صحيفة المثقف

عن رحيل صديق فلسطين البريطاني

كاظم الموسويمن خسارات فلسطين الاضافية هذه الأيام رحيل صديق بريطاني، تحمل من أجل صداقته ما تحمله. ولكل ثمنه.. كما حصل لمثله من أصدقائها البريطانيين الآخرين، مثل الفنانة والناشطة السياسية المعروفة فينسا ردغريف، او الزعيم العمالي اليساري جيرمي كوربن.. والمقصود هنا هو الكاتب الصحافي الشهير روبرت فيسك، الذي أسهم بدور في التضامن مع القضية الفلسطينية وكفاح الشعب من أجل تحرره الوطني.

رحل فيسك عن عمر 74 عاما. ونشرت صحيفة "آيريش تايمز" (2020/11/02) الخبر، اولا، ذاكرة أنه أصيب بسكتة دماغية في منزله في دبلن يوم الجمعة، ونُقل إلى مستشفى سانت فينسنت حيث توفي بعد ذلك بوقت قصير. وبرحيله تخسر القضية الفلسطينية خصوصا والقضايا العادلة العامة عموما صوتا إعلاميا متابعا ومهنيا ومخلصا لمهنته. عرف بكل الاوصاف التي تنسب له الان بعد وفاته.

بدأ فيسك، كما كتب عن حياة والده العسكري الذي اشترك في "الحرب الكبرى"، وقد  تأثر به وتابعه بعد اختياره في رحلته الاعلامية في تغطية الحروب، والصراعات، منذ العام 1972  حيث بدأ من بلفاست في ايرلندا الشمالية عمله مراسلا لصحيفة "لندن تايمز" في ذروة الاضطرابات والصدامات فيها، وأكمل بعدها انجاز أطروحة دكتوراه في كلية ترينيتي في دبلن، بموضوع حياد أيرلندا خلال الحرب العالمية الثانية. وانتقل لفترة وجيزة إلى البرتغال، ثم توجه إلى بيروت حيث عمل فيها أطول فترة من حياته كمراسل ل"لشرق الأوسط"، وحصل على أفضل الجوائز الصحفية الدولية، عن كتاباته ومتابعاته وصدقيته في التأليف والتوثيق والإعلام، سواء في عمله مراسلا لصحيفة التايمز، او مواصلته بعدها في صحيفة الاندبندنت، أو في إصداره لكتب متميزة.  مثلما تميز بقدرته الفائقة على العمل، في أماكن الصراعات والحروب، مستلهما احلام شبابه وجولاته مع والده في زيارة  مقرات وأماكن ومقابر ما خلفته الحروب والمعارك.

 خلال عمله هذا اعتبر فيسك أشهر مراسل غربي خلال العقود الاخيرة في تغطيته لأبرز الأحداث التي شدت الأنظار اليها، منها الحرب في لبنان، فضلا عن كونه شاهدا على مذبحة صبرا وشاتيلا، وانتصار الثورة الإيرانية وكارثة الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الأولى وغزو العراق عام 2003 واحتلاله ومذبحة قطاع غزة 2008/2009. ونال فيسك احتراما وتقديرا كما اثار سجالا وجدلا كأكثر المراسلين البريطانيين والاجانب في العصر الحديث، ووصفته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في عام 2005 بأنه "أشهر صحافي أنجبته بريطانيا.. بل أصبح علامة في تاريخ الصحافة العالمية المحترمة".

 لفيسك مواقف مسجلة له، منها تأكيده أن "اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الشرق الأوسط دولا صغيرة تابعة للغرب إبان الحرب العالمية الأولى قد ماتت، وأن القادم سيكون مفزعا". وفي هذا الموقف رؤية مستقبلية نابعة من تجارب التاريخ التي درسها وعرف نتائجها وتداعياتها. وقدم رؤيته انذارا لأصدقائه العرب لقراءة المرحلة الراهنة والقادمة بعد كل ما حصل في الوطن العربي من مخططات المستعمرين وسياساتهم العدوانية.

كتب فيسك تقاريره خلال الحرب العراقية - الايرانية من بغداد، من نبض الشارع، وتحت القصف والحصار، منتقدا بشدة المراسلين الأجانب الآخرين الذين اتهمهم بتغطية الصراع من غرفهم بالفندق. كما غطى الحروب التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وكثيراً ما دان التدخل الأميركي في المنطقة. كما غطى غزو الكويت، وحرب عاصفة الصحراء. وعكس في كل تغطياته ما فرقه عن باقي زملائه المراسلين المكلفين بأعمالهم وميزه عنهم بأمانة الطرح ومهنية الرصد وموضوعية التسجيل، وبمقدار احترام وظيفته الإعلامية وخشية رقابة قرائه لكتاباته.

كما انه أحد المراسلين الغربيين القلائل الذين أجروا مقابلة مع أسامة بن لادن، وفعلها ثلاث مرات في التسعينيات،  وغطى الحروب الاسرائيلية على لبنان وغزة وانتفاضة العام 1987 وانتفاضة العام 2000 في فلسطين المحتلة، فضلاً عن الحرب في  الجزائر والثورات والحراكات الشعبية العربية لعام 2011، وركز جهدا على تغطية الحرب في سورية وعليها وتداعياتها. ومهما كانت كتاباته فستبقى شهادات عن كل تلك الأحداث والانعطافات والمتغيرات. كما تترك أسئلة عنها  وعنه والتاريخ ورد المثل بالمثل أو اقله.

وصفته اغلب وسائل الإعلام بصديق فلسطين،  المؤيد للقضية الفلسطينية ولعدالتها  ولحقوق  الشعب الفلسطيني، وهو معروف بذلك، بل سطره اراءا ومقالات، ومنها وصفه لوعد بلفور بالمشين والمؤذي، واهتم بمعاناة الفلسطينيين جراء اصدار الوعد رافضا أن يكون هناك احتفاء بريطاني بذكراه التي تحل في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام. كما كان من أشد المعارضين لـ"صفقة ترامب" او صفعة العصر التي أعلنها الرئيس الأمريكي، المنتهية ولايته، دونالد ترامب، إذ علق عليها بالقول؛ إن خطته "قالت وداعا لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ووداعا للقدس عاصمة لفلسطين، ووداعا للأونروا، لكنها رحبت بالاحتلال الإسرائيلي الدائم للضفة الغربية والضم الكامل للمستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت هناك منتهكة القانون الدولي".

 الصحافة بالنسبة له "هي رحلة شاقة من أجل الوصول إلى الحقيقة، يخلع خلالها الصحافي كل رداء فكري أو حزبي، ويعرض نفسه للخطر لكي يمتلك الحقيقة.. أن تشتبك مع الحدث بل وتصنعه في كثير من الأحيان". وفي كتابه: الحرب الكبرى، تحت ذريعة الحضارة، كتب؛ افترض اننا كصحافيين نحاول - في اخر المطاف- أن نكون أول شهود غير متحيزين على التاريخ. واذا كان هناك من سبب لوجودنا، فيجب على الأقل أن نكون قادرين على أن نقدم تقارير عن التاريخ كما يحدث فعلا، بحيث لا يستطيع أحد أن يقول؛" لم نعرف' لم يخبرنا أحد بذلك".

رحل الصحافي روبرت فيسك، المغامر والمتابع والرائد والناقد لسياسات الدول الكبرى الظالمة وغير المنصفة لقضايا الشعوب، والمعارض للحروب والعدوان. وفقدت فلسطين  والعرب صديقا إعلاميا لهما، مواليا ومدافعا بشجاعة وجرأة عنهما والساخر من سياسات حكومة بلاده بخصوصهما، والمذكر بدورها التاريخي في بلواهما وتشريد شعب فلسطين، وخسرت الصحافة الحرة الملتزمة كاتبا جريئا وشجاعا ليس من السهل تعويضه. خصوصا انه أتقن اللغة العربية ودرس تاريخ المنطقة والقضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية العادلة، وكتب عنها بمعرفة واقعية وبضمير إنساني.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم