صحيفة المثقف

رأي ودعوة

يسري عبد الغنيوبعد، يتضح من إشاراتنا المتكررة إلى مظاهر التجديد، أن هذه المظاهر على ما لها من قيمة، وعلى ما استتبعه من جهد كبير محمود من كبار الكتاب العرب الذين وصلوا الأدب العربي الحديث بالآداب العالمية، على الرغم من ذلك فإن الأدب الحديث عند العرب لم يتبع تياراً فنياً متكاملاً، واضح القسمات والسمات والمعالم، ولم تدعمها فلسفة تمثل الاتجاه الفكري للعصر الذي نحياه .

ولم يضع مؤلفو الآداب العربية نصب أعينهم جمهوراً خاصاً يشاركونه آلامه وآماله، ويؤمنون بمثله إيمانهم بذات أنفسهم، وتلك هي النواحي التي استحقت بها نزعات التجديد العامة الأوربية أن تسمى مذاهب أدبية أو فنية .

نقطة أخرى نراها على جانب كبير من الأهمية، ألا وهي حاجة الكتاب العرب للتعمق والإيمان برسالة الأدب القومية والوطنية، ودوره في البناء والتنمية والنهوض والارتقاء .

ثم تأخر النقد الأدبي الحديث في الساحة الأدبية العربية، وذلك لرزوحه تحت عباءة ما ورثه العرب من نقد قديم، أو لتشدق بعض النقاد بنظريات نقدية لا تتفق مع الأدب العربي، ولا مع الواقع الأدبي العربي بوجه عام .

وعليه فمن المطلوب من النقاد العرب أن يتابعوا كل المذاهب الأدبية والنقدية في العالم، وفي نفس الوقت عليهم أن يدرسوا النقد العربي في التراث العربي، ويتعمقوا فيه تعمقاً واعياً، بهدف الوصول إلى منهج حقيقي فاعل يجمع بين القديم والحديث، أو بين الوافد والموروث، مع مراعاة أن نأخذ من الوافد أحسن ما فيه، نأخذ منه ما يفيدنا وينفعنا، ويتفق مع قيمنا الأدبية والنقدية .

كما على أهل الفكر والأدب العربي أن يأخذوا بيد الجمهور إلى حب حقيقي للأدب والفكر، وإلى معرفة واعية بدور الأدب في التحديث والتقدم، وذلك عن طريق ما يقدموه من دراسات وأبحاث جادة وشيقة، تفيد الناس , وتعلمهم، وتوجههم إلى الذوق الراقي، وإلى التفكير الإنساني الرفيع، كما أن لوسائل الإعلام والتربية والتعليم دورها الكبير الذي لا يصح تجاهله في هذا المضمار .

لقد آن الأوان لأن يمهد الكتاب العرب للنضج الفني في دراساتهم الأدبية النظرية والتطبيقية، ويكون ذلك بدراسة المذاهب الأدبية الكبرى دراسة فاحصة متأنية واعية .

وفي الوقت الذي ندعو فيه الكتاب العرب إلى دراسة هذه الاتجاهات وبحثها، لا بد للمبدعين العرب من التأثر بها، وهذا أمر مشروع وطبيعي، وذلك إذا أراد أهل الفكر والرأي أن يوثقوا بين الإنتاج الأدبي وجمهور المتلقين توثيقاً حقيقياً تدعمه الفلسفة والفن، ليخرجوا من دراستهم الجادة بمذهب أدبي عربي أصيل يساير روح العصر الذي نعيشه، وبذلك يتلاقى كتاب العربية مع جمهورها في كفاح إنساني قومي عام، تتبلور فيه فلسفة مشتركة يصورها الكتاب المبدعين في أدبهم لترسخ في وعي الجمهور العربي .

وفي رأينا المتواضع : إن هذه فرصتنا لقيادة الوعي العربي إلى مثله العليا كي يتسابق للوصول إليها مع قادته عن قناعة تامة وصدق

نحن لا ننكر عملية التأثر، فهذا أمر لا يمكن إنكاره أو تجاهله، ولكن فرض التأثر بالقوة الجبرية أو النقدية تحكم لا نرضاه للأدب، أو للمشتغلين بالنقد الأدبي أو بتاريخ الأدب العربي .

إن هؤلاء جميعاً وغيرهم من الكتاب والشعراء يظلمون ظلماً بينا، عندما يتم إدراجهم تحت مذهب معين أو مدرسة معينة، فالتمذهب لم يكن في يوم من الأيام هدف واحد من الأدباء، فالأدب تجربة إنسانية، وليس صناعة، ويوم أن يحول الأديب أدبه إلى بوق يردد آراء أو أفكار مذهب معين، معنى ذلك أنه حكم على نفسه وعلى أدبه بالضياع والتلاشي، وبعد كل البعد عن روضة الأدب الإنساني الخالد .

فالمبدع قد يكون كلاسيكياً أو رومانسياً أو رمزياً أو واقعياً، أو من الذين يؤمنون بشعار الفن للفن، أو حتى وجودياً، بالطبع كل أديب حسب ظروفه التي نشأ وترعرع فيها، وإحساساته ومشاعره، فلو أن ظروف المعيشة تصادف واتفقت مع ظروف وأحوال الكلاسيكيين أو الرومانسيين، فإنه يصدر شعراً كلاسيكيا أو رومانسياً، دون أن يكون قد تأثر بهذا المذهب أو ذاك .

ويحكى أن أحد النقاد قابل واحداً من الأدباء فقال له في حماس شديد : لقد قرأت عملك الأخير، إنك أفضل من عبر عن البرناسية !!، فنظر إليه الأديب بدهشة تعبر عن عدم فهمه لما يقول، قائلاً له : أرجو أن تحدثني باللغة العربية .. !!

واعتقد أن ذلك الموقف يؤكد عكس ما ذهب إليه كثير من النقاد العرب من محاولة الربط بين الأدب العربي وبعض المذاهب الغربية الأدبية والفنية، وفرض التأثر بها على الأدب العربي وعلى الأدباء العرب، دون أن يكون الأديب قد تعمد ذلك على الإطلاق، ومن الممكن أن يكون غير عارف بهذا المذهب الذي نسبوه إليه .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم