صحيفة المثقف

قراءة في قصيدة (الهياكل المضيئة) للشاعر طالب عبد العزيز

حيدر عبدالرضاتقصي محاور الأشياء وفاعلية المخاطب الشعري

توطئة:

من المهمة الشاقة التي يواجهها الناقد الشعري، هي اليوم تكمن في كيفية دراسة المجموعة الشعرية، حفاظا منه على مسار أدواته الإجرائية التي هي من الدقة والمعاينة الموضوعية الجادة، ودون إغفاله لأحدى الجوانب في مكامن المجموعة الشعرية، لذا ارتأينا أن نعاين قصائد مجموعة (تأريخ الأسى) للشاعر طالب عبد العزيز حرصا منا على حيثيات دلالات النص فيها، حيث نتعامل وإياها في حدود من الاستقلالية المبحثية الخاصة أي نتعامل مع كل قصيدة بدراسة خاصة، وذلك نظرا لأهمية هذه المجموعة الشعرية في تجربة هذا الشاعر الثمانيني العقد في نموذجه الشعري الرصين، لذا اخترنا على أن يكون محور مبحثنا في طيات هذه الدراسة هو تقصي محاور الأشياء في حضورية ضمير المخاطب في القصيدة، وعلى هذا النحو سوف نتعامل مع قصيدة (الهياكل المضيئة)، لكونها تبدأ بجملة المخاطب الآنوية، والتي راحت تتلمس لذاتها خصوصية علاقتها مع محاور الملفوظ والتلفظ من فاعلية وخاصية شعرية المخاطب:

معنيٌّ أنا، أكثَر مِنكَ

بهذا الصَّباح  .. أيّها الأفقُ الأبيضُ

معنيٌّ، بهذهِ الشّموس

التي تنطفئُ على رملِك، كلَّ مساء

معنيٌّ أكثرَ مِنك بقطيعِ السُّحُب هذا . / ص21

و على ضوء هذه السياقية المحتدمة بحسية الأولى والأولوية من مشروعية الأنا الفاعلة في مقاطع النص الأولى، نستشف مدى العلاقة المحورية لدى الفاعل الشعري، وهو يدب بصورة الكينونة التقديرية نحو تجسيد ذلك المستوى الخاص من الاستجابة لديه إزاء محاور الأشياء (معني أنا = أكثر منك ـ علاقة استجابة مراوغة) وقد يكون لها أهميتها من جهة وجود حالة الشروع في تفكيك المراد الشعري من ذات الشاعر، ومن جهة أخرى لها الضرورة في تحديد محاور العلاقة الممتدة ما بين (المرسل ـ المرسل إليه) لغرض خلق آلية مستوعبة في شكلها المفترض : (بهذا الصباح .. أيها الأفق الأبيض) وقد تكون وظيفة الأولوية تابعة لجهة الأداء من أنا الشاعر، حيث يمكننا فهم بعد ذلك مدى العلاقة ما بين (جهات الموضوعة ـ مرسل وفاعل منفذ) أي بمعنى ما أننا لا يمكننا ربط حالات وكفاءة جهات الموضوعة دون معرفتنا بخصائص أولية المرسل في محقق الفاعل المنفذ، وهذه العلاقة ما بين الأطراف تبقى بمثابة المرحلة التكوينية ـ النواتية ـ بين مراحل وبنى وصفات واصلة الأولويات على صعيد الاتفاق المرسل المبثوث في هيئة الأمثلة والإمكانات السببية في الأداء الشعري المركز، (معني، بهذه الشموس .. التي تنطفئ على رملك، كل مساء .. معني أكثر منك بقطيع  السحب هذا) يمارس المرسل في علاقة الأحوال هنا كفاءة المعطى، داخل جمل تراتيبية مقيمة في أواصر الحال والاشارة إلى (ملفوظ حالة) فيما تبقى علاقة الفاعل الشعري كوسيلة تناظرية بين (مرسل فاعل ـ علاقة جهاتية ـ كفاءة التفعيل) وهكذا تواليك الصورة المتحولة في وجهة نظر الفاعل المنفذ، كوسيلة في إطار علاقة تراتيبية كقول الشاعر الآتي:

بإوزِّكَ وشياهِك ورُعاتِك

بالمرأة الحليبيّةِ على الشرفة

تكوِّر شعرَها إلى الخلف

أو تمسحُ عن وجنتيها القبل . / ص21

المعنى المتحول هاهنا، هو بمثابة المرسل، في الحال لبنية الملفوظ، حيث يتم في علاقة موضوعة تتكاثر من حولها جهات محاور الأشياء، اقترانا بذلك الفاعل المنفذ، وعلى هذا النحو نتبين جهة المرسل إليه كفاعلية متحولة في مؤشرات الواصلة الملفوظية، مما راحت تشكل بذاتها اتفاقية مؤولة، من شأنها ضم الحالات الموصوفة في علاقة (مرسل / فاعل) ثم بالتالي يتم تحديدها كموضوعة قصد أو حالة إيحائية في معطى وجهة النظر التابعة للفاعل المنفذ نفسه .

ـ دينامية موقع الدال الفاعل ومرايا شعرية القصد .

المرايا الشعرية في عوالم تجربة طالب عبد العزيز، تقتضي وجودا لشيء أكثر بينية، إذ يتمراى فيها المرسل في حدود تلفظات تبادل صوري أو أنه النظير الآخر من المرئي، وصولا إلى ذلك التشخيص الاعتمادي بين ثنائية (العلاقة ـ المرآة) وقد تكون شعرية المرآيا محولة للأمساك بصورة طيف حسب جسدا للفاعل المنفذ، ويضاف إلى هذه العاملية كائنية أخرى من المرآة الكامنة، والتي لا تحكي عن ما لا يرى بالعين، أو أنها تأبى الإفصاح عن ما تخبئه الأعماق، غير أننا سوف نعاين من خلالها رؤى القصد المراوي تحديدا، ليكون لنا ظلا عبر خيال وانعكاس صورة محاور الأشياء هاجسا فيها :

معنيٌّ أنا .. بالفراملِ، تغرغرُ باردةً على الإسفلت

بالمركباتِ المُسرعات،بالجالس النحيل قربَ النافذة

وهو يومئُ ثانيةً، دون أن تراه حبيبتُه

معنيٌّ أنا، بكفِّه التي عادت خاليةً . / ص22

ففي هذه المقاطع تتأكد لنا دلالة المرآة الذاتانية للشاعر وقصديتها المراوية . فالفاعل المنفذ هنا يشكل بذاته المستقرئة لجل حالات الصورة المرآتية، والتي هي محاورا مبثوثا من جهة الفاعل نفسه، لذا تظهر لنا في جملة المخاطب (معني أنا) اعتمادا على خلفية الرائي المتواري عبر ممكنات صور الأشياء في المرآة، وهذه المحاور من صورة الأشياء، هي ما يأتلف مع حاصلية الاستجابة المتتالية من خزين رؤى (الشاعر / الفاعل المنفذ)وصولا إلى جمل المحمول (بالفرامل، تغرغر باردة على الإسفلت .. بالمركبات المسرعات) وهذا الإفضاء بما يمكن التعبير عنه، سوى من جهة الفاعل / المرسل، إذ من خلاله ترتبط خصوصية محاور الحالات في صوته، وبطريقة مغايرة في كيفية الاتفاق مع توالد الوحدة القولية في النص، والتي تنتهي بجملة (معني أنا، بكفه التي عادت خالية) وهذا النوع من التفاوض والترويض مع خيبة (بكفه التي عادت خالية) تكمن فاعلية الأجدى في واقع علاقة الفاعل المنفذ إزاء محاور الحالات المنعكسة في مرآيا ذاته . إذ أنها المستوى القصدي في متابعة محور جهة الموضوعة، حيث يؤاخي هذا الفاعل ما بين صورة المرآة في ذاته وربطها ضمن قيمة فعل الفعل .

ـ سيميائية العلامة وتصوير معنى الأداة .

من الأهمية أن ندرك بأن العلامة النسقية في جملة السياق الشعري، مسألة في غاية الدقة والعناية في رؤية أبعاد الإشارة القصدية في مكون دليل / أداة، أي بمعنى ما أن الشاعر من جهة خاصة، كان يسعى إلى تصوير محاور الأشياء ضمن كيفية خاصة من أسلوب العلامة المتحولة، وما يترتب عليها من أمكانية أرسالية تصويرية مكينة :

معنيٌّ أنا بالخناجر، أكثرَ منكَ أيّها القتيلُ،

و كما جالتْ في خاصرتِك .. جالتْ في خاصرتي . / ص23

في هذه النماذج من النص، نعاين بأن العلاقة ما بين (الفاعل المرسل ـ جهة الموضوعة) تتقاربان في وحدات معادلة خاصة من التأطير والتضمين، لذا تبقى من خلالهما قابلية الموصوف العلاماتي هي الأدل بمظاهر ذلك التبادل بين (الشاعر = محور الأنموذج) وبهذا الأمر نستشف مدى مألوفية وظيفة العلامة في كلا الحيزين، خصوصا وأنهما حلا في حدود توافقية جملة (معني أنا بالخناجر .. أكثر منك أيها القتيل) فهذه الملاءمة الأحوالية في سياق الدلالة، تؤثث لذاتها المعنى المراد من قول الشاعر الملازم (أنا معني) أي بمعنى ما أصبحت العلاقة العلاماتية بين مسببات الظرف المتكون من الحادث والحدوث، بمثابة الصورة التقابلية في حدود فاعلين متقابلين :

معنيٌّ أنا أيّها القاتل .. بيدكَ الصَّماءِ هذه،

بالدمِ الأبيضِ على ثوبكَ

بخنجركَ، الذي ألقيتَهُ في النهَّر

وكما تطاردُك الأشباحُ ... يطاردني خيالُك الأحمرُ . / ص23

القسم التالي من المقاطع، ترتكز على بنية دال (القاتل) بعدما كانت في المقاطع السابقة الأداة مقصورة على تجسيد صورة المقتول، حيث تتضح لنا في هذا الحال التمفصلي حدود دلالة القاتل عبر نوعية من العلاقة الممتدة ما بين (الفاعل المنفذ ـ القاتل= علاقة تقابل) وصولا منها إلى أولوية المعنى المراد في جملة (معني أنا) كلازمة تمهيدية لكل سياق علائقي محدد من قبل الشاعر نفسه (معني أنا أيها القاتل .. بيدك الصماء هذه) والعلامة القصدية تبقى هنا متراوحة في دائرة بنية تقابلية ذا علاقة تمثيلية وتماثلية في وظيفة المحور الدلالي الخاص بجملة (بالدم الأبيض على ثوبك) ولكي يتم ذلك المتعدد في موضعية العلامة القادرة على استيعاب المحتوى من التصور، تقودنا جملة (بخنجرك الذي ألقيته في النهر) نحو مكامن ظرفية المكانية، اقترانا بذلك المستوى المخبوء من مسار توالد دلالة جملة (وكما تطاردك الأشباح) من هنا يتبين لنا بأن أفعال الذات الشعرية هي بمثابة كاميرا المراقبة على مظهر دال القاتل وحركته في مساحة الفعل والوصف ولكننا بعد قراءة جملة (يطاردني خيالك الأحمر) نلاحظ بأن للفاعل الشعري / الذات الشعرية، ذلك المحرك والمحفز ذاته في مشهدية القتل والمقتول، إشراكا لخطابية نموذجية من ناحية هيئة الملفوظ والاستشراف على حيثياته العلنية والسرانية مجالا.

ـ تمفصلات الخطاب وهيئات الفاعل الغرضي .

نظرا إلى أهمية مدونات الفاعل المنفذ في محور القصيدة، نواجه الآن دوره الآخر في حالات الأكثر دقة ووظائفية تمثيلية حاذقة الصنع والتماثل في متعلقات صناعة المعنى الشعري في أحوال القصيدة :

معنيٌّ أنا.. أيّها السجّانُ، الذاهبُ إلى القلعة

بمفاتيحكَ الألف وغرفاتكَ المظلمة . / ص23

أن روح التواصل والتماهي مع حلم الفاعل الذاتي في جملته المأثورة (معني أنا) لربما تقدم لنا تلك الاستجابة في التشكل والتمظهر والتبنين والتشعرن بكل فاعلية المقترح الأحوالي في خطاب المكونات الشيئية في النص، وهذا الأمر ما جعلنا بدوره ننتظر مواقع حيادية الأولوية في مقولة الأنا الشاعرة، امتدادا لها على صور وعلامات حركية الحلقات المشهدية في خطاب الأنا الفاعلة في جملة (معني أنا.. أيها السجان، الذاهب إلى القلعة) اللقطة الشعرية هنا بمثابة ذروة التمركز في رمزية الإثارة (السجان / القلعة) وتفصل اللقطة الأولى عن الثانية مساحة بينية بمعلوم خلفية (الغياب / العدم) ويمكننا عدها كحالة ضاربة في تجليات المتن الأولوي المتمثل بجملة (بمفاتيحك الألف وغرفاتك المظلمة) وتجتهد الماهية المخيالية بالفاعل الشعري إلى التوغل بشفرات سرانية هي من القبول والرفض الاعتباري في جملة اللاحق من النص :

أكثرَ منكَ أيّها الجنديُّ .. معنيٌّ أنا

بزوجتِكَ، التي تركتها في السَّرير

بشعرِها، الذي سقطَ الثلجُ عليهِ مبكرا

بخَطواتها آخرَ الليل .. وقد تأخرتَ كثيرا ..

معنيٌّ أنا، ببكائها المرّ على الأريكة . / ص24

يتسع هذا التوصيف فنيا، ولكنه يتراجع اعتباريا من حيث القيمة والدلالة للجندي في النص، ويتخصص دلاليا محور النص حين يلتحق الدال (معني أنا) في مناطق هي من الجمال والقبح معا في الذاكرة المتخيلة الشعرية، مما يحقق للنص علاقة موازية بين دلالة الملازمة ونسق الرؤية الشعرية .

ـ تعليق القراءة :

لاشك أن قصائد مجموعة (تأريخ الأسى) تحتل لذاتها ذلك الموقع الأبداعي الرصين في خارطة شعرية طالب عبد العزيز، كما أن قراءتنا لجملة قصائدها، ما هي إلا علامة على حيوية ومركزية هذه المجموعة المؤثرة فينا دائما .. أما الحال في قصيدة (الهياكل المضيئة) موضع بحثنا، فهي من الأهمية التي لا تعد ولا تحصى شعريا، خصوصا وأنها قصيدة تصب في أقصى حالات الذروة الاستحواذية للشاعر في مساحة الأفعال والصفات والعلاقات الوظيفية في النص . فيما تبقى جملة اللازمة (معني أنا) كمستحدثة لزومية في اطارها العتباتي في أول كل جملة جديدة من مشاهد النص، ذلك وحتى مرحلة ختامية القصيدة :

أيتها الطبيعةُ الخرساءُ

بحفنةِ العشبِ على قبورِ قتلاكِ المجهولين

معنيٌّ أنا

معنيٌّ أنا

أكثر مما تقصدين . / ص25

تتجه نداءات طالب عبد العزيز أخيرا، بصرخة عدمية كاشفة عن مدى إيقاعية خواء تفاصيل الحياة وشحوبها على ملكوت أشياء الشاعر الزاحفة نحو أوهام ومظاهر الحياة المرئية، والتي كان الشاعر هو الأحق بالفوز بها ما دام يمتلك فرادة الأحساس وشعرية التلون معها في سياق من تداعيات محاور الأشياء وفاعلية المخاطب في أسطرة وقائع الأشياء .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم