صحيفة المثقف

كيف يري المستشرق الإيطالي "الدومييلي" العلم العربي

محمود محمد عليلاشك في إيطاليا تمثل مهد الدراسات العربية والإسلامية في أوروپا، فقد كان البابوات هم الذين وجهوا إلى دراسة اللغة العربية، ومن خلالهم صدر القرار البابوي بإنشاء ستة كراسٍ لتعليم اللغة العربية في باريس وناپولي وسالونيكا وغيرها، ولاننسي كيف تعاون مجموعة من نصارى الشام مع الكنيسة الكاثوليكية لنشر الديانة الكاثوليكية في المشرق، وقد بدأ هذا التعاون باتحاد الكنيستين المارونية والكاثوليكية عام 1575م، وقام المارونيون بترجمة العديد من كتب اللاهوت إلى اللغة العربية.

واستمر اهتمام إيطاليا بالعالم الإسلامي وظهر مستشرقون في المجالات المختلفة ومن هؤلاء على سبيل المثال المستشرق الإيطالي ” الدومييلي Aldomili ” في كتابة ” العلم عند العرب وأثره في تطوير العلم العالمي ”، والدومييلي لم يكونوا متعصبين ضد التراث العلمي العربي الإسلامي، بل كانوا  أكثر إنصافا، حيث أقروا بأن هناك علما عربيا، وإن ظل في إطاره العام يونانيا – فإنه قد أعاد النظر إلي العلم اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقديمه فيه قدر لا بأس من الاستقلال والإبداع والابتكار؛  حيث أكد بأن القسم الأكبر من العلماء العرب كانوا من الوثنين والمسيحيين واليهود والفرس، وهذا العلم العربي وإن كان قد تأثر إلي حد كبير بالعلم اليوناني والهندي والإيراني، إلا أن جانب عظيم من الابتكار والإبداع، وفي هذا يقول: ” ولكن ينبغي ألا تظن أن العرب لم يضفوا شيئاً جديداً إلي العلم الذي كانوا أوصياء عليه، بل علي النقيض من ذلك، وإذا كانت خطوات التنمية والإنضاج التي خطوها في هذا السبيل كثيرا ما ضاعت وتفرقت في الحشد الكبير من الكتب التي تركوها، فليست تلك الخطوات أقل أصالة وأبعد عن الواقع من أجل ذلك – وليس لأحد أن يقول كما يقرر ذلك بعض المؤلفين – أن دور العرب ينحصر ببساطة في المزج والنقل لمعارف الأقدمين التي لولاهم لذهبت أدراج الرياح، الأمر الذي هو في ذاته عنوان فخر عظيم وشرف لا يستهان به .

ثم يعلن الدومييلي إلي أن هناك علم عربي، وإن كانت التسمية بالعلم العربي مع كونها ليست دقيقة علي الإطلاق هي برغم ذلك أحسن العناوين التي يمكن إطلاقها علي العلم الذي ازدهر من القرن الثامن إلي القرن الثالث عشر الميلادي في البلدان التي سادها الإسلام والذي ظهر في الآثار العلمية وأنواع الإنتاج العلمي والأدبي .

ثم يناقش الدومييلي قضية أثارها كثير من زملائه المستشرقين حول هل هناك علم عربي أم علم إسلامي ؟

ويري الدومييلي أن التسمية بالعلم الإسلامي غير دقيقة علي الإطلاق وحجته في هذا أن كثير من المسيحيين واليهود والزرادشتيين والوثنيين قد قاموا بقسط وافر في إنضاج ذلك العلم. ثم يستطرد فيقول بأنه ليس من العدالة بحال أن نفصل الكتب التي ألفت في نفس المحيط بالسريانية أو الفارسية أو العبرية، فهي جميعا تؤلف وحدة من حيث روحها – ومن حيث التأثير المتبادل بينها بوجه عام – هذا التقسيم الصناعي المحض في كتب الآداب العربية والفارسية والعبرية  … الخ . وللحديث بقية!

يذكر الدومييلي أن بعض سميه من المستشرقين يريد أن يفهم هذا التقسيم، بمعني أن مؤلفي تلك التواريخ يعنون بقوالب الكتب التي يدرسونها في اللغات المختلفة أكثر من عنايتهم بالروح والجو الحقيقيين لهذه الكتب . بيد أنه حتى في هذه المجال يجد القارئ الحصيف مثل التقسيم متعنتا وغير     طبيعي .

ويوضح الدومييلي هذا بوضوح فيقول: ” إننا إذا رغبنا الدقة في استعماله ينبغي أن نقتصر علي العلم الذي يتعلق فقط بالشعوب التابعة للدين الإسلامي وعلي ذلك نستطيع أن نتحدث عن قانون إسلامي، لأن هذا يعترف بالقران والحديث أساسا له، كما يطبق فقط علي المؤمنين الحقيقيين، علي حين أن الأشخاص التابعين لعقائد أخري يخضعون لقوانينهم الخاصة  (الدينية بوجه عام)، بل نستطيع أيضا أن نتحدث عن علم إسلامي، ولكن بمعني يختلف عن المعتاد، حين نفهم من لفظ ” علم ” ذلك المعني الواسع المدى له عند العرب ناظرين إلي العلوم الإسلامية بوجه خاص أي الفقه وعلم الكلام الإسلامي.. الخ وعلي نقيض ذلك ينبغي أن يخرج من هذا المعني تماما ما نسميه اليوم بوجه خاص أي الرياضيات والطبيعة وعلم الأحياء.. الخ  .

وعن سبب اختياره تسمية ” العلم العربي ” بدلا من ” العلم الإسلامي ”، يعطينا الدومييلي ثلاث مبررات علي ذلك:-

المبرر الأول: أن القسم الأعظم من الآثار المتعلقة بالعلم العربي مكتوب باللغة العربية، فإن الإيرانيين – بعد سقوط الدولة الساسانية اتخذوا العربية لغة لهم – دون استثناء تقريبا في جميع كتاباتهم العلمية والأدبية، ولا نري كثرة استعمال الفارسية إلا بعد ذلك منذ نشأت اللغة الفارسية الحديثة ونظم الفردوس شعرة العظيم، بيد أن استعمال الفارسية الحديثة ظهر أيضا بادي ذي بدء في الآثار المصرية والأدبية الخاصة فحسب . أما الموضوعات الدينية والفلسفية والعلمية فقد احتفظت العربية فيها بسلطانها الكامل علي وجه التقريب إلي زمن متأخر جدا، ولم يتخذ الإيرانيون عادة استعمال الفارسية في كتبهم العلمية إلا نحو نهاية العصر الذي ندرسه .

المبرر الثاني: كان المسيحيون السريان – مع كثرة استعمالهم اللغة العربية – يستخدمون اللغة السريانية في كتبهم أيضا في جميع الأزمنة، ولكن من الواضح الجلي أننا لا نستطيع أن ننظر في شخص واحد كابن العبري أو إلي شخصين اثنين بأن نبحث كتبه العربية في مكان وكتبه السريانية في مكان أخر .

المبرر الثالث: ومثل ذلك يمكن أن يقال إلي اليهود في استعمالهم العبرية فإن العلماء العظام منهم، مثل إسحاق الإسرائيلي وموسي بن ميمون كتبوا جميع كتبهم تقريبا بالعربية ولكن كتبهم هذه سرعان ما ترجمت إلي العبرية . وهناك آخرون كتبوا باللغتين علي التناوب، وفي نهاية العصر الذي نحن بصدده نلاحظ عند يهود الأندلس غلبة ظاهرة للغة العبرية، بل نشاهد أيضا عندهم الميل إلي تعريف شعوب غربي أوربا بالكتب العلمية العظيمة المؤلفة باللغة العربية، وذلك بواسطة ترجماتها العبرية فمن الجلي أن جميع هذه الكتب التي كتبت بالعبرية يمكن عدها منفصلة عن جملة العلم العربي في دراسة تاريخية جادة  .

ويختم الدومييلي كلامه في ذلك فيقول: ” ومفهوم أننا نتحدث في هذا الكتاب عن العلم العربي بوجه خاص ” أي بالمعني الذي ذكرناه أخيرا ” ولكن تجنبا لكل التباس ينبغي أن نوضح بصراحة أنه في كل موضع نستعمل فيه لفظ ” عربي ” دون تحديد خاص (مهما كان المعني المقصود مبهما أو مختلفا فيه) فنحن نفهم من لفظ ” عربي ” وحده كل ما كان خاضعا للتأثير – المباشر أو غير المباشر للمحيط الذي بقيت إسلامية بعد استقلالها ”  .

من هنا يتضح لنا أن حديث الدومييلي عن العلم العربي يعني تلك الجهود التي بذلها الباحثون في العالم الإسلامي في مجال الدراسات العلمية (سواء كانت دراسات طبيعية أو رياضية) وما تمخضت عنه تلك الجهود من أعمال في هذا المجال سواء كانت هذه الأعمال في صورة مؤلفات أو مترجمات أو شروح أو هوامش تدور حول مسائل علمية، والباحثون في العالم الإسلامي هنا هم كل من ساهم في حقل العلم أيا كانت صورة هذه المساهمة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم