صحيفة المثقف

الشجرة في سيمياء النّون.. قراءة في قصيدة: وليدٌ بعدَ مَخاض

نور الدين حنيفللشاعرة غادة شعراني رسلان

تمهيد: قالتْ.. عفوا، لم تقلْ، بل رسمتْ ونقشتْ بمادة الشّعر لوحة فنية لا تَهذي، وإنما تُهدي.. تُهدي إلى عيون القرّاء متاهاتٍ صاخبةً في لغة الهمس، وتختارُ – حتّى لا تنثَني عن فعلَيْ التّكثيف والتشنيف – أصباغا ترفض أن تمتص وحدة اللون في بساطة التسجيل، وتروم استيعابها في اختلافها وتداخلها وتشعّبها، في إدهاش التخييل، حتى يستقيم العزف النسوي عل وتر القريض عزفاً رابِتاً، يتخيّر في القول لذيذَه وعميقَه . وقبل هذا وذاك، يتخيّر شديده في عمليات سريرية حريرية تُشرِّحُ الذاتَ النوعية الموصوفة تجلياً صوفيا في القصيدة النثيرة الموسومة ب (وليدٌ بعد مخاض) .

وأنت تقرأ لغادة شعراني الشاعرة السورية، إنما تقرأ لمبدعة اختارت رهان الكلمة في أزمنة تخشّب الكلام، وسطوة الرّداءة، واختلاط حابل الشعر بنابله . فامتطتْ صهوة التخييل المجنّح والبعيد والمحلّق في سماوات الإدهاش النوعي الذي ينضح ببصمتها المميّزة.. وهذا الكلام ليس تخريجا اعتباطيا جزافيا يروم عشق الكلام في الكلام، وإنما هو درسٌ مسؤول ومنهجي يقوم على استقراء مجموعة من العلامات في البنية التركيبية للقصيدة، داخل رؤية نقدية تمتلك أدواتها الفاحصة بمرجعية واضحة، في أفق تأويلي مشروط لا يُقوّل المتن الشعري ما لم يقلهُ .

 

= سيمياء النون:

في مقاربة المتون الإبداعية كيفما كان جنسها، ينطرح السؤال الآتي: من يستدعي من؟ هل المدخل النظري هو ما يستدعي طريقة مقاربة النص أم العكس؟

وفي سياق (وليد بعد مخاض) يبدو واضحا أن النص هو ما يفرض مدخله المنهجي في القراءة وفي المقاربة . وإن قراءة أولى لهذا المتن تفضح العقد الضمني المشروط بين طرفيْ اللعبة الإبداعية والتي يحوكُ غزْلَها ناقدٌ ومنقودٌ في ثنائية اللغة والميتالغة المشهودة داخل عمليات التأويل المسيّجة بالنظر العلمي لا بالنظر العاشق .

تنضح هذه القراءة وفي أول تماسٍّ، بطبيعة المدخل، إذ تكتشف الأذن، أنّ الإنشادَ يتلو عليها تراتيل هذا المحكي البديع، في صوغٍ قوليٍّ أسلمَ السيادةَ لصوت النون كنسق يحكم التركيب والدلالة . كيف تمّ ذلك؟

دعونا قبل إجراء عمليات التفكيك لأوصال المتن الشعري في قصيدة النثر (وليد بعد مخاض) للشاعرة غادة شعراني أن نعبر طريق النظر في الصواتة النونية .

يتميز حرف النون بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)1.

وأما المحدثون فقد متّعوا صوت النون بكثير من الوضوح السمعي، صنّفوه في إطار المخارج الأنفية التي تحدث فيها الأصوات عندما يمرّ النفس من الممر الأنفي في اللسان العربي . كل ذلك في مداخل بحثية أدخلت الصوت إلى مختبرات الدرس والقياس .

ونحن في هذا السياق لا يهمنا البحث في خصائص صوت النون في الصواتة العربية قديمها وحديثها بقدر ما يهمنا حضور صوت النون في القصيدة داخل إطار يرتبط أساساً بإنتاج الدلالة وتأويلاتها الممكنة .

يحضر صوت النون في قصيدة (وليد بعد مخاض) داخل مظهرين:

النون الصامتة: وتتكرر في النص 72 مرّة

نون التنوين: وتتكرر في النص 4 مرات

داخل نسق النون الصامتة استطعنا تتبع تراكمها فوجدنا ما يلي:

- النون في فعل الجمع: 31 مرة

- النون في اسم الجمع: 12 مرة

- النون في سياق الحرف: مرتان

- النون في حالة الإتباث: 26 مرة

- النون في حالة النفي: 04 مرات

- نون الخطاب: مرتان

نلاحظ هيمنة النون المتعلقة بفعل الجمع مثل (نتغادق – نتقن – نتسامر.. 31 ترددا) وهو تراكم لا ينبغي أن تمر عليه القراءة مرور الكرام، على اعتبار أن الصوت وخاصة في مجال الشعر هو موسيقى قبل أن يكون تلفظا . إن نسق النون الصوتي هنا غنيّ بالإحالات الدلالية انطلاقا من تراكمه البائن (77 ترددا لصوت النون في قصيدة نثيرة عدد أسطرها الشعرية ستّة وثلاثون وأغلب أسطرها ثلاث كلمات أو كلمتان أو كلمة واحدة) ودلالة ذلك واضحة ليس على مستوى تقييد المعنى وإنما على مستوى البحث في هذا التراكم الاعتباطي .

= نسق النون ومقولة (النحن):

يبدو أن هذا التراكم يروم قول الخفي والمسكوت عنه، في تحبير نسوي يرتقي بالشعر إلى مستوى المساءلة العميقة . وفي هذا السياق يختفي ضمير المتكلم لتختفي (الأنا) الفردية وتحلّ محلّها (أنا) جمعية ضاغطة وملحّة على الحضور، بحيث تختفي تماما الإشارة إلى ضمير المتكلم في القصيدة . وكأني بهذه الأنا الفردية تخشى أن تظلّ هيولى مسحوقةً بين اللاشعور وبين القوة المادية التي يكرّسُها الخارج المقابل لجوانية الذات المتكلمة في رؤيتها الغائرة.. فتلجأ إلى تجاوز هذا النفي الواقع عبر بوابة الإثبات الجمعي . هذه الأنا كانت واهمة بالملكية قبل اليوم وكانت واهمة بالسيادة داخل الوعي الفردي الموسوم في تأويلنا المنهجي بالقصور وبالسرابية، ومؤشر ذلك هو تغييب الشاعرة لحالة الكلام الفردية في القصيدة كلّها .

إن هيمنة المتكلم الجمعي، على مستوى الفعل (31 مرة) وعلى مستوى الاسم (12 مرة) هي في تقديرنا علامة سيميائية ترفض حالة التفرد سواء أكانت مكسبة أم مثلبة، وسواء أكانت إيجابا أم سلبا.. على اعتبار أن الذات ترى في التفرد نوعا من القصور على إدراك ماهية الوجود في وحدته وفي تناغمه .

من هنا رغبة الذات في التخلص من هذه المعادلة المحرجة القائمة على الوعي بحدود الأنا المفردة في تمثل الكينونة الحقيقية أو القريبة من الحق، في إشارة إلى أن الوعي الجمعي هو البديل الممتلك للتنسيب الوجودي المخترق لجدار المجهول عبر عملية التوحيد بين الأنا المُتشَيِّئَة والموجودة في الواقع وبين الأنا الفلسفية القائمة في ملحمة (النحن) الخالصة والمتعيّنة في سديمها المتعالي المميز بالثبات الجميل، وكذا، بالتحول الأجمل .

والثبات في هذا السياق يتعلق بهذين الأقنومين المشكلين لوحدة الوجود منذ بدء الخليقة، في غير مسافة، وفي غير تغاير وإن كان التباين هو ما يحدد مرجعية هذا الائتلاف، بحكم حدود الهوية . وهي حدودٌ إجرائية للتمييز بين الحدّين فقط، ولا تشكل بؤراً حاسمةً في تشكيل الماهيات .

إنّ الثبات في هذين الأقنومين أيضا، ليس شكلهما ولا جنسهما ولا اختلافهما، وإنما الثبات فيهما هو تجانسهما الجوهري في مقابل تشعبهما العرضي، في لعبة تبادل الماهيات حيث كان التشعب هو الأصل (آدم هو غير حواء) والوحدة هي الفرع (آدم هو حواء في سديم الوحدة الإنسانية) . لكن الشاعرة حددت من خلال رؤيتها الشعرية الماسكة بمارد الاختلاف داخل قنديل التخييل الباني لنسق فلسفي وآخر جمالي يتداخلان في حميمية بلاغية تصوغ لنا تشكيلاً قادما من مخيالها الواصف للوحدة داخل التعدد، والانسجام داخل التشعب، والتناغم داخل الاختلاف.. في امتطاءٍ جليل لصهوة النثيرة باعتبارها شكلا فنيا متمردا ومرنا وقابلا لاحتضان كل الدفقات المعنوية والنفسية والإيقاعية لترسيخ الرسالة الشعرية وبثِّها مشحونة بالكثافة الدلالية إلى ذلكم المتلقي الموسوم في ثقافتنا العربية بالنمطية والتشابه .

= سيمياء الشجرة:

تبدأ الشاعرة مشروعها الفني القائل بالتوحيد والتوحد والانسجام، بفعل جمع يستدعي وقفة نقدية متأملة . قالتْ في المطلع:

(نتغادقُ أثْمارَنا

و الأغْصانَ الْمعقودَة فينا

و نُتقن لُعبةَ الأسرار

..)

تحضر الشجرةُ هنا لا كوجود فيزيائي يستمد وضعه من ماهيته النباتية، وإنما كوجود نفسي ومعادل موضوعي لحالة متلبّسة في وجدان المتكلّمة، لا ترسم من خلاله علاقة الإنسان بالطبيعة كمجال منفصل ومحايد ومتشيّئ، بقدر ما ترسمها علاقةً تاريخية متجذرة في الزمن القابل للتحقيب أولا، وفي الزمن النفسي غير القابل للتحييز ثانيا: الأول يمتح مصداقيته من الإشارة النفسية لقدر الالتصاق القديم والأزلي بين الذات والآخر.. والثاني يرقى بالمتعيّن المادي إلى أفق الهيولى حيث تخرج الأشياء من طبيعتها \ الكوسموس إلى حالات إشراقية تلمّ المتشظّي في الواقع وتنسج منه لعبة الانسجام الكوني عبر صيغة الجمع النازحة من الصياغة النحوية إلى الكينونة الانزياحية الناطقة بألف دلالة .

إن ملفوظات (نتغادق + الأثمار + الأغصان) كافية لفضح وجود الشجرة التاريخية القابعة في الوجدان الجمعي للكائن العربي المشبع بثقافة الشجرة والثمرة (التفاحة) وما يترتب عنها من تداعيات تتأرجح بين الحقيقة اللّدنية " العلم الربّاني " وبين القشرات الخرافية التي ألبستها الذاكرة العربية لهذا المحكي الديني . إن وجود الشجرة هنا لا يعني تقييد دلالته في إعادة إنتاج الذاكرة بقدر ما يعني البحث المشروط عن قراءة لهذا الحضور الماكر.. فالشاعرة:

- استحضرت الثمار بدل التفاحة

- واستحضرت الأغصان بدل الشجرة

- واستحضرت اللعبةَ بدل ورقة التوت

- واستحضرت الأسرار بدل العورة

كتتويج لهذا الاستخلاص الرؤيوي الدلالي المشبع بالرغبة في تظهير كلّ تجليات التخييل الثرٍّ والمسؤول شِعريا عن جمالية القول والصوغ معاً .

كما أن صيغة الجمع في (تغادق، من غادقَ على وزن فاعَلَ) تفيد عملية الإشراك والمشاركة في الفعل.. (اعلم أنك إذا قلت فاعلته، فقد كان من غيرك إليك مثل ما كان منك إليه حين قلت فاعَلَ)2

و بالتالي فالتواطؤ هنا أساسي الدلالة، وهو لا يقف عند حدّ اقتراف الفعل، الموصوف بالقطف، بل يتجاوزه إلى الغلو في اقتراف الفعل والإيغال في طقوس هذا القطف، ومؤشّر ذلك هو فعل (غدق) في جذره اللغوي الدّال على الكثرة والغمر.. قال تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)3

و في لسان العرب (الغَدَق: المطر الكثير العامّ، وقد غَيْدَقَ المطرُ: كَثُر)4

و تفيد اللفظةُ، في بينونة كبرى، أنّ الغمر والغزارة والكثرة هي معانٍ حاضرة بقوة في سياق المحكي الشعري في هذا المطلع، بدلالتين: الأولى تفضح حجم الفرحة بهذا القطف الجَمَمِ والاستطابةِ فيه، والثانية تشي بالرغبة في اقتسام تُهمة الفعل أو صرْفها عن أحد الطرفين كما أشارتْ إلى ذلك القشراتُ السميكة المؤوّلة لتاريخ القطف وأكل الثمرة.. والسياق هنا ينمّ عن تواطؤ جميل تبدو فيه الذاتُ حامية للآخر والآخر حاميا لها عبر تبادل الأدوار في هذه اللعبة التاريخية (منظورالذاكرة) والمتخيّلة (منظور الشاعرة)، وذلك داخل محطّتين: واحدة ترتبط بلعبة الأسرار (ونتقن لعبة الأسرار) والثانية ترتبط بلعبة الظل (والأغصانَ المعقودة فينا) وهنا بالذاتِ، وهنا فقط، وصل الانزياحُ البلاغي قمّتَهُ في التكثيف اللغوي والدلالي، ذاك أنّ الأغصان تفيد الثمار، وتفيدُ أيضاً وأساساً ما يَرِفُ عن الشجرة من ظلالٍ.. وحيث أن الظل جسد لجسد، فإن هذا المنطوق غير واردٍ في سياق الصوغ الشعري العالي، وتستبدله الشاعرة في رؤياها الخاصّة بكينونة الظل المتحركة لا الثابتة، بمعنى أن الظل جواني لا خارجٌ منعكسٌ، والمؤشّر الدال كعلامة سيميائية مشبعة بالتحليل هو قولها (الأغصان المعقودة فينا).. ووحدها هذه النون الجمعية الملتصقة بحرف الجر كافية لتغطيةِ هذا البعد الإنساني الموحّد (بكسر حرف الحاء وبفتحها) والسائر في اتجاه بناء النص بناءً متعاليا (transcendantal) تجرّه إلى قدره الزماني تلكم الاحتفالية المشهودة بين الذات والآخر في سياق هذا الفرح الوجودي الممكن دائما..

= حدود النص:

و لا نقصد بالحدود عملية التنظير للنص كخطاب شعري داخل المحددات اللسانية بقدر ما نروم تأويل حدود هذا الانزياح المتني الكبير المجسّد في ثنائية الذات والآخر، والمعبّر عنه بذكاء نوعي متأتٍّ من الكتابة النسائية العميقة . وحتى لا نشطّ بالقارئ بعيداً نقولُ: إن الشاعرة اختارتْ لبناء هذا النص الشعري هندسةً خاصّةً للمعنى، أشّرتْ عليها بسيمياء البدء، وبسيمياء الختام، ونشرتْ بينهما مقولَاتها الفاضحة للعبة التشعب ثمّ الانسجام . كيف ذلك؟

دعونا نعود إلى المطلع \ الانفتاح، حيث فعل القطف يُمارَسُ على الثمار، قالت الشاعرة:

(نتغادق أثمارنا

و الأغصانَ المعقودة فينا

و نتقن لعبة الأسرار..)

ثم دعونا نلاحظ الختام \ الانغلاق، حيثُ فعلُ القطفِ يُمارَسُ على الإنسان، قالت الشاعرة:

(نتنامى

نُزْهر

نُثمر

و نُقْتَطف .)

هي إذن شجرة ماسكة بنسق النون، تحتفل بانبثاق الأقنومين (الذات والآخر) وتُشرِع لهما أبواب التوحد والانسجام ضاربة عرض الحائط كل أشكال الاختلاف.. وتحتفل بهما أيضا في وصول هذا الانبثاق إلى مرحلة النضج التّام حيث بإمكان الوجود أن يستفيد من هذين الأقنومين عبر عملية القطف.. وبين القطف الأول والقطف الثاني مسافة وجودٍ تجلّى بامتياز صوفي يتحرك في سيرورة بانية للانسجام عبر ذوبان الذوات في بعضها البعض حتى لا إمكان للتمييز بين هذا وذاك .

يتحدد القطف الأول سلوكا مشبعاً بالثقافة لأنه يحيل على مرجعية جماعية تختزنها الذاكرة وتتساءل عمّن أكل الثمرة . ويتحدد القطف الثاني كاجتهاد شعري يبنيه مخيال الشاعرة حتى لا تتكرر في الثقافة، وهو هنا لا يحيل على فعل الذاكرة بقدر ما يحيل على فعل تبنيه قناعةٌ فلسفية بالوجود، ترى في هذا التباين بين الكائنات وهذا التمايز مجرد وهم، وكل الحقيقة في التوحد وفي الانسجام وفي التناغم .

هكذا نستوعب دلالة القطف هنا في حدّيْنِ: القطف الأول فعلٌ يتمّ خارج الذات في حين أن القطف الثاني فعلٌ يتمّ داخل الذات .

و بين المطلع والختام، تختفي الشجرة تماماً، وتسلِمُ زمام الانزياحات إلى الوجود البيني كيْ يمارسَ تجربةَ العمار والعمران.. وهي تجربةٌ إنسانيةٌ تملؤها الشاعرة بعلامات سيميائية مختلفة، مادّتها أفعال الإثبات: (زرعنا – نتسامر – نتهادى – ننتشي – ننبعث - نتراشق – نولد – نتجاذب – نراود..) وحتّى أفعال النفي في هذا السياق لا يستقيم لها النفي، ولا تسير في اتجاه مناقضة مقولات الوحدة والانسجام.. أنظر مثلا قولها (فلن نغفو) فالنفي هنا مسند إلى فعل غير مرغوبٍ فيه، ذاك أن فعل اليقظة هو المطلوب في سياق تخشى فيه البصيرةُ غفلة الأقنوميْنِ أو غفوتهما:

(ساهرة يا عين بصيرتنا

نتثرين النور

تهابين غفوتنا

فلن نغفو..)

و مثل ذلك قولها:

(والهواجس الفارهةُ

تُعلي عقيرتَها

تصدح بما لا نُدرك

و ندرك حين نَسْمَعُنا

..)

 فالنفي هنا منسوب إلى الذات في علاقتها بالهواجس، وهو فعلٌ \ قرارٌ ما دامتِ الهواجس تمارس فعل الصراخ.. في حين أن الذات والآخر على استعدادٍ تامّ لإصاخة السمع لوحدة الذات فيهما على اعتبار أن سياق المقول يرحب بالهمس ولا يرحب بالصراخ، إذ الهمس أكثر توغلاً واقتحاما لمنظومة الوعي في الإنسان.. (ونُدركُ، حينَ نَسْمَعُنا) إشارة جليلة إلى أننا مدعوون هنا إلى إعادة النظر في كل أشكالِ الصخب التي بنتِ الإنسان العربي .

= خاتمة:

 إن البحث في قصيدة الشاعرة غادة شعراني رسلان مغامرة تستدعي من القارئ مجموعة من الأدوات الفاحصة، لأن مقولها لا يقف عند حدود النص اللسانية، بل يتجاوزها إلى عمق في التحبير وغور في التعبير، يستقطب المُقارِب والناقد والقارئ ويجرهم إلى متاهة فنية غنية بالدسم الدلالي لكنها مُورّطة بحكم متحها من معين المعرفة الثرّ.. ومن ثمّة ندرك أن التناسل الدلالي هو بيت القصيد في هذا التداول لأن النص في منطوقه اللفظي لا يدغدغ في القارئ عاطفة الحكم القيمي المتسرّع، وإنما يدعوه في وعيٍ نقدي مشروط إلى الاستماع الجيّد لمقول الشاعرة التي قرأتْ علينا قصيدة بحجم الحكاية البشرية الضاربة في عمق الزمن الإنساني منذ القطف الأول حيث الشجرة لذّةٌ ونبات.. إلى القطف الثاني حيث الشجرة إنسانٌ ومتاهات .

..

المتن الشعري: قصيدة (وليدٌ بعدَ مخاض) للشاعرة غادة شعراني

نَتَغادقُ أثمارَنا

والأغصانَ المعقودةَ فينا

ونُتقنُ لعبةَ الأسرار

فلا تُنجِبُنا أصواتُنا لُحوناً

ولا ترسمُنا أمانينا كما انتَخَبنا

هي النذورُ الماجنةُ

زرعناها عهوداً

ترأبُ صدعَ الرُّوح

نَتَسامرُ.. فَنُسعِفُنا

نَتَهادى.. فَنُنقذُ بقايانا

ونَنتشي.. فَنَنبعِثُ نبضاً

ساهرةٌ يا عينَ بصيرتِنا

تنثرينَ النُّورَ

تهابينَ غفلَتنا

فَلَنْ نغفو..

هذه الكأسُ.. نَتراشَفُها..

 تُنجِبُنا

نُولَدُ بطعمِ الشوكولاتة

ولونِ الحليبِ

نتجاذبُ قهرَنا على حوافِ الوقتِ

لاكتظاظِ رحمِهِ بنا

والهواجسُ الفارهةُ تُعلي عقيرَتَها

تصدحُ بما لا نُدرِك

ونُدركُ حينَ نَسمَعنا

نجمعُ شتاتَنا

آهاتِنا وأُنسَنا

ثم نغفو

نرودُ حلماً شاهقَ المعنى

تُجليْنا الرِّحلةُ نحوَ ذاتِنا

تُروِينا مشاقُ مسيرتنا

وبرغمَ جَلَبةِ الطِّين

وصخبِ الصُّراخِ

نَتنامَى

نُزهِرُ

نُثمرُ

ونُقتَطَف

***

نور أبوشامة حنيف

...............

الهوامش:

1 - محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40

2 - سيبويه، الكتاب، تحقيق عبدالسلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977، ج 4، ص 368

3 - الآية 16 من سورة الجن

4 - ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، طبعة منقحة، باب الغين، ص 3218

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم