صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد (14): فرانسس أجوورث

مصدق الحبيبفرانسس أجوورث (1845 – 1926)

Francis Y. Edgeworth


 

هو الاقتصادي الايرلندي اللامع والشهير بمساهماته الهامة في الاقتصاد والاحصاء والذي أسس المجلة العلمية The Economic Journal وشغل منصب رئيس تحريرها لثلاثة عقود ونصف، منذ تأسيسها عام 1891 ولغاية وفاته عام 1926 حيث خلفه بعد ذلك جان مينرد كينز رئيسا للتحرير..

ولد فرانسس عام 1845 في أجوورثتاون الايرلندية لأب ايرلندي وأم اسبانية، وهو اصغر اخوته. كانت عائلة والده من العوائل العريقة المعروفة بميولها للعلم والادب والتي لم ترسل اطفالها الى المدارس الرسمية بل فضلت تدريسهم داخل البيت لحين بلوغهم سن الدخول الى الجامعة. بعد اكماله التعليم البيتي، ذهب فرانسس الى كلية ترنتي في دبلن ثم الى كلية باليول في اوكسفورد لدراسة اللغات القديمة، ولم تبدأ دراسته للرياضيات والاقتصاد الا بعد تخرجه من اوكسفورد عام 1869. كانت دراسته الخاصة المركزة للاقتصاد والاحصاء قد مكنته من الكتابة والنشرمما ساعده على الحصول على وظيفة تدريسي في King College ثم رئيسا لقسم الاقتصاد فيها عام 1888 . بعد ذلك انتقل للتدريس في اوكسفورد فحصل على درجة الاستاذية فيها عام 1891 وفي الوقت ذاته بدأت مسؤوليته في رئاسة تحرير الـ Economic Journal.

2037 فرانسس أجوورثاشتهر ببراعته في الرياضيات والاحصاء وكان من أوائل من حاولوا تطبيق التحليل الرياضي في عمليات صنع القرار على مستوى المستهلك الفرد وعلى مستوى المؤسسة وذلك تبعا لمبادئ النظرية الاقتصادية، الامر الذي جعله من ابرز الداعين الى ادخال الرياضيات والاحصاء في صياغة المفاهيم الاقتصادية في الحيز الاكاديمي وفي تقديم الحلول العلمية لمشاكل الاقتصاد في الواقع العملي. ومن هنا تعتبر مساهماته في صياغة وتطوير النظرية الاقتصادية من المساهمات التاريخية الجوهرية كعمله على منحنيات السواء والمنفعة والتبادل التجاري والتوازن الاقتصادي العام والمنافسة والاحتكار والضرائب. كما ان مساهماته في النظرية الاحصائية لم تقل اهميةعن مثيلاتها في النظرية الاقتصادية، فقد عمل على تطوير الارقام القياسية ونظرية الاحتمالات ومعامل الارتباط وهو الذي دعا الى ضرورة استخدام الارقام والبيانات الاحصائية لتقدير قيم وتغيرات الظواهر الاقتصادية ونقلها من التحليل الوصفي الى التحليل الكمي.

في عام 1881 نشر كتابه الابداعي الأهم الموسوم " العقل الرياضي: دراسة في تطبيق الرياضيات على العلوم الاخلاقية". وهو الكتاب الذي عرض فيه أهم افكاره الابداعية ومفاهيمه الابتكارية التي مازلنا الى هذا اليوم نعتمد على منطقها وحصافتها والتي سميت بإسمه كـ:

Edgeworth Box, Edgeworth Conjecture, Edgeworth Limit Theorem, Edgeworth Tax Paradox, and Edgeworth Indeterminacy of Contract.

كان هذا الكتاب صعب القراءة وعسير الفهم على اغلب قراء الادب الاقتصادي ومنهم بعض زملائه الاقتصاديين الكبار، وذلك بسبب لغته الجافة واستخداماته غير المألوفة، وهو الرجل الذي أمضى سنينا طوال في دراسة اللغات القديمة. لقد أثارت صعوبة الكتاب موجة استنكار ورفض حتى من قبل بعض مجايليه الاقتصاديين ولو ان بعض الزملاء القريبين منه تطوعوا للدفاع عن كفاءة الرجل وجودة كتابه.

كتب ألفرد مارشال يقول: "في هذا الكتاب علامات واضحة للعبقرية أراها تعد بمستقبل افضل لحقل الاقتصاد. ولو ان القراء تمنوا لو انتظر مؤلفه لحين تمكنه من تبسيط مفاهيمه الاساسية، وهو الامر الذي يتطلب جهدا ووقتا اكثر! ولكن علينا تقييمه كما قدمه المؤلف باعتباره (دراسة تمهيدية)، وهو بذلك جدير بالاعجاب لأصالته وقوة طرحه". أما ستانلي جيفنز فقد كتب: " مهما كان رأي القارئ في هذا الكتاب فلا بد له ان يعترف بأنه كتابا جدير بالاعتبار . ولاشك فان اسلوب المؤلف لاينصف محتوى الكتاب لما في الاسلوب من غموض يجعل القارئ يشعر وكأنه يواجه لغزا جديدا في كل جملة".

وبالطبع لم يكن هناك من الناقدين آنذاك من يتحلى بشجاعة أنشتاين الذي قال يوما " تبسيط ماهو معقد يستلزم لمسة من العبقرية وقدر من الشجاعة...فإن لم تستطع أن توضح أمرا معقدا لطفل، فذلك يعني انك لم تفهم الامر جيدا بالاصل".

في عام 1885 نشر فرانسس كتابه عن الطرق الاحصائية الذي قدم فيه لاول مرة تفسيرا لمفهوم "معنوية الاختبار" عند مقارنة المتوسطات الرياضية. وفي عام 1892 كتب سلسلة مقالات لتوضيح معدل الارتباط الاحصائي الذي اشتغل عليه كارل پيرسن فيما بعد وسمي بما نعرفه اليوم بارتباط پيرسن Pearson Correlation رغم ان بیرسن أنكر ان ماعمله کان امتدادا لما بدأ به أجوورث. في عام 1894 نشر أجوورث مخططا هندسيا لتوضيح نظرية القيم الخارجية الدولية، وفي عام 1897 نشر بحثه الابتكاري في الضريبة والذي قدم فيه مفهوما جديدا معاكسا لما عرف تحت معطيات النظرية الاقتصادية، الامر الذي قاد لتسمية هذا المفهوم بـ متناقضة الضريبة Tax Paradox التي صرح فيها بأن رفع الضرائب قد يقلل الاسعار، وقدم مفهوم التعريفة المثلى، كما اشار الى ان المنافسة على الاسعار بين الشركات التي تخضع لمحددات واضحة وتتميز بزيادة الكلفة الحدية تنتج عن حالة اللاقرار. في عام 1907 فاز بالجائزة الذهبية من الجمعية الملكية للاحصاء واصبح رئيسا لها للفترة 1912-1914.

من المفاهيم الابتكارية التي قدمها أجورث هو ما سمي بـحدس أجوورث Edgeworth Conjecture الذي افاد فيه بأن مركز الاقتصاد سيتقلص الى توازنات تنافسية كلما ازداد عدد العناصر المؤلفة له والمؤثرة فيه. وعندما يصبح عدد تلك العناصر الفاعلة لانهائيا كما في حالة المنافسة الكاملة، ستقل درجة اللاقرار indeterminacy وتزداد حالة التأكد فيسهل اتخاذ القرار ، وصولا الى حالة التوازن الاقتصادي العام.

كما انه ابتدع مايسمى بنظرية حد أيجوورث Edgeworth Limit Theorem التي ربطت نتائج التبادل بين الطرفين بحالة المنافسة الحاصلة وقت التبادل. فالنظرية تشير الى ان الاتفاق الحاصل مع حالة المنافسة ستكون نتائجه غير واضحة، واذا كانت المنافسة تامة فلا يؤدي ذلك الى حصول أي نتيجة. ولهذا فنتائج الاتفاقات والعقود التبادلية ستتبع مديات حالة المنافسة الحاصلة وقت التبادل.

من الواضح ان مساهمات أجوورث في النظرية الاقتصادية كانت أصيلة وعميقة ولكن للاسف لم تساعده لغته الصعبة على ايصال افكاره بالشكل المناسب، فلم تحظ تلك المساهمات القيمة بما تستحقه عند مجايليه وطلابه. وقد ساعد في ذلك شخصيته الهادئة الميالة الى الابتعاد عن الجدل والمناظرات. فكان قد اتـُهِم بالسلبية وبأنه لم يكن صارما مع من اختلفوا معه بشكل فظ كزميله مارشال. فوفقا لما جاء في موقع تاريخ الفكر الاقتصادي الذي يشرف على منشوراته معهد الفكر الاقتصادي الجديد، لم يتردد مارشال من انتهاج اسلوب الخشونة والتخويف في مناقشاته مع أجوورث الذي كان سرعان ماينسحب ويبدو موافقا ومحابيا لطروحات مارشال، وهذا ما لاحظه أغلب زملائهما في أوكسفورد. ورغم ان دور واهمية أجوورث بدا ينقصه الانصاف آنذاك بين زملائه البريطانيين، كان من ناحية اخرى يتمتع باعتزاز واحترام كبير بين زملائه غير البريطانيين مثل إرفنك فشر في الولايات المتحدة الامريكية وفكسل في السويد وباريتو في ايطاليا. وهذا الاخير هو الذي أخذ على عاتقه تبسيط وتطوير أغلب مفاهيم أجوورث والتي بفضله أصبحت أساسية وشائعة اليوم. ولكن منذ أواسط القرن العشرين اصبح أجوورث يتمتع بشهرة كبيرة في كل مكان، ولاسيما عند الاقتصاديين الرياضيين كمارتن شوبك وجيرارد دبرو ووارنر هلدنبراند.

أمضى أجوورث حياة رتيبة قانعة تميزت بهدوء طبعه ودماثة اخلاقه فلم يشهد له مطلقا ان اصبح غاضبا على أحد أو شئ قط. لم يتزوج لكنه كان رياضيا نشيطا يتبع الروتينات الصحية ويواضب على المشي وركوب الدراجة ولعبة الكولف. ومن بين اصدقائه المقربين كان ستانلي جيفنز.

مربع (صندوق) أجوورث Edgeworth Box

تكنيك كرافيكي يستخدم منحنيات السواء لتمثيل التبادل التجاري متلخصا بتنافس منافع طرفين يتبادلان سلعتين. وقد يكون الطرفان شخصين او منطقتين او بلدين. لننظر الى الشكل التالي الذي يصور طرفين، A&B مع سلعتين X&Y مع منحنيات السواء لكل منهما والتي تمثل مستويات منفعتهما. بدلا من ان يكون الرسمان منفصلين ، اصبح رسم الطرف الثاني B منقلبا من اليمين الى اليسار ومستقرا فوق رسم الطرف الاول A، مما عكس تفسيرات خارطة السواء لدى الطرف الثاني وجعلها متناقضة مع الطرف الاول. فمثلا حين يتزايد مستوى المنفعة للطرف الاول بصعود منحنيات السواء الى الشمال الشرقي من A1 الى A4 ، تزداد مستويات منفعة الطرف الثاني باتجاه الجنوب الغربي من B1 الى B4 . هذا يعني ان مصالحهما اصبحت متعارضة ولكن التحليل سيظهر ان هناك منطقة ستلتقي فيها المصالح وستكون مناسبة لتحقيق التبادل النافع للطرفين. لنتذكر بأن مَيل منحنى السواء الذي يجسده خط التماس للمنحني مثل ta &tb يساوي المعدل الحدي للتبادل MRS – Marginal rate of Substitution. ولذلك فان نقاط تماس المنحنيات مثل نقطة e1 سيتساوى فيها الميل لانها تنطبق على بعضها كما في خط المماس T ويتساوى فيها المعدل الحدي للتبادلMRS للطرفين. هذه النقاط العديدة مثل e1 ستقع على الخط المتقطع والذي يسمى Contract Curve ستكون موصوفة بأمثلية أو كفاءة باريتو Pareto Optimality or Pareto efficiency، والتي تعني انه لايمكن لأي طرف فيها ان يحقق انتفاعا مالم سيكون هذا الانتفاع على حساب خسارة الطرف الثاني، وهي الحالة التي يستنفذ فيها الطرفان كل حالات التبادل الافضل. فلو تأملنا الحال عند انتقال نقطة e2 الى e1 . سيحقق الطرف الثاني B تحسنا في منفعته بالانتقال من منحنى B2 الى B3 ، لكن الطرف الاول A لا يتأثر، أي لاينتفع ولا يخسر، لان الانتقال سيكون على نفس المنحنى A3. هذا الانتقال سيوصف بـ تحسن باريتو Pareto improvement ولكن في نقطة e2 يكون المماسان مختلفين وبالتالي عدم تساوي المعدل الحدي للتبادلMRS مما سيوصف الحال بعدم كفاءة باريتو Pareto Inefficiency . وهكذا فأي نقطة داخل المنطقة المظللة Exchange Lens أو على حدودها ستوفر امكانية تحسن طرف واحد على الاقل وبالتالي امكانية التبادل . ذلك بالطبع باستثناء النقاط الواقعة على الـ contract curve . 2037 Edgeworth Box.fw

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم