صحيفة المثقف

ترنيمة فاطمة (مقامة)

امين صباح كبةزعزعتني النائبات، وخنقتني العبرات، وأصبحت غريقًا في لجج التساؤلات، فجلت جولان الحائم، واستعذت بالحي الدائم، ولمّا لطمني ضياء البيضاء، قمت أجرّ ذيول الرجاء. وسرت بأرض تتمايل بها الأحلام، وتتفرّط فيها الأوهام.حتى أحلّتني حديقة، خضرة أنيقة، أغصانها وريقة، وطلولها وديقة، فتطلعّت منبهرًا إلى منابر الأغصان، وأزهار الأقحوان، واقتعدت لأحضر فصل الخطاب، واستمع إلى فنون الحديث المستطاب، فلما أبدى الروض ما لديه، وردّ الهواء عليه، قمت

(من بعد ما خطر الصبا بمقادتي

وجرى إلى الأمد البعيد جماحي)

 وقد طمرت وساوسي، وتشاغلت عن هواجسي، و تمايل في أذني صوت، فأخطرني بلفظه الخالب، وسحره الغالب، فلم استطع تعديه، ورحت أقتفيه،

ولما سمعه الناس أطرقوا رؤوسهم خاشعين، وظلت أعناقهم له خاضعين، ودخلوا تحت إمرته سامعين طائعين، وهتفوا له مبايعين، (وقالوا قد كنّا في غفلة من هذا إنّا كنا ظالمين)، فلما حلّ نورها، سلب الألباب بحظوره، وحيّر علماؤهم بوهج نوره، وسرت في الأرض رسائل البشرى، وأرسلت نعم الله على العباد تترى، ورأينا آياته الكبرى.ورددت الجموع مهللةً باسمة، أنشودة لحضرة فاطمة.

فلما روت روايتها غلّتي، وفرّجت رؤيتها كربتي، مزّقتني الأعاصير الآتية من داخلي، ورحت أطمر وساوسي حتى ارتدى الدجى جلاليبه، ورحت أغنّي:

(ومشيت تحت الشتا

والشتا روّاني

والصيف لمّا أتى

شعلل من نيراني

بيظل عمر الفتى

رهن للحرية).

وقلت :يا فاطمة اهتزّ فؤادي ورفا، وعن الفراش جنبي جفا، وغادر من عينيّ الكرى، وقضيت ليلي سهدًا أرقا.طاف قلبي بالغواني وبهن احتفى، قالوا وا حر ممن في قلبه كمد، ضاق به الحال واعتل الجسد، يا طائر الشوق الذي غنّى وردّد، وصداه في قلبي تردّد، هل كُتب أن يعذّب الحر ويضطهد، ويهمّش في زوايا النسيان ويبعد، ويكرّم السفيه ويمجّد، أرضي قفر وللمطر تفتقد، وسمائي بدموع الحر تتلبّد،

ارتفع موج أحزاني واصطخب، وعبّ نهري العذب العبب، ورأيت العجب، فقد أبعد الناس من تعلّم وتأدّب، وعلا شأن من سلّب ونهب، ومن للطائفية دأب، فالأمر صار لمن هبّ ودب، والسلام على من عانى وندب.

قالت: الحمدلله الذي خلقني حسنة التقويم، وجعلني أبهى في العين من الدر النظيم، وألبسني خلعة البياض، وجعلني بين البنات كالنور في الرياض، كساني بأبهى حلّة، وخصّني بأحسن خلّة.

أيها الناس إنا معشر إخوان، وعلى الخير أعوان، نعمل للخير، ونقصد لدفع الأذى والضير، قدرنا علا، وبرهاننا جلا، كل خبر خير عنا شاع، وكل معروف منا ذاع.والحمدلله الذي كانت الأكوان ثابتة بإثباته، وممحوّة بأُحديّة ذاته.

ثم صوّبت نحوي وقالت:يا صاحب المقامات (ما هام وهوى إلا الذي التذّ حين اكتوى)، واعلم أنّ تمكّن الهوى من القلب هو الداء، فانشغل عنه بالعلم النافع الذي يبسط للصدر شعاعه، وينكشف به عن القلب قناعه، فاتعظ بما نابك، وكاشف أصحابك ما أصابك، وتذكّر أبدًا ما دهمك، واظهر ندمك، فمن أنذر فقد أعذر، فما أساء إليك من نصحك، ولا أجرم إليك من أيقظك، و(متى أعطاك الله أشهدك بِرّه، ومتى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك، متعرّف عليك، ومقبل بوجود لطفه عليك).

فقلت:يامن تحملين بعضًا من سماتي وصفاتي، متى تفهمين معنى كلماتي، وتفكّين طلاسمي وتعويذاتي، وتصغين لحكاياتي ومقاماتي، فواقعنا أسير للتفاهات، قد خلا من الفضائل والحسنات، قد علته المصالح والأنانيات، حتى صار مزيجا من الأكاذيب والخزعبلاتِ، اقرأي حروفي وافهميها، ولحّني أسجاعي ورتليها، قد تفردتِ بالسحر والجمال، وتميزت بالعفة والدلال، وقد أطربني ما فيك من خلال، انظري ما زرعت من شتلاتِ، في الوادي الذي قضيت فيه حياتي، من الورود والرياحين والشجيراتِ، وما نشرته من البلابل والعصافير والحماماتِ، (كلها تغني وتنشد للوجود كناي الرعاة)، أو تبكي آلامي من زمان مضى وآتِ.

ثم ودّعتها وتشاغلت عن الجمع وتواريت،  ورتلت ما كان بيننا ومضيت.

 

أمين صباح كُبّة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم