استجلاء هذه الجماليات وفق قواعد وأصول وأسس، فالنقد في تحليلنا الأخير علم ولكل علم قواعد وليس فهلوة أو إدعاء، ولعل هذا التناقض الذي نلمحه بين النقد والسرد هو الذي أظهر إستراتيجيات ما نطلق عليه الآن الحداثة (التعاسة) أو ما بعد الحداثة (التعاسة) .

والسرد الحداثي (التعاسي) لا يرى الالتزام بالمقاييس، فقد يقدم لنا ما يكتب على أنه رواية على سبيل المثال، ولكن نرى قلبًا للمسلمات والقواعد رأسًا على عقب، مصحوبًا بالتفكك في بنية النص، ويردون على ذلك أنهم بذلك يكشفون عن تفكك بنية المجتمع وتناقضات الوضع المعاش، أضف إلى ذلك استعمال الرمز والتقطع وعدم الاستمرارية في تدفق السرد، مما يخلق فجوات مستمرة في صيرورة السرد، وبناء عليه فعلى القارئ أن يملأ الفجوات السردية باجتهاده الخاص، وفي نفس الوقت عليه استجلاء المضمر في النص الذي يتابعه .

مما لا شك فيه أن النصوص السردية في وقتنا الحالي أضحت عملاً مجهدًا للقارئ، الذي يجد نفسه تجاه الاعتباطية والعفوية والجزافية التي لا تعبأ بتقاليد الفن الإبداعي، عاصفة بوحشية بكل أصول وقواعد الإبداع الأدبي .

إن الاسترسالات العفوية، وتقلص الحد الفاصل بين الوعي وأللا وعي يؤدي إلى ضياع الخيط السردي التعاقبي للأحداث، كما أن الإغراق في الغموض ومجافاة الذوق السائد عبر نصوص وسياقات صادمة وكاسرة لأفق التوقع بشكل مبالغ فيه، كل ذلك يؤثر بالسلب على المتابع للسرد بمختلف ألوانه .

ونذكر هنا ما أطلق عليه كتابة الجسد التي يقولون عنها: إنها شاعت للتعبير عن الإحباط والوجع بعد أن تم إضعاف مركزية الإنسان كإنسان في المجتمع الحديث، ومن هنا قالوا : بأن الجسد هو المنطقة الوحيدة التي يستطيع هذا الجيل بكتاباته أن يحقق إرادته فيها .!!!

وعليه فأصبح الحديث عن المسكوت عنه ـ كما يقولون ـ أمرًا مباحًا لا ضابط ولا رابط له، ولسان حالهم يقول ليس هناك أي مانع من ذكر ما يستقبح ذكره في العوالم السفلى .

مما لا شك فيه أن السرد بأشكاله وتقنياته الحديثة يمر لدينا بكارثة كبرى، يجب أن نتنبه إليها ونضعها في سياقاتها المناسبة

وأخيرًا أقول: أن الأدب الحقيقي هو الذي يكون له رسالة، ليس كمعبر عن المجتمع وقضاياه ومشكلاته، بل أن يسمو بالمشاعر الإنسانية، ويحول سلبيات المجتمع والأفراد إلى إيجابيات، معليًا من قيم الحب و الحق والخير والجمال، والأديب الحقيقي يجب أن يكون موهوبًا بالفعل ومثقفًا حقيقيًا ينجح في أن يمزج الشكل بالمضمون، مدركًا جيدًا الهدف من إبداعه الذي يقدمه للمتلقي .

نأمل في آراء جادة حقيقية تساعد على أن يقوم السرد بدوره في الرقي الإنساني كإبداع إنساني ..

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم