صحيفة المثقف

ضمير اللغة ولغة الضمير الثقافي العربي الحديث (2-2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (2)

لقد توصلت في الجزء الاول من هذا المقال، إلى رسم طبيعة الحالة العربية في نهضتها الأولية في العصر الحديث، عندما تحولت اللغة العربية إلى الدولة الوحيدة المستقلة بعد انحسار العربية في الجزيرة وانحسار تجربة محمد علي باشا النهضوية

إذ كشفت اللغة (العربية) عن جمعية جديدة استقطبت الكلّ المجزأ، بغض النظر عن الانحدار العرقي والديني، وكشفت عن ذاتها باعتبارها مصدر عروبتهم. وأصبحت العروبة هي اللغة1، ولكن لا بالمعنى الإسلامي القديم، بل بالمعنى القومي الثقافي المعاصر. ولم يكن هذا المعنى جليا حينذاك، إذ كان من الصعب التأسيس المباشر له في منظومات فكرية، لأنه لم يتحول بعد إلى جزء من إشكاليات الوعي التاريخي المستقل. لقد كان هذا المعنى القوة المتحمسة في إحضار "الضمير الغائب" للعرب. من هنا الانهماك الشديد بإعرابه في اللغة باعتباره ضمير العربية الثقافية.

اتخذ إعراب الضمير الغائب صيغة إظهار عروبة اللغة. من هنا الاهتمام الجدي والعميق بقواعد اللغة ونحوها وصرفها. فقد كان أعلام النهضة العربية في الأدب والفكر والسياسة والتاريخ أعلام لغة أيضا. فالشيخ ناصيف اليازجي(1800 – 1871) على سبيل المثال، يؤلف كتبا عن (فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب) و(الجوهر الفرد) و(طوق الحمامة) وأرجوزة (لمحة الطرف في أصول الصرف) و(الباب في أصول الإعراب). ونفس الشيء يمكن قوله عن الطهطاوي(1801 – 1873) مؤلف (التحفة المكتبية)، والشدياق (1804 – 1887) مؤلف(الروض الناضر في أبيات ونوادر) و(غنية الطالب ومنية الراغب)، وبطرس البستاني (1819 – 1883) في (مصباح الطالب في بحث المطالب) و(مفتاح المصباح)، والشيخ إبراهيم الأحدب (1826 – 1891) في (إبداع الإبداء لفتح أبواب البناء)، والشيخ إبراهيم اليازجي (1847 – 1906) في (نار القرى في جوف الفرا) و(الجمانة في شرح الخزانة).

إن الاهتمام بقواعد اللغة وصرفها ونحوها يعني الاهتمام برفع ونصب وكسر وتسكين الروح الثقافي الناشئ. إذ لا يعني صرف اللغة سوى تصريف كيانها صوب ذاتها. أما نحوها فهو توجيهها المناسب نحو قواعدها التقليدية. وليست قواعدها التقليدية سوى الصيغة اللغوية لضميرها الغائب، لأن قواعد اللغة هي منطقها، ومنطقها هو نطقها السليم، ونطقها السليم هو تهذيب لسانها بالشكل الذي يجنّبها اللحن فيه، وتجنب اللحن كان يعني الخروج من العجمة، والعجمة آنذاك هي الهيمنة التركية أولا وقبل كل شيء. وبالتالي لم تكن سلسلة الخروج من العجمة بتجنب اللحن في التهجي وتهذيب اللسان بتعويده على نطق الكلمات وتحسس معانيها والتلذذ بشعور الانتماء إلى ما في بيانها من جمال ساحر سوى محاولة صرف تقليدية الانتماء نحو تقاليد الهوية العربية. لذا أصبح تقليد القدماء بعناوين مؤلفاتهم النموذج الجديد للرفعة الأدبية والذوق الجميل. فالطهطاوي يعنون كتابه عن آداب العصر والسياسة بعنوان (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية)، ويعرض بعض آرائه السياسية (التاريخية) بعنوان (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز)، والشدياق يعنون كتابه الشهير (الساق على الساق فيما هو الفارياق)، وخليل الخوري (1836 – 1903) يعنون أحد دواوينه الشعرية بكلمات (زهرة الربى في شعر الصبا)، ومحمد بيرم الخامس (1840 – 1889) يضع أحد مؤلفاته التاريخية بعنوان (صفوة الاغيار بمستودع الأمصار)، واحد كتاباته الجدلية (الثقافية) بعنوان (تجريد الأسنان للرد على الخطيب رينان)، وفرانسيس مراش (1836 – 1873) يعنون أحد مؤلفاته الفكرية الفلسفية بعبارة (شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة) و(المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية)، ويضع سليم البستاني (1848 – 1884) أحد كتبه بعنوان (الهيام في جنان الشام)، ويضع الشيخ إبراهيم الأحدب أحد مؤلفاته بعنوان (نشوة الصهباء في صناعة الإنشاء) و(كشف الأرب عن سر الأدب)، ويضع حسن حسني الطويراني (1850 – 1897) اغلب مؤلفاته الدينية والسياسية والأدبية واللغوية بصيغ مولعة بالسجع مثل (حجة الكرام في محبة أهل الإسلام) و(خلاصة الكلام في وجوب الإمام) و(إرشاد الخليل في فن الخليل) و(دلالة الشعر في مستقبل الأمر) وعشرات غيرها.

وأصبح تقليد القدماء ومحاكاة إبداعاتهم أسلوبا لاستنهاض نماذج الرفعة الأدبية، وبالتالي محاولة رؤية الأنا العربية المعاصرة بمرآة وجودها الأمثل. ولا يعني ذلك تقليدا أجوف للماضي، بقدر ما كان تعبيرا عن الثقل المتزايد للهوية العربية وضميرها الثقافي. إذ نعثر في تسمية (فصل الخطاب في أصول الإعراب) لناصيف اليازجي على صدى (فصل الخطاب) لابن رشد، وفي موجزه عن (الجوهر الفرد) على اثر المصطلحات الكلامية الفلسفية للقدماء. وينطبق هذا على عشرات المؤلفات المتنوعة. في حين تجري محاكاة القدماء بالأسلوب أيضا. حيث يجاري ناصيف اليازجي في (مجمع البحرين) مقامات الحريري، وكذلك يفعل الشيخ إبراهيم الأحدب في (مقاماته)، كما يحاكي الزمخشري في تجميعه وتنظيمه للبلاغة والإنشاء في كتابه (فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق).

أصبحت الكلمة والعبارة موضوع الاهتمام والولع الأكبر في مباراة ومباهاة الأدباء والكتاب والمفكرين جميعا. بحيث جعل اغلبهم رجال قواميس ومعاجم للغة. لكن هذه القواميس لم تكن جمعا تقليديا أو كميا للكلمات ولا ترتيبا أبجديا عاديا، بل ونقدا عصريا أيضا. فالشدياق يضع (الجاسوس على القاموس) ينتقد فيه الفيروزآبادي، ويضع بطرس البستاني (محيط المحيط) ومختصره (قطر المحيط)، بينما يتميز إبراهيم اليازجي هنا في (الفرائد الحسان من قلائد اللسان).

واستثار بعث اللغة ومفرداتها، بعث أصولها وتدقيق كلماتها في الوعي المعاصر. من هنا انهماك أعلام النهضة الأدبية بأمهات الكتب العربية في اللغة والأدب، كما لو أنهم أرادوا تعويض النقض الشديد في مواجهة شحتها في بداية الأمر. فقد شكا شيخ النهضة الأدبية ناصيف اليازجي من الصعوبات التي واجهها في بداية أمره للحصول على ما ينبغي الحصول عليه من الكتب. إذ لم تكن في مصر والشام حينذاك سوى بضعة مطابع صغيرة، رغم ظهورها في الشام منذ عام 1616 في دير قزحيا، وفي حلب عام 1686 (مطبعة اثناسيوس البطريق)، وفي عام 1734 مطبعة الشوير لصاحبها عبد الله زاخر، ومطبعة القديس جورجيوس عام 1751. غير أن هذه المطابع جميعا لم تهتم بما هو ضروري وأساسي بالنسبة للنهضة الأدبية واللغوية. ولعل مطبعة بولاق المصرية (1821) هي المبادرة الكبرى الأولى في تاريخ العرب المعاصر، التي وضعت أمام نفسها مهمة بعث أصول الفكر العربي. وتلتها المطبعة الأمريكية (1834) ثم الكاثوليكية (1855). إلا أن التدفق النهضوي بالمعنى العصري ترافق مع اشتراك بعض أعلام النهضة الأدبية أنفسهم في الطباعة، كما هو الحال بالنسبة لخليل الخوري مؤسس المطبعة السورية (1857) ويوسف الشلفون(1839 – 1896) في المطبعة العمومية (1860)، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس (1867). فقد طبع يوسف الشلفون على سبيل المثال، أكثر من ستين كتابا في مختلف الميادين (الفلسفية والدينية والتاريخية والعلمية والأدبية والفقهية). في حين أصدرت المطبعة الأدبية لخليل سركيس صاحب امتياز جريدة (لسان الحال) ومجلة (المشكاة) في غضون 18 عاما من تأسيسها ستمائة وخمسين كتابا بلغ عدد نسخها مليونا ومائة وتسعين ألف نسخة. ويعكس ذلك طبيعة الحالة الثقافية بشكل عام والعلمية بشكل خاص. إذ لم تكن في سوريا (الطبيعية) كلها حتى عام 1834 سوى مدرسة واحدة هي مدرسة عين طورا للآباء الليعازريين وكذلك المدرسة الأمريكية التي أسسها المبشرون الأمريكيون والتي جرى نقلها لاحقا إلى بيروت وسميت بالمدرسة السورية الإنجيلية، ثم المدرسة البطريركية التي تأسست عام 1865. وهي مدارس، شأنها شأن أمثالها، كانت عاجزة آنذاك، رغم كل إنجازاتها الكبيرة ومساهمتها الجليلة في التنوير، عن تأسيس منظومة مستقلة للرؤية العربية الثقافية. وليس مصادفة أن تتحول المدرسة الوطنية التي أسسها بطرس البستاني عام 1863، والمدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين التونسي عام 1875، والمدارس التي أسسها الطهطاوي وعلي مبارك في مصر إلى "مؤسسات" للرؤية الثقافية العربية المستقلة وروحها النهضوي والأخلاقي والأدبي والسياسي والقومي.

كل ذلك يكشف عن أن أعلام النهضة الأوائل نشطوا في ظل ظروف قاحلة. وهو واقع يفسر حساسيتهم الجسدية المباشرة في استنساخ وشرح وتحقيق ونشر أمهات المصادر العربية. إذ ينقل عن الشيخ إبراهيم الأحدب استنساخه بخط يده مما يقارب الألف رسالة وكتاب. في حين استنسخ رزق الله حسون (1829 – 1880) مؤسس جريدة (مرآة الأحوال) بخط يده أكثر من عشرين كتابا مثل (ديوان الاخطل) و(ديوان ذي الرمة)، و(نقائض جرير والفرزدق) و(صبح الأعشى) للقلقشندي، و(ديوان حاتم الطائي) وغيرها من الكتب. واهتم اغلبهم بالشرح والتعليق على دواوين الشعراء وكتابات الأدباء كما هو الحال بالنسبة لناصيف اليازجي في شرحه الذي أكمله لاحقا ابنه إبراهيم اليازجي لديوان المتنبي، كذلك ما قام به رشيد الدحداح (1813 – 1889) في نشره (لامية العجم) للطغرائي وكذلك لإصداره (فقه اللغة) للثعالبي وشرحه لديوان عمر بن الفارض وغيرها.

لقد كانت محاسن اللغة الهاجس الأعمق وراء الشروح التعليقات والنشر، وذلك بفعل جوهرية البحث عن النماذج المثلى للتقليد بالنسبة لأدباء النهضة. فعندما نشر بطرس البستاني، على سبيل المثال، (رسائل إخوان الصفا)، فانه أشار في مقدمته إلى أن رسائلهم تفتقد إلى التنسيق، وآراؤهم مفككة، منتشرة هنا وهناك، تتميز بالتكرار والمزج الغريب بين الفلسفة التقليدية والعلوم الرياضية والطبيعية بخرافات السحر والتنجيم وحكايات تشبه حكايات ألف ليلة وليلة. إلا أن من محاسن هذه الرسائل أنها كتبت بلغة أنيقة جذابة جميلة الصور والتشابيه، أي أننا نرى في موقفه هذا توجها يعكس في الإطار العام تغلغل قيمة الكلمة واللغة الجميلة في إحساس وعقل وحدس النهضة الأدبية. من هنا ملازمة اهتمام رجال النهضة الأدبية بالصرف والنحو والتحقيق والنشر وتأليف المعاجم والقواميس، وولعهم بالبديع والبيان والمعاني. فناصيف اليازجي يكتب (عقد الجمان في المعاني والبيان)، والشدياق يضع أجمل كتاباته في (سر الليال في القلب والإبدال)، وإبراهيم الأحدب يضع كتاب (كشف المعاني والبيان على رسائل بديع الزمان)، وإبراهيم اليازجي يصنف ألفاظ اللغة وتركيبها على المعاني في (نجمة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد).

ويأخذ الولع بالكلمة وتدقيقها طريقه إلى استثارة "روح الترجمة" وتعريب العبارة الأجنبية بالشكل الذي يستجيب لذوق العربية ونماذجها المثلى. فالطهطاوي يترجم (جغرافية ملطبرون) و(قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر)، وبطرس البستاني يترجم (تاريخ الإصلاح) ورواية (روبنس كروزي)، ويعّرب سليمان البستاني (1856 – 1925) إلياذة هوميروس بصورة خلابة. في حين انتقد الشدياق بصورة لاذعة الترجمات السقيمة وكشف عن أخطائها لكي يخلص العربية من اللكنة والتحريف والعجمة. وترجم رزق الله حسون أشعار كريلوف ولافونتين. ويصبح تعريب المصطلحات العلمية الحديثة من مختلف العلوم مجالا للمنافسة المبدعة بين رجال النهضة الأدبية ومترجميها. حيث تنفرد جريدة (برجيس باريس) لصاحبها الدحداح بنشر مساهمات التونسي سليمان الحرائري (1824 – 1871) الذي يعد من أوائل المهتمين، الذي كشفت اغلب محاولاته بهذا الصدد عن قدرة اللغة "الناعسة" بعد استفاقتها على رؤية ملامح الأبعاد الدقيقة لأحدث الإنجازات العلمية والتعبير عنها عربيا. وينطبق هذا على الكثير من المجلات والجرائد مثل مجلة (الطبيب)، التي استطاعت إدخال مئات المصطلحات العلمية الحديثة مثل مقياس الثقل والبكتيريا والسكوب. في حين ادخل الشدياق عبر  جريدة (الجوائب) كلمات الصحافة والجريدة والمجلة والمؤتمر والأسطول والباخرة والمنطاد والحافلة والأزمة المالية وكثير غيرها، أي كل ما أصبح عاديا في اللغة المعاصرة. ودعت (لسان الحال) لمؤسسها خليل سركيس أهل الأدب واللغة إلى وضع ألفاظا مرادفة للمصطلحات وانتخاب منها ما هو مجمع عليه بما يتوافق مع أوزان الأسماء العربية، أي توحيد المصطلحات المترجمة وتعريبها السليم.

لقد استثار هذا الإحساس المتنامي لتذوق العبارة والكلمة "هوس" اللغة تجاه كل ما بإمكانه أن يكون موضوعا للتندر والتأمل والتفلسف، وكل ما بإمكانه أن يكون موضوعا للجدل والإفحام والإثارة والاهتمام. فقد كانت (الجوائب) لفارس الشدياق كتابا مفتوحا للجدل اللغوي، الذي جعل من الصيغة الهجائية نموذجا مقبولا ومعقولا للجميع. بحيث لم تغفل وتستغفل كل من بإمكانه إثارة واستثارة الاهتمام باللغة والأدب. ولعل جدلها مع (برجيس باريس) للدحداح مثالا بارزا جعلت خشونة مواجهاتهما تدفعهما للاحتكام أمام الشيخ عبد الهادي الايباري واتخاذ كلمته فيصلا في الحكم. على أثرها كتب الشيخ الايباري كتابه (النجم الثقاب في المحاكمة بين البرجيس والجوائب)، والذي انتصر فيه( لجوائب) الشدياق. ولم تتورع (الجوائب) في تعزيتها عام 1871 بوفاة الشيخ ناصيف اليازجي،عن نقد بعض ما بدا لها خطأ في كتابه (مجمع البحرين)، مما اضطر ابنه الشيخ إبراهيم اليازجي للذب عنه على صفحات مجلة (الجنان). في حين كتب الشيخ سعيد الشرتوني سلسلة مقالات رد فيها على كتاب الشدياق (غنية الطالب ومنية الراغب)، جمعها في كتاب تحت عنوان (السهم الصائب في تخطئة غنية الطالب)، الذي جعل الشدياق يستنجد بالشيخين يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب، إلا أنهما أقرا مع ذلك بصواب بعض ما جاء به الشرتوني في انتقاداته. وأصبح إظهار خطأ الخصوم رديفا للانتصار. وشحذ هذا التوجه والاهتمام الروح النقدي للذهنية العربية، ومهّد لصيرورة وعيها النقدي العام في مختلف المجالات والميادين.

فقد كان "هوس" اللغة في أعماقه الصيغة المناسبة للتلذذ بالحرية المفقودة. فالكلمة الطنانة هي في الأغلب رد فعل على الفراغ، كما أن التأسي هو رد فعل على الفقدان. والعبارة الهائجة والمهاجمة هي احتجاج الإرادة المحاصرة بقيود القوة الكابحة. أما الولع بها فهو غلوّ على رخص الروح والجسد، والذي عادة ما تتقاسمه السلطة والمعارضة. ولم تكن المعارضة حينذاك سوى الصيرورة العربية المنهكة بقيود السلطة العثمانية الخائرة. الأمر الذي جعل من خورها جورا. أما الولع بالكلمة عند معارضيها فقد كان تعويضا ثوريا عن فقدان الحصانة. فاللغة تمّكن المرء من مهاجمة كل شيء فيها بها، وتعطي له في نفس الوقت إمكانية البقاء "حرا" ضمن اشد القيود ضيقا وتفاهة. فالمرء يستطيع فيها أن يكون "غاليا" بأرخص الأثمان. وهي المفارقة الحية للإبداع، باعتبارها الثمرة الطبيعية لظهور الضمير العربي المستتر. لا سيما وان لهذه الظاهرة تاريخها الخاص، ولكن لا في الذاكرة المسحورة للأجيال، ولا في خيالها المتقطع في تقاليد الشفاهة المتواترة، بل في خزائن الكتب العظمى. إذ كانت هذه الخزائن مثل آثار سومر وبابل وأهرامات مصر والسودان، التي يؤدي استقراؤها إلى إثارة العقل والخيال في إدراك قيمتها، مهما تلاعبت بها أيدي السرقة والضياع. لهذا شقت الكلمة طريقها إلى الضمير العربي الغائب، الذي أصبح بدوره الهاجس الأول والأخير للإبداع، بحيث تراكمت فيه قوى العقل والوجدان، كما تحولت اللغة فيه أيضا إلى ميدان العربدة والتعالي وابتزاز النفس. فعندما وضع رزق الله حسون ترجمته لأشعار كريلوف ولافونتين ضمن عنوان (النفثات)، والذي هاجم فيه فارس الشدياق، فان الأخير لم يتهاون في ردعه اللاذع شعرا

كان حسون لصا وله سرقات     فصار صلا وله "نفثات"

بل أصبحت اللغة نفسها موضوعا للإطراء والغزل. فقد كتب يوسف باخوس(1845 –1882) أحد المولعين بالعربية وصاحب كتاب (الهدية السنية لأبناء المدرسة الليعازرية في القواعد العرضية والنحوية) قصيدة عن محاسن اللغة العربية منها قوله:

للشعر في خطرات الفكر آمال

وللقصائد إعراض وإقبال

وللعروض بحار عمّ طالبها

طورا نداها وطورا خاب تسآل

وللمعاني إذا جادت بها درر

يزينها النظم لا فعل وفعّال

بيانها السحر من أسراره انكشفت

غوامض الحكم يروي سعدها الفال

أدى هذا "الهوس" المتسامي في العبارة والكلمة إلى توسيع أفق الرؤية العربية الناهضة. ووجد ذلك انعكاسه في أسماء المجلات والجرائد وانتحال الألقاب. فإذا كانت تسميات الصحف والمجلات الأولى واقعة تحت ثقل الذوق القديم كما هو جلي في (حديقة الأخبار) و(مرآة الأحوال) و(نزهة الأفكار)، فان الأخبار والأفكار تصبح أسلوبا لتعميق الرؤية نفسها في نهوضها الصعب من تحت ركام الكابوس التركي. حيث تأخذ بالظهور تسميات (لسان الحال) و(لسان الشرق) و(لسان الغرب) و(الصدى) و(المصباح) و(الفجر) و(العمران) و(الترقي) و(التقدم) و(التمدن) و(النهضة) و(الإصلاح) و(مصر) و(تونس) و(لبنان) و(القاهرة) و(دمشق) و(المشتري) و(بابل) و(الأهرام) و(الأزهر) و(الراشد) و(المأمون) و(فرعون) و(الزراعة) و(التجارة) و(الحقوق) و(العدالة) و(المساواة) و(الإخاء) و(الحرية) و(الحق) و(الحكمة) و(السلام) و(الأمل) وغيرها من التسميات. بمعنى تعمق الرؤية الزمانية والمكانية والمدنية والقطرية والقومية والثقافية والحضارية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والعلمية.

وقد كان ذلك هو القدر الضروري الأول في ترسيخ قواعد الرؤية العربية لبناء وعيها الذاتي المعاصر. فقد كان من الصعب آنذاك إدراك المعاصرة بروح المعاصرة نفسها لأن الوعي الاجتماعي نفسه لم يتكامل بعد ضمن إشكالاته الخاصة. إذ لم تكن إشكالاته الخاصة آنذاك سوى إشكاليات اللغة ومن خلالها تبلورت المعالم الأولية لوعي الذات. وكوّنت اللغة وإشكالاتها أسلوب رؤية الضمير الغائب في الوعي الذاتي. من هنا شدة رسوخ الاهتمام بقواعد اللغة وصرفها ونحوها، وتقليد القدماء ومحاكاتهم في الإبداع والعبارة، بحيث جعل الكلمة موضوعا للاهتمام القاموسي والبياني والمعنوي. واستثار ذلك بالحصيلة "هوس" اللغة و"بدعها" الأولية الضرورية لوعي الذات القومي. إذ تحولت اللغة وموضوعاتها إلى محور الاهتمام العربي بحيث أدى إلى عزل العبارة ومعناها عن الوجود التركي العثماني. ووجد هذا الواقع انعكاسه الوجداني الأول في قصيدة إبراهيم اليازجي (تنبهوا واستفيقوا أيها العرب)، التي كانت النشيد الحيوي الأصدق والأجمل والأدق لاستنهاض الضمير العربي الغائب.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

1-  وهي ظاهرة لها مظاهرها ومفارقاتها العديدة. ولعل تعمق عروبية النصارى العرب أحد نماذجها الخاصة. وليس مصادفة أن يكون أحد أوائل ممثلي العربية الثقافية واللغوية ناصيف اليازجي (1800-1871) وأحد نهاياتها ابنه إبراهيم اليازجي(1847 – 1906) بقصيدته اليائية. بمعنى تمثيلهما لمجرى قرن من الزمن في صيرورة العربية الثقافية ووعيها الذاتي (القومي). ووجد هذا الواقع انعكاسه أيضا في سلوك وأعلام النهضة الأدبية وغاياتهم. فقد كان ناصيف اليازجي تقليديا محافظا على عروبته في اللسان والمأكل والملبس والجلوس وسائر العادات. إذ كان يلبس العمامة والجبة والقفطان. ويروي تلميذه شبلي شميل عنه قوله "لو فقد الشاش لاعتممت بالمقطومة". وتجلت هذه المفارقة أيضا في أسماء الأعلام الأدبية. إننا نعثر في إفرنجية الأسماء مثل بطرس وفرنسيس ولويس وما شابه ذلك من مظاهر الابتعاد عن "العثمانية"، وأثر النصرانية الأوربية. واستثارت في نفس الوقت حوافر الرجوع صوب الانتماء العربي. ومن الممكن أن نتخذ من اسم بطرس البستاني نموذجا لذلك. فاسمه الكامل هو بطرس بن بولص بن عبد الله بن كرم بد شديد ابن محفوظ. أي أننا نرى في "حداثة" الاسم ابتعادا عن العروبة. وفي مظاهر سلوكه وشخصيته وإبداعه اقترابا منها وتجسيدا أدبيا رفيعا لها، يقترب في بعض نواحيه الأساسية من الإسلام الثقافي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم