صحيفة المثقف

شمس ما تحتضن ذاك العفن

امان السيد حقائب سفر ملقاة مثل تماسيح، كبيرة وصغيرة. لا اريد أن أحصيها، ولا أن أتوقف عندها. أتعثّر بها وقد تَفرفد الغبار فوقها، هناك عنكبوت أيقظته حين نشلتُها من المستودع السفلي. أثق أنه لعنني وقد نبّهته من أبديّته. أتساءل: من العنكبوت حقا، أنا أم هو، ولماذا أملك أكثر من حقيبة سفر؟! يأتي الجواب بارزا مثل عيني ذاك التمساح: أنت بالطبع.. أيتها المترامية في شعاب الرحيل، متى تهدئين، ومتى تنفضين عنك ذاك الصقيع؟!

شمس ما تشرق من بين طحالب غيوم، باهتة كما لم أحبها مرة، تلقي علي نظرة سخيفة، ثم لا أعود أعنيها. يحضرني شاربا صديقي الكردي الثمانيني، وهما ينتصبان لأعلى متحديين الحياة. أليس العمر أرقاما على دولاب الحظ، أنى توقّف ابتسمت له الحياة، وأنى استمر، يظل ينتظر تلك الابتسامة؟!

صديقي ذو الشاربين المنتصبين لا يكترث لتفاصيل الحزن مثلي، لم أره مرة إلا يضحك، يلقي النكات دفعات، يلاحقني بفيديوهات للصبايا، سُلّم التقاعد ليس في دائرة اهتمامه مطلقا، هو سعيد، نضر، أبيض من اللبن مُزج بالحليب، وأنا أتعثّر بمصاطب التّساؤل، وأخلّي أغلبها عقيما!

أسترق نظرة من ذاك التّمساح الأحمر المغضّن أمامي يجلس في انتظار أن أنتشله، وأفتح فاه، وألقي بأمتعتي، ليرتوي. إنه مثلي تعرّف الرّحيل، والتّنقل، وتلعثم في الموانئ حتى غدا مقامرا صنديدا، ليس لديه أدنى فرق بين الرّبح والخسارة!

اعتدت في مثل أحوالي أن أتمتِم بدعاء ما أشعر بأني أفتح به ما استغلق عليّ من أبواب كسلي، وبرودي الذي يجتاحني عادة بين الفينة والأخرى. قد يكون نوعا من شحن الطاقة، أسمع صوتا ما يهمس، ولكن أنا الوحيد الذي يدري سره. إنه العبث، والتّعابث، فقد أضعت أزرار الدهشة منذ أزمان بعيدة!

ومثل دبّ قطبيّ أنغمر في فرائي، ويتشكّل كثير من الدّهن فوق جلدي، أناشد به البرد أن يتوقّف عن نخر عظامي، أصمِتُ كل ما حولي، بودّي لو أستطيع خنق الهواء، أو زقزقة طير غير بعيدة، حتى نبض قلبي، لعلي أكتشف شيئا جديدا ينبت من الصمت الذي يبتلعني.

أنغمس منذ أزمان في فقر مُدقع الأحاسيس، لا أشعر بأنّ عالم الذّكر يعنيني، ولا عالم المترفين يعنيني، ولا عالم المبهورين، ولا المقموعين، ولا النّسوة المتلذذات بالتغيير، وتشكيل وجوههن، وأجسادهن بطريقة مقززة أشبه بالنحت في أكوام من العفن. أمشي بلا رجلين، ولست أحسن السباحة، لكني أتجوّل مثل طاحونة استمرأتِ الماء، وضجرته، فاتجهت إلى القبلة تصلّي، وتندب حظها..

أهتزّ بجسدي مثل درويش صوفيّ، أتحسّس قلبي، أعتقد أنه كان لي قلب ذات يوم، تدخل يدي في فراغ يلهث، ومع ذلك أكمل الرقص. الله يريد قلبي. أسمع من يذكرني، ولكن يا الله، ما حيلتي بالفراغ الذي تسبح فيه كفي؟!

أكمل الرقص، يلتفّ بي ثوب أبيض يتحوّل إلى مظلة جميلة زنّارها ورديّ، وقبضتها نهايات أطرافي، فأتذكّر أني لست ذاك النورس البحري..

أنا فقط علي أن أرتّب لسفر ينفر من الخواتيم..

***

أمان السيد

3-12-2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم