صحيفة المثقف

إيقاعُ أُغنية (واذا يعني!)

عبد الرضا عليمُنذُ سنتينِ وهذا الشيخُ يعاني أسقاماً عديدةً منعتهُ من إكمال مشروعهِ الثقافي ـ الذي كان يحلم بإنجازهِ قبل الرحيل ـ وعرقلتْ متابعتَهُ لما يصدرُ من إبداعٍ حريٍّ بالتحليلِ، والتفسير، والتقييم، وصارَ يخجلُ من نفسِهِ التي لم تعُدْ قادرةً على إقناعِ أصحابِ المروءةِ من الرموزِ الإبداعيَّة بِـقِلَّـةِ تركيزهِ، وتشتتِ ذاكرتهِ.

فإلى جانبِ ما يعانيه من ارتفاعِ في الكولسترول، ونقصٍ في فيتامين B12، وارتفاعٍ في السكَّري، فإنَّ التهابَ المفاصل الحاد يزدادُ يوميَّاً، حتى أضحى لا يستطيعُ المشيَ أكثر من مئتي مترٍ.

لكنَّ ازديادَ الارتجافِ جعله يظّنُّ أنَّ الزهايمر بدأ يقتربُ منه، والدليل ارتجافِ أنامله في كتابةِ ردودِهِ، وتعقيباتِهِ، و رسائلهِ إلى الأصدقاء الحانين، فضلاً عن أنَّهُ يكتبُ بإصبعٍ واحدةٍ، ويجعل إصبعاً أخرى من اليد الثانية لضغط (الشفت.) وهذا ما يؤخرُ تعقيباته، ومداخلاته.

ومع هذا فإنَّ ضعفَ البدن وأسقامَهُ أضعفا قلبَـهُ، وليَّنا وجدانَهُ، وزادا في ترقيقِ عواطفِهِ، فأضحى لا يقوى على سماعِ أيّ كلامٍ شجيٍّ مؤثِّرٍ إلاَّ ويجد مآقيَهُ تبتلُّ بالندى، ثمَّ تذرفانِهِ دونَ استئذانٍ، وهذا ما حصلَ له، وهو يستمعُ إلى الملحّنِ جمال كريم وهو يؤدّي غناءً (واذا يعني كُبَرنه احنه) التي صاغها المرهف الكبير جبّار الميَّاحي.

فهذه الأغنية التي تحمل ألواناً من الشجنِ، والحزنِ، والغمِّ، والنواح قد جعلتْهُ راغباً في الكلامِ على وحدتِها الإيقاعيَّةِ التي تماهتْ مع ما وضعه لها جمال كريم من صوتٍ موسيقيّ مناسب.

***

إيقاعُ (واذا يعني) جرى على وزنِ الهزجِ:

مفاعِيلُنْ مفاعِيلُنْ ... مفاعِيلُنْ مفاعِيلُنْ

ومن المفيد هنا أن نذكرَ أنَّ هذا الشيخَ السقيمَ يؤيّدُ ما ذهبَ إليه الدكتور عبد الله الطيِّب المجذوب، وغيره من الباحثين العروضيين من أنَّ (الهزج) ضربٌ من الوافرِ المجزوء وليس ببحرٍ قائمٍ بذاتهِ ⁽¹⁾.

كما أنَّهُ يوصي قارءهُ الكريمَ بوجوبِ الانتباهِ إلى اختلافِ التقطيع في الشعر الرسمي عنه في الشعبي، فالرسمي (المكتوب بالفصحى) تكون معياريَّةُ تقطيعه على الحركات والسكنات كتابيَّاً، في حين تكونُ معياريّة تقطيع الشعر الشعبي ـ أوالزجل، أو الملحون، أو العامّي سمِّهِ ماشئت ـ على التناغم الصوتي سمعيَّاً للشطر الموقّع (أي الهارموني التوافقي) لأنَّ في الشعبي يتداخل أحياناً حرفانِ معاً، أو يتمُّ إدغامِ حرف بآخرَ مجاورله، وهذا مالا يحصلُ في الرسمي إلاّ في همزات الوصل تحديداً، فمثلاً لو قطَّعْتَ كلمة (وإذا) في الرسمي على الحركات والسكنات لكانت:

وإذا = ///0 = فَعِلُنْ

أي ثلاثة متحرّكات فساكن، كما في شطر البيت الآتي:

(وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها)، فإنَّ تقطيعه يكون:

[///0 //0 _ ///0 //0 _ /0/0 //0]

مُتَفاعِلُن  مُتَفاعِلُن  مُسْتَفعِلُنْ

لأنَّ همزة إذا هي همزة قطع، لكنّكَ حين تقطّع (اذا) الشعبيّة على المعيار السمعي الصوتي، فإنَّ الهمزة تتحوَّل إلى همزة وصل، فتختفي صوتيَّاً كما في:

[واذا يعني] = //0/0/0 = مفاعيلُنْ

كما أنَّ هذا الشيخ يُنبِّهُ إلى أنَّ بعضَ الزحافات التي تردُ في الرسمي قد يزدادُ ورودها في الشعبي كما في (الأخرم) أو (الأقصم) الذي يعرّفُهُ أبو الحسن العروضي بقوله: (وأمّا الأقصم فكلُّ جزءٍ سقطَ أوَّله بعد سكون خامسهِ نحو مفاعيلُنْ في الوافر حتى يصير مفعولُن.)⁽²⁾ . فـ (مفعولُنْ) هي عينُها (فاعيلنْ)، وسقوط هذا الحرف يرد كثيراً في الأغاني الشعبيّة المكتوبة على الهزج أو مجزوء الوافر المعصوب.

ومن المستساغ هنا أن يذكّرَكم هذا الشيخ المتعب إلى أنَّ بعضاً من أجمل الأغاني العراقيّة قد جرت على إيقاع الهزج كما في:

1 - أغنية (أفز بالليل) للراحل ستار جبار ونيسة [ 1946- 1991] التي كتبها علي العظب (ونُسبت أيضاً إلى هادي جواد الشربتي دون أنْ يتحقَّق هذا المتعب من التسمية):

أفز بالليل نصِّ الليل واهجس نار بضلوعي

مفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ  مفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

2 - أغنية (ولو تزعل) لـ صوت الأرض ياس خضر التي كتبها داود الغنَّام، ولحَّنها نامق أديب:

 

ولو تزعل ولو أدري العتاب يعذّب الخاطرْ

مفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ  مفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

3 ـ أغنية (المگيَّر) لصوت الأرض أيضاً ياس خضر التي كتبها المرحوم زامل سعيد فتاح (1941 ـ 1983م) ولحنها الراحل كمال السيّد (1944 ـ 2001م):

أروح أويا للمگيَّرْ أودعنَّهْ

مفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ مفاعيلُنْ

أخيراً، فقد ارتأى أن يضع لكم رابط الأغنية بعد انتهائكم من قراءةِ نصِّها الكامل مقروناً بتقطيع الكلام صوتيَّاً، راجياً أن تستمتعوا بالشجن الذي صاغه مؤديها، وملحنها الذكي جمال كريم، وما كان في كلامها الذي بنى نسيجه المرهف جبار الميَّاحي من صياغة جعلت المحذور، والمستهجنُ عُرفيَّا مقبولاً على صعيد الجمال الفنّي، وتلك هي المفارقة المدهشة.

***

واذا يعني كبرنه احنه... بعدنه كلشي ما شفـنه

مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ... مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

 

عدنا گلـوب مـا تكبرْ... يموت الگلبه مو أخضرْ

مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ... مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

ومنهو الگالَّكْ متْـنه ؟

مَفاعيلُنْ فاعيلُن = مفعولُنْ

 

واذا لوَّن شعرنا الشيب...الحب بأي عُمُرْ موعيبْ

مَفاعيلُنْ مَفاعيلانْ... مَفعولُن مَفاعيلانْ

نريد انعيـدْ كلْ لحظه... ترفـه ارواحنا وغضَّه

مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ... مَفعُولُنْ مَفاعيلُنْ

دفُو تـنْگـطْ سوالفـنه

مَفاعيلُنْ  مَفاعيلُنْ

 

واذا گـالوا تِصابـينه...كُـفر يعني احنا حبِّـينه

مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ... مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

فرقْ بينا احنه من نعشگْ...مثل كاشانْ منْ يعْتَگْ

مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ... مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ

بـسْ جـيبِ اليثمِّنَّه

مَفعُولُنْ مَفاعيلُنْ

***

عبد الرضا عليّ

....................

وهذا رابطها:

https://www.youtube.com/watch?v=FMw-ECBdva8

إحـــــالات

(1) يُنظر: المرشد إلى فهم أشعر العرب وصناعتها ج1: 111، والإيقاع من البيت إلى التفعيلة للدكتور مصطفى جمال الدين، ص: 110، و الثريا المضيَّة في الدروس العروضيّة لمصطفى الغلاييني، ص: 34، ط3، وغيرها.

(2) الجامع في العروض والقوافي، 215، تح: د. زهير غازي زاهد، و هلال ناجي، ط1 دار الجيل، بيروت 1996م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم