صحيفة المثقف

الألتروفوبيا أو فوبيا الآخر

محمود محمد علي"الآخرون هم الجحيم" .. هكذا قال المفكر الفرنس سارتر، وهي العبارة المثيرة للجدل لكونها تحاكي شعور الكثير من الناس تجاه الاخر المختلف، وحول هذه العبارات يدندن كثيرون من كُتاب وأدباء وفلاسفة ونقاد .. يقول وديع سعادة : الآخرون ليسوا جحيماً فحسب، الآخرون هم عدمنا"، وحين ننظر إلي واقعنا الديني والاجتماعي، نجد أنه قد اصابتنا جميعا الألتروفوبيا أو فوبيا الآخر.

والألتروفوبيا أو فوبيا الآخر، أو الغيرية المرضية، مصطلح يعبّر من خلاله علماء النفس عن ظاهرة كره الآخر واعتباره عدوا، ذلك الآخر المغاير في الدين أو الثقافة أو الحضارة. فانطلاقا من عقدة التسامي التي تعتبر واحدة من الحيل النفسية التي يلجأ إليها الأفراد أو الجماعات في مراحل الضعف والتخلف، تسعى بعض الحركات للتخلص من حالة القلق الذي ينشأ بداخلها، نتاجا لحالة صراع أو وضع حضاري أو علاقة قهرية بين الغالب والمغلوب، ومن خلال الاستعلاء على من تعتبره آخر عبر المفاضلات السجالية، لأن تقف حاجزا أمام عملية تقابس استراتيجية للاستنهاض، الأمر الذي يدعو إلى البحث في مفهوم الآخر وخلفياته المعرفية، ودراسة معطيات الخبرة التاريخية في التعامل مع هذه المغايرة من حيث الدين والحضارة والثقافة، والتساؤل عن آثار تلك الحواجز التي يضعها البعض في طريق التثاقف والتمازج بين الحضارات من جهة، والمعارف الإنسانية من جهة ثانية وذلك حسب قول أسماء بن قادة.

والفوبيا أو ما يسمى بالرهاب هو رد فعل مصحوب بخوف مفرط وغير منطقي، يحس فيه المريض بخوف عميق أو ذعر عندما يواجه مصدر هذا الخوف أو العامل المحفز له، ويمكن أن يكون الخوف من مكان أو موقف أو شيء معين، وعلى عكس اضطرابات القلق العامة، عادة ما يرتبط الرهاب بشيء محدد ومستمر، ويتراوح تأثير الرهاب من مزعج إلى معيق شديد، إذ غالبًا ما يدرك الأشخاص الذين يعانون من الرهاب أن خوفهم غير منطقي، لكنهم لا يقدرون على القيام بأي شيء حيال الخوف ومصدره، ويمكن أن تؤثر مثل هذه المخاوف على الأداء بالعمل والمدرسة والعلاقات الشخصية.

وفي الغرب يطغي الحديث عن الإسلام فوبيا، كما يمكن أن نتحدث عن الغرب فوبيا في بلادنا، بل لقد تجاوزناها إلي الإخوان فوبيا، والسلف فوبيا، والعلماني فوبيا، والليبرالي فوبيا.. حالة من المخاوف والمخاوف  المتبادلة باتت تحاصرنا وتهدد بقاءنا وسلامنا وإتزاننا واستمرارنا، وربما أكثر من الحروب والأوبئة والفيروسات، حالة من الخوف والربط بكل ما يشبهنا .. لماذا نخشي الآخر؟ .. لماذا لا نتعرف عليه؟ كما قال تعالي (لتعارفوا) .. لماذا لا نفهمه كما هو لا كما نريد؟ .. كيف نتجاوز حالة فوبيا الآخر ونتعايش كأنداد .

في هذا المقال نحاول أن نجيب علي تلك التساؤلات حيث يمكن القول: جاء الآخر إلي بلادنا غازياً محتلاً، يحمل البندقية، وبها بفرض نفسه وأفكاره وتصوراته .. انقضت الحقبة الاستعمارية، وتحررت الشعوب العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبقيت ثارات التاريخ وتيارات الرفض العربي تجعل من الآخر عدوا، ومن أفكاره خطراً، تجاوزت فوبيا من الآخر محطات الرهاب الديني  إلي الرهاب الفكري والايديولوجي .. الآخر داخل الداتا الحضارية فصار في الوطن الواحد آخر، وفي الثافة الواحدة آخر، وفي الدين آخر، وصار التنوع سببا للصراع .

إذا نظرنا إلي القرآن الكريم، نجد الآخر الديني حاضراً [افكاره وحججه وبراهينه، لم يخفيها القرآن، بل يردها ويفندها، ويمنح أصحابها دوماً حق الرد، بل ويطالبهم به، وفي التجربة التاريخية للمسلمين امتدادات لهذه الرؤية، ونماذج مشرقة، لاحترام الاخر اليهودي  والمسيحي، وبيئة فكرية حرة، سمحت للآخرين بالمناظرة عن دينهم، كذلك نجد حضورا للآخر الحضاري متمثلا في ترجمة تراث السابقين شرقا وغربا وشرح أفكارهم ونقلها نقلا أمينا، سواء اتفقت في مقرراتها مع رؤية المسلمين أو اختلفت معها خلافا حادا وجذريا، الأمر الذي جعل من جهود المسلمين جسرا عبرت عليه حضارة العالم القديم إلي العصر الحديث، واليوم غابت هذه الروح الواثقة، وخلف رهاب الآخر بأمراض أكثر خطورة، تمثلت في تصورات سوداوية للدين والدنيا، جري الاحتيال علي التراث الإسلامي، وتكررت محاولات نسبته إليه ليبدوا تراثا عدائيا دمويا علي غير صورته وحقيقته، وما تنطبق به أدبياته علي امتداد التاريخ  .

ولعل بقايا الإسلاموفوبيا تجيء من بقايا ذاكرة الحروب الصليبية، إلا أنها تتجدد سياسيًّا، وبشكل واضح في العشريتين الأخيرتين، وقد تقننت سياسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا بعد هجوم 11 سبتمبر ضد المجمع التجاري الأميركي. لقد مثلت أحداث 11 سبتمبر المفصل التاريخي للإسلاموفوبيا، بحيث أصبح كل ما يمت للإسلام مرتبطًا عضويًّا بالإرهاب، وانتقلت عدوى الإسلاموفوبيا من النخب إلى العامة، فأضحت الإسلاموفوبيا مرضًا اجتماعيًّا عامًّا متفشيًا في كل الطبقات الاجتماعية الأميركية والأوربية. ويجب التنبيه إلى أن كثيرًا من المصابين بعلّة الإسلاموفوبيا لا يفرقون بين «العربي» و«الإسلامي»، فهم لا يتصورون أن هناك عربيًّا مسيحيًّا، أو عربيًّا يهوديًّا، فكل عربي في مخيال الإسلاموفوبي الأميركي أو الأوربي، هو مسلم بالضرورة. ومن ثم فهو إرهابي بالحتمية الدينية. وقد ساعد على تنمية ثقافة الإسلاموفوبيا، ظاهرةُ الإرهاب التي أصبحت مادة الإعلام العالمي، وشبكات القنوات التليفزيونية؛ إذ تحولت إلى أجهزة ملحقة بوزارات الدفاع وبالجيوش، التي تجوب العالم برًّا وبحرًا، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، ومن هذه الحال تعممت الإسلاموفوبيا في الاجتماع، والسياسة، والدين، والثقافة، والإعلام، والسياحة، والاقتصاد، والمال، والأعمال  وذلك  حسب قول الروائية والشاعرة والاكاديمية ربيعة جلطي.

إن الحرب على الإرهاب وما أعقبها من تفكك في بنية الدولة التي تنحدر من منتصف القرن الماضي، دولة نتاج الأيديولوجيا الوطنية أو القومية التحريرية التي لم تعد صالحة للاستعمال السياسي في هذا القرن، نتج عنه بروز ظاهرة ثقافة الاستبداد، والغضب، والرفض، والكراهية، مصدرهم عنصرىّ، بالدرجة الأولى، ثم ثقافى ونفسى، مردُّه إلى الخطاب الاستعمارى نفسِه الجاهلِ بالإسلام والمُخَوِّف منه ومن المسلمين، بحكم سابقِ ريادةِ الحضارة العربية الإسلامية للعالم فى القرون الوسطى، ولذلك نجد في (تأثير الإسلام فى أوروبا العصور الوسطى) لكاتبٍ مستشرقٍ، يقول: ((.. نحن الأوروبيين، نجهل الفضلَ الذى تدين به ثقافتُنا للإسلام، وفى بعض الأحيان نستخفّ بمدى التأثير الإسلامى فى تراثنا وأهميته.. وفى أحيانٍ أخرى نتجاهله كليّا؛ ولبناء علاقاتٍ جيدة مع العرب والمسلمين، يجب علينا الاعتراف بهذا الفضل كاملا، فإنكاره ليس إلا كبرياءً زائفًا".

وقبل أن يستفحل الداءُ فى حياتنا المعاصرة، علينا فَهْمُ علله، وتحرّى سُبّلِ علاجه.. إنَّ إحكامَ العقل والمنطق فى مثل هذه الأمور والقضايا ضروريٌّ، لتفادى الوقوع فى فخ الإسقاط والوهّم، أو الفهم الخاطئ والشعور بالدونيّة..ونحن خيرُ أُمّة!.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..........

1- أسماء بن قادة: الألتروفوبيا أو فوبيا الآخر.. إلى متى؟ .. مقال .

2- ربيعة جلطي : في النقد الثقافي: فوبيا الخوف من الآخر.. مقال .

3- حبيبة محمدي : الإسلاموفوبيا بين الحقيقة والوهم.. مقال .

4- فوبيا الآخر.. قراءة ثانية – YouTube.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم