صحيفة المثقف

بين مشيئتِي.. ومشيئتِهم

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

الخريفُ يزحفُ نحوي كسيلٍ طينيٍّ، الأشجارُ المزروعةُ في قلبي ترتجفُ، أوراقُها تحاولُ أن تسقطَ على جسدي، لعلَّها تكونُ ذلك الثَّوبَ، الذي يقينِي بردَ كانون، كانونُ قاسٍ هذا العامِ، يلِجُ تفاصيلَ جسدي بلا ماءٍ.

الجسدُ ظامئٌ، جائعٌ، وأخذَ الهُزالُ يرسمُ عليه لوحاتِ التَّعبِ، وأخذت أصابعي تنسُجُ من خيوطِ التَّجاعيدِ، منديلاً غريبَ الشَّكلِ، لعلَّه ينجحُ حين يشربُ الدُّموعَ من عينيكِ .

كم أنتِ بحاجةٍ إلى ظمئِي، إلى جوعي، إلى ضعفي، لتشعري بأنَّكِ الآن أقوى منِّي، يبدو أنَّكِ منذ اليومِ ستواصلين المشيَ في الدُّروبِ الضَّيقةِ وحيدةً، تحملينَ آخرَ أحلامِنا، وأوجاعِنا، هل تذكرينَ كم سهرنا مع الوجعِ، كم مرَّةٍ شربنا القهوةَ مع الألمِ، كم مرَّةٍ حاولنا أن نُفسِّرَ ما تقولُه الأحلامُ لنا، كم مرَّةٍ تحدَّثنا عن هزائِمنا القديمةِ، وكم قلتُ لكِ إنَّهم يحاولونَ إبادةَ خلايا النَّحلِ في عقلي، كم مرَّةٍ حاولوا وأدَ أفكاري في مهدِها، وجاؤوا بالدُّموعِ إلى قلبي لتحلَّ فيه ضيفاً أبديَّاً، وكم تجرَّعتُ مرارةَ غبائِهم .

أتذكرينَ حين حدَّثتُكِ آخرَ مرَّةٍ، عمَّا رأيتُه في المنامِ، أذكرُ أنِّي حدثتُكِ عن السَّواقي، التي هجرَها الماءُ، وعن الأشجارِ التي يبست في منتصفِ الرَّبيعِ، وعن الأمواجِ التي تعطَّلت عن الهديرِ، وعن الأفكارِ العقيمةِ، التي لا تلدُ إلا أطفالاً مشوَّهينَ .

أتذكرينَ حين حدَّثتُكِ عن عالمٍ ما انفكَّ يُمارسُ عمليَّاتِ التَّجميلِ، ليحجُبَ عن عقولِنا حقيقةَ ذلك القبحِ، الذي أصابَ الوجهَ والجسدَ، حينها قلتُ لكِ: نحنُ نعيشُ زمناً مُزيَّفاً، زمناً تحت التَّجميلِ .

أتذكرينَ حين حدَّثتُك عن تلكَ الرَّوائحِ الفاسدةِ، وقلتُ لكِ إنِّي بتُّ أكرهُ العطورَ، لأنَّها تحجبُ عنِّي تلك الرَّوائحَ الفاسدةَ .

يا سيِّدةَ قلبي:

لستُ نبيَّاً لأصنعَ سفينةً جديدةً لحياةٍ جديدةٍ، ترسو بنا بعيداً عن أرضِ الزَّيفِ والنِّفاقِ، لستُ نبيَّاً أُكلِّمُ اللَّهَ، أو أُفسِّرُ كلَّ أحلامِ المُتعَبِينَ، ولستُ مُفكِّراً لأثورَ على استبدادِ السُّلطاتِ، وأُعلِن عن مولدِ عصرٍ للتنويرِ .

لم تعُد العصا بيدي، لأشقَّ البحرَ نصفينِ، فكلُّ بحرٍ وراؤهُ بحرٍ، وكلُّ صخرةٍ صمَّاءَ تلدُ ألفَ صخرةٍ صمَّاءَ .

يا سيِّدةَ قلبي:

لستُ ساحراً لأُحرِّرَ العقولَ، فقضبانُ هذا السِّجنِ تحتاجُ إلى مفاعلٍ نوويٍّ، ذي طاقةٍ هائلةٍ، ليُفكِّكَ روابطَها الكيميائيَّةِ، أو القبليَّةِ، أو العقائديَّةِ .

يا سيِّدةَ قلبي:

أعتذرُ من عينيكِ، وأعتذرُ لعينيكِ حين جعلتُها ترى ما لا يجبُ أن ترى، كنتُ أحبُّ لعينيكِ أن تحملَ بين جفنَيها كلَّ طيفٍ جميلٍ، لكن كلَّ شيءٍ يجري ضدَّ مشيئتِي، ضدَّ إرادتِي، فكم هي المسافةُ واسعةٌ بينَ ما أشاءُ، وبينَ ما يشاؤونَ،  وكم هو الصِّراعُ قاسٍ بين المشِيئَتينِ .

هامش : حاولتُ أن أمشي مع التَّيارِ، غيرَ أنَّ مشيئتي كانت ضدِّي، فجرفنِي التَّيارُ، وبقيت لكم مشيئَتي .

 

د.عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم