صحيفة المثقف

الكأس

حمودي الكنانيدفع الباب الزجاجي بقوة ودخل، صاح بصوت سمعه كلُ من كان جالسا: - ما هذه المدخنة ؟ نظر بوجوه الجالسين جميعا بدون أن يسلم على أحد .التفت يمينا وشمالا ثم استدار لينظر إلى الشارع المزدحم بالسيارات واخذ يهز رأسه، برم شفتيه باشمئزاز وبدا يتلمس صيوان أذنه، استدار ثانية ونظر بوجوه الجالسين من جديد كأنه يبحثُ عن أحدهم . تفحصهم واحدًا واحدًا وهو يقلب رأسه ذات اليمين وذات الشمال . بعد ذلك نظر إلى الكراسي والمناضد وكأن هناك معرفة قديمة بينه وبينها . تأمل المكان جيدا، كل شيء فيه ينبئك بتقادم السنين عليه، و هناك بعيداً عنه منضدةٌ تراكمت عليها مخلفات الدخان، وهنا كرسي مقلوب وفي الركن قريبا منه كرسي هو الآخر متهالك، دنا منه ورفعه بيده ثم أسنده بقوة إلى الحائط قريبا من الباب جلس، عليه وبدأ يفتش في جيوبه وما أكثرها . لم يجد شيئا في جيوب الرداء الأول، ولم يجد ضالته في جيوب الرداء الثاني، ثم مد يده إلى جيبٍ في ثوب بالٍ كان يلبسه تحت أرديته البالية أخرج منه علبة سجائر مسكها بقوة بين يديه ورماها على المنضدة التي كانت أمامه ثم مد يده إلى الجيب الآخر في الجانب الثاني من الثوب، اخرج علبة الكبريت نظر إليها وتبسم، ثم أتبع الابتسامة بقهقهة عالية، التفت الجميع إليه باستغراب ولكنه لم يأبه لذلك مد يده إلى علبة السجائر، اخرج سيجارة وضعها بين شفتيه، أشعلها ثم بدأ يمصها بمودة وينفث الدخان بعصبية نحو صدره حتى بدأ الدخان ينبعث من بين شعر لحيته الكثة المبعثرة كما ينبعث البخار من عادم سيارة في صباح يوم بارد . تربع على الكرسي ونادى على صاحب المقهى بصوت وقور وبعبارة مهذبة:

أخي، لو سمحت أعطني كأسا من الشاي .

نظر إليه صاحب المقهى وقال له باستهجان:

ولكننا لا نبيع الشاي بالكأس، وإنما بالقدح . فان أردت قدحا من الشاي ناولتك واحدا..

نظر إلى صاحب المقهى بتأمل، ثم تساءل ضاحكا:

وما الفرق بين القدح والكأس ؟ كل منهما يمكن صبُ الشاي فيه . وإذا كان الثمن يختلف فانا سأدفع لك الفرق.

فنظر إليه صاحب المقهى ثم قال متباهياً :

نحن لا نشرب الشاي بالكؤوس وإنما بالأقداح . وملأ له قدحا ووضعه على المنضدة أمامه ولم يعقب بأي كلام.

فبدأ الرجل ينظر إلى القدح تارة وتارة أخرى إلى صاحب المقهى . هزّ رأسه مستغرباً وبدأ يدير الملعقة على مهلٍ وهو يمص بسيجارته التي لم يخرجها من بين شفتيه . ثم مصها مصة قوية ونفخ الدخان نحو الباب الزجاجي الذي صد الدخان وعكسه عليه حتى اختفى وجهه تماما . وعندما انجلى الدخان نظر إلى الشارع المزدحم بالسيارات و بدأ يتمتم مع نفسه:

لا يشربون الشاي بالكؤوس،بل يشربونه بالأقداح ! وما الفارق ؟ لعل التسميات تعني كثيرا .... ولكنني لا أرى ثمة اختلاف، كل منهما وعاء يمكن ملؤه بالشاي، وكل منهما يعطيك متعة شرب الشاي منه . لعل صاحب المقهى لم يعجبه مظهري، ملابسي بالية، غفت عليها سني عمرٍ طويل، لحيتي التي تنبعث منها رائحة التبغ والدخان الذي أنفثه، كل هذه ربما أدت إلى أن يشمئزالرجل مني، ولكنّ أهل هذه المدينة طيبون لم يقيِّموا الناس بناء على مظاهرهم، هم ينظرون إلى الفعل والقول أكثر مما يأخذون بالمظاهر، يرحم الله جدي كيف كان يشرب الشاي، لربما كان يكرعه أو يغترفه، لا ادري ربما لم يتعود جدي شرب الشاي وحتى لم يتذوق طعم التبغ . أووووو.... لم يكن جدي متمدنا كما نحن اليوم، أصبحنا نشرب الشاي بالأقداح الزجاجية المذهبة ورغم جمالها لكنها لا تشبع وتبقيك تطلب المزيد . ولكن يا ترى لا ادري هل تغزلوا بالكأس أكثر أم بالقدح أكثر . ليتني اعرف . ليتني كنت شاعراً، حتى أخلّد الكأس بشعري وانتصر له أكثر مما حاز عليه القدح..... لكن ربما هذا الرجل على حق : هم لم يقولوا قدح المنون بل قالوا كاس المنون لذ يفضل هؤلاء القوم شرب الشاي بالأقداح.

لما فرغ الرجل من شرب الشاي نهض، ناول صاحب المقهى ورقة نقدية، فتح الباب الزجاجي استدار حتى واجه جميع الجالسين وقال:

لا تشربوا الشاي بالكأس أبدا لأنهم قالوا كاس الردى وكاس المنون ولم يقولوا قدح الردى وقدح المنون.

***

قصة قصيرة

حمودي الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم