صحيفة المثقف

هل كان ذو القرنين هو كورُش ملك فارس؟

يسري عبد الغنيذو القرنين هل هو كورُش ملك فارس؟ الإمبراطور الذي أعلن في أوج سلطته قبل 2500 سنة أنه لن يتولى الحكم إذا كان مخالفا لإرادة الشعب وتعهد بألا يرغم أحدا على تغيير ديانته وصان حرية الجميع

في حياض حضارة الشرق القديم تفاعلت الحضارات الأكادية والسومرية والأشورية والبابلية والفارسية. ووصلت تأثيراتها إلى الحضارة الفرعونية والفينيقية والإغريقية. في حضارات ذلك الشرق القديم اُخترعت الكتابة نحو 5000 سنة قبل الميلاد.

وظهرتْ بدايات التفكير الفلسفي والبحث في سرّ الحياة والموت، حيث كانتْ مسرودات الأساطير والخرافات والتنجيم مهيمنة على المخيال الاجتماعي في تفسير غموض قوانين الطبيعة المُغلقة، قبل أن تنطلق "مغامرة العقل الأولى" نحو التلمس العلمي (الابتدائي) لفهم قوانين الطبيعة والانتفاع بها في خدمة تفكير الإنسان وأعماله.

ووفقا لموقع قنطرة الالماني فأنه من هنا بدأتْ مبادئ علم الفلك والحساب والهندسة والطب... ومع تطور اللغة المكتوبة، عبر زيادة ثراء مفرداتها وتنوع تراكيب جملها، انطلقتْ حركة التدوين على ألواح الطين المفخور. ولما تعاظمت أعداد مدوناتها وتنوعت مضامينها قام الملك آشوربانيبال (668-626 ق.م.) بتأسيس مكتبة بانيبال الملكية في القرن السابع قبل الميلاد كي يُحفظ فيها كل ما هو مكتوب على آلاف ألواح الطين المفخور، والتي جُمّعت من أنحاء الإمبراطورية بما في ذلك قصور الملوك السابقين.

ويقال إنها احتوت على أكثر من مائة ألف لوح طيني. شملتْ، إلى جانب مدونات الشعائر الدينية وتعاويذ الكهان والسحر والتنجيم والرجم بالغيب، حوليات زمنية متسلسلة لتاريخ الملوك والأحداث الملكية ومراسيم ومراسلات الحكم، ولوائح الآلهة ونصوص الأساطير، وتنسيب طبقات الناس ومهنهم، وأصناف الغذاء.

وكذلك شملت مدونات علمية متنوعة ومبوبة تُعنى بأنواع النباتات والحيوانات والأنهار والجبال، والظواهر الفلكية وقواعد اللغة والحسابات والمعادلات الرياضية والوصفات الطبية.

وكان القيّمون على تلك الألُوف المُؤَلفة من الألواح الطينية يتبعون أساليب غير مسبوقة تاريخياً في التصنيف والفهرسة وابتكار نظام إعارة مبني على التنسيق الحسابي.

وهكذا، في فضاء تلك المعرفة الحضارية التأسيسية، جاء عهد الملك كورش الأعظم (مؤسس الإمبراطورية الفارسية) الذي هاجم بابل بقوة كاسحة وقضى على حكم سلالة نبوخذ نصر العام 539 ق. م.

لكن الملك كورش أمر جيشه بإطلاق سراح الأسرى ومعاملة الرعايا بالحسنى وعدم الاعتداء على أملاكهم وأموالهم وإعادة بناء المعابد المهدمة، ليتساوق ذلك مع إعلان نفسه محرر الشعوب مخاطباً ذاته:" ناضِل في سبيل الحرية متى استطعتَ. فالحرية والكرامة والثراء ثلاثة عناصر إذا ما اجتمعتْ حظيتْ البشرية بالسعادة القصوى. وإذا منحتَها لشعبكَ، فستكسب حبه إلى الأبد".

وخلال مدة حكمه (550 إلى 530 ق. م) -وقد تسمّى بـ" ملك جهات العالم الأربع"- توسعت الإمبراطورية الفارسية من آسيا الوسطي إلى البلقان، لتشكّل أكبر إمبراطورية في التاريخ. ضمت، بحسب تقدير كتاب غينيس، نحو نصف سكان العالم الذين قُدِر تعدادهم بـ 112 مليون وقتها.

أقام (ملك جهات العالم الأربع) حكم إمبراطوريته الواسعة على وصايا أخلاقية إنسانية، اُعتبرتْ كأول وثيقة لحقوق الإنسان في التاريخ. تتضمن الوثيقة مبادئ أساسية في إشاعة التسامح وحرية الاعتقاد والمساواة بين رعايا الإمبراطورية على مختلف أقوامهم وأعراقهم ولغاتهم. وقد تمّ، في العام 1879، اكتشاف نص الوثيقة منقوشاً باللغة البابلية/ المسمارية على اسطوانة من الطين المفخور، في مدينة بابل الأثرية بواسطة عالم الآثار البريطاني هورموزد راسام. كان تاريخ الأسطوانة الفخارية المكتشفة يعود إلى نحو ستمائة عام قبل الميلاد. وهي تسجل أعمال الملك كورش ومراسيمه وأفكاره.

وقد جاء فيها على لسانه: "جمعتُ شعوبها كافة وأعدتهم إلى أوطانهم، وبأمر من الإله العظيم مردوخ، تم إعادة جميع آلهة أرض سومر وأكاد التى نقلها نبونيد إلى شوانا، مما أثار غضب إله الآلهة، أعدتهم جميعا سالمين إلى مواطنهم، وإلى المقدسات التي تجعلهم سعداء.. وكانت قواتى تجوب بسلام بابل، ولم يكن لسومر وأكاّد ما تخشاه. حرصتُ على توفير الأمان في المدينة وحماية مقدساتها. أما سكان بابل، الذين عاشوا قهرًا لم يكن يجب أن يعيشوه، فقد هدأت من روعهم وحررتهم وحطمت قيودهم".

والإشارة هنا إلى تحريره أسرى الحرب المَسْبيِّين والمُستعبَدين في بابل. وكان اليهود أبرز المستفيدين من ذلك. إذ يسّرَ لهم العودة إلى أورشليم بعد ستين سنة من أسرهم وجلبهم عبيداً إلى بابل في عهد نبوخذ نصر الثاني الذي دمر هيكل سليمان العام 597 ق.م.

وقد أعاد كورش الأعظم بناءه على نفقته. ولذلك بجلتْه الرواية التوراتية، في مواضع عديدة، حتى أنها رفعتْ مقامه إلى مصاف الأنبياء، كما جاء في سفر أشعياء 28-45:" "الْقَائِلُ عَنْ كُورَشَ: رَاعِيّ، فَكُلَّ مَسَرَّتِى يُتَمِّمُ. وَيَقُولُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُبْنَى، وَلِلْهَيْكَلِ: سَتُؤَسَّسُ. هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ لِكُورَشَ الَّذِى أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ".

كما يعتبر عديد من المفسِّرين المسلمين أن الملك كورش هو المقصود بالتبجيل الرباني في سورة الكهف:" إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا".

وفي بلاد اليونان جرى التلاقح الحضاري بين الفرس والإغريق عبر رواية كبرى من سلسلة حروب طاحنة تواترتْ لمدة خمسين سنة (499 ق.م ـ 449 ق.م) حيث استعمر الفرس المدن الإغريقية الواقعة على ساحل آسيا الصغرى (البرّ الأيوني) التي تقع اليوم في أراضي الأناضول التركية، وإليها جزر بحر إيجة، وتحديدا، كريت وقبرص. وكان إقليم البر الأيوني، والجزر المُلحقة به، يمثّل مهد الحضارة الإغريقية الناهضة حينذاك، بتأثيرات سابقة من مستعمرات الفراعنة والفينيقيين، الذين غزو واستوطنوا مناطق عديدة في ذلك الإقليم قبل تواجد الفرس بأمد بعيد.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم